وإذ لم يبق دون المدينة إلا يوم واحد اعتزلا الركب وانفردا عنه يذلوليهما يستعجلان الطريق . ولاحت لهما معالم المدينة فلم يملكا دمعهما فرحا ، واستيقظت فيهما ذكريات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه وجهادهم فى سبيل الله حتى ظهر دينه على الدين كله .
وأقبل أحد يتهلل ! فتهلل قلباهما له ، وروى ابن سهيل لصديقه قوله عليه الصلاة والسلام فى أحد " هذا جبل يحبنا ونحبه " .
فأخذت عبد الرحمن حورة من الطرب كأنه لم يسمع هذا الحديث إلا تلك الساعة من ابن سهيل وما كان الأمر كذلك وإنما أثار الحديث ساعتئذ فى نفس عبد الرحمن شيئا لم يكن يثيره من قبل فحاله جديدا عليه وليس بجديد . فقد شعر عبد الرحمن فى تلك الساعة كأن أحدا ليس جبلا من صخر أصم ، ولكنه مخلوق حى يتنفس ويشعر ... ... ويحب !
ذكر عبد الرحمن الحب فذكر سلامة ونظر إلى الجبل الحبيب فود لو استطاع فاحتضنه ؛ وجاشت نفسه بصور من المعانى وعاها قلبه وقصر عنها عقله ولسانه ! هذا جبل يحنو على المدينة ويرعاها كأن الله أقامه ليحرسها ، وفى المدينة محمد حبيب الله وحبيب المسلمين ، وفى المدينة شخص آخر يحب عبد الرحمن ويحبه عبد الرحمن ... فيا أيها الجبل الحانى على المدينة ما أحناك علينا ؛ وما أحبنا إليك وأحبك إلينا !
وأخذا يسيران على مهل بين النخيل والزروع فى ضاحية المدينة كالمشفقين على ذلك الطريق الوادع بين الماء والظل أن يقصر أمده ، أو كالمتهيبين دخول مدينة الرسول !
حتى إذا أشرفا على الديار خفق قلباهما ، ونظر كلاهما إلى الآخر كأنه يقول له : ها نحن أولاء قد وصلنا .
وتنهد عبد الرحمن وقال : ما رأيت المدينة يوما ما أجمل منها اليوم ! فقال ابن سهيل : لا تقل هذا ويلك عن طيبة ، فهى أبدا جميلة ! فقال عبد الرحمن : صدقت يا ابن سهيل ، ولكنى لا أدرى لماذا أراها اليوم آنس مما كنت أراها من قبل .
فابتسم ابن سهيل وقال له : الآن فيها سلامة ؛ فسكت عبد الرحمن هنيهة ثم أشار إلى الجانب الغربى من المدينة وقال : إنى أجد نفسها من هذا الجانب ! قال ابن سهيل : أبشر يا عبد الرحمن فسنراها قريبا . فاندفع عبد الرحمن يقول : وافرحتاه ! ليت شعرى أتعود إلينا سلامة ؛ أيرضى مولاها أن يبيعها لنا ؟
فقال ابن سهيل : لم لا ونحن عارضون عليه ضعف المال الذى اشتراها منا به ؟ وقد بلغنى بعد أن من دأب هذا الرجل أن يشترى الجوارى فيعلمهن الغناء حتى إذا برعن فيه باعهن بأثمان كبيرة .
ودخلا باب المدينة ، وأخذا يجولان فى شوارعها حتى وفقا على دار ابن أبى عتيق ، فنزلا عن ذلوليهما ، وأستأذنا عليه ، فخرج لهما رجل كهل حسن الهيئة ، فما إن رأى ابن سهيل حتى اندفع إليه يعانقه قائلا : أهلا بابن سهيل ، مرحبا بالصديق الكريم ! ثم صافح عبد الرحمن وقال لابن سهيل : من هذا الشريف الذى معك ؟
قال ابن سهيل : هذا صديقى عبد الرحمن بن أبى عمار . قال ابن أبى عتيق : القس ! أهلا بك وبه ... هيابنا إلى المنزل . فقال ابن سهيل : لا نريد أن نثقل عليك يا ابن أبى عتيق . قال ابن أبى عتيق : لا والله لا تنزلان إلا عندى . قال ابن سهيل : شكرا يا ابن أبى عتيق ... ألا تدلنا على دار ابن رمانة ؟ .
قال ابن أبى عتيق : لعلكما تريدان أن تريا سلامة ؟ قال ابن سهيل : هو ذاك . فقال ابن أبى عتيق : إذا نذهب معا لسماعها فى مجلسها بعد العصر . فاعترض ابن سهيل قائلا : ولكنا لم ندع إلى هذا المجلس فلن نحضره . فقال ابن أبى عتيق : إنه مجلس يحضره من شاء من أهل المدينة بغير دعوة .
قال ابن سهيل : كيف ذاك ؟ فأجابه ابن أبى عتيق قائلا : إن ابن رمانة رجل تاجر يحب المال ، فهو يعقد لجاريته مجلسا فى كل أسبوع يحضره من يشاء ليشتهر أمرها فيبيعها لمن يعلى له الثمن .
خفق قلب عبد الرحمن عند سماع هذا ، وبرقت أسارير وجهه ولم يتملك أن قال : إذا فهو يريد بيعها ؟
قال ابن أبى عتيق : لا شك ... وهذا أسلوبه فى التجارة ... ونظر إلى ابن سهيل قائلا : كأنى بك جئت تسترجعها يا ابن سهيل . قال ابن سهيل : ذلك ما جئنا من أجله . فعز هذا على ابن أبى عتيق ، إذ كان قد سمع بما بعث الخليفة لشراء سلامة ، ولكنه آثر أن لا يفاجئ صديقه بهذا النبأ ، وأن يتركه حتى يعلم ذلك بنفسه من ابن رمانة ، فقال : أما والله إنها لجوهرة لا تصلح إلا لك !
قال ابن سهيل : الا نذهب إليه الآن لنكلمه فى شأنها ؟ قال ابن أبى عتيق : لا ... ليس الآن ... حتى تستريحا وتزيلا عنكما غبار السفر ، فإذا كان العصر شهدتما مجلسها فقابلتها ابن رمانة .
قال ابن سهيل ، ولكن لا نريد أن يعرفنا أحد فى المجلس . قال ابن أبى عتيق : لكما على ذلك فاعتمدا على . وأمر ابن أبى عتيق غلمانه بادخال خرجيهما ، والعناية
براحلتيهما ؛ ودخل بهما المنزل ، فتغديا وصليا الظهر واستراحا ، حتى إذا كان العصر اغتسلا وخرجا مع ابن أبى عتيق إلى المسجد ، فشهدوا الجماعة ثم خرجوا يقصدون دار ابن رمانة .
وأشرفوا عليها فإذا دار كبيرة تحيط بها حديقة غناء ، وإذا فناء واسع تحت الدار قد نصب فى وسطه حجاب كثيف يجلس فى جانب منه الرجال ، وف الجانب الآخر النساء يأتين إليه من باب خاص بهن .
وكانت سلامة قاعدة على كرسى موضوع بين الجانبين ، بحيث يراها الرجال والنساء وعليها حلة لازوردية ، وأمامها منضدة تضع عليها العود والشراب . وكان الناس قد دخلوا أفواجا فقعدوا على الأرض المفروشة بالطنافس ، وغص المكان بالحاضرين ، ولا سيما جانب الرجال .
وبدأت سلامة تعالج عودها وتشد ما ارتخى من أوتاره . وكانت امرأة تقول لأخرى جاءت وجلست بجانبها : أهلا بك يا عافية ؛ ما جاء بك ؟ إنى لم أرك هنا قبل اليوم فأجابتها صاحبتها بلهجة شاكية : لا تسألينى يا خديجة ... جاء بى هنا ما جاء بك ... لقد تزوج على امرأة أخرى وهجرنى فجئت أتسلى بغناء سلامة ؛
فقالت المرأة ؛ أيهجرك بعد ذلك الحب كله ؟ فتنهدت صاحبتها وقالت : هذه قسمتى يا خديجة ؛ وكان رجل من الحاضرين يكلم صاحبه ويقول له : حقا والله إن سلامة لنعمة من الله على أهل طيبة ... إنها تسلى همومهم وأحزانهم .
فقال له صاحبه ؛ لكنها لن تدوم لنا ... لقد بلغنى أن رسل يزيد بن عبد الملك قد جاءوا لشراثها من ابن رمانة . فقال الرجل : لا حقق الله ما تقول .
قال صاحبه : إنى سمعت ذلك من بعض الرجال الذين لهم صلة وثيقة بابن رمانة . وكانت سلامة قد بدأت تغنى ، فسكت الناس كأنما على رءوسهم الطير يستمعون إليها وهى تقول :
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ؟
وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر !
ألا ليت أنى حين سارت بها النوى
جليس لسلمى كلما عج مزهر
ودخل ابن أبى عتيق وصاحباه فى تلك اللحظة ، فجلسوا فى أخريات الناس ، وذلك عندما كانت سلامة تقول : فيا راكبا إما بلغت لطبية وضمك واديها الأغر المنور فخذ ربوة واقرأ تحية عاشق له فى معانيها من الإنس جؤذر! فهمس ابن سهيل لعبد الرحمن قائلا : إنها أبياتك يا قس . فقال عبد الرحمن : بأبى هى وأمى !
فأسر إليهما ابن أبى عتيق قائلا : إنها مولعة بهذه الأبيات تغنيها دائما ، وهى أحب أغانيها إلى أهل المدينة . وغنت سلامة وقد خالط صوتها البكاء : أقول لقلبي كلما زاد خفقه إلام يعنيك الأسى والتذكر ؟
تصبر، فصاح القلب عنى احتملته بصبر فما يجدى على التصبر ؟
فطفق النساء يبكين وتعالى النحيب من جانبهن . وغلب عبد الرحمن الوجد حتى كاد يغشى عليه ، فأخذ ابن سهيل يسنده أن يقع على الأرض وهو يقول له همسا : تشدد يا عبد الرحمن ولا تفضحنا فى الناس ، انهم بدأوا ينظرون إلينا .
وغنت سلامة بصوت قد براه الشجى فكاد يبيد :
خذا الزاد ياعينى من نور وجهها فما لكما فيه سوى اليوم منظر !
غدا تتعبان الجيد طول تلفت فيعى ويطغى المدمع المتفجر !
تريدان فى وجه الجبهة نظرة ومن دون مثواها جمود وأغور !
ولم يقو عبد الرحمن على احتمال ما به ، فشهق شهقة لفتت أنظار الناس إليه وهو يبكى ويترنح ، وقد ثقل على ساعد ابن سهيل حتى كاد يرضه ، واحمر وجهه وجحظت عيناه ، وأخذتا تميلان إلى مصدر الصوت ، فما إن أعادت سلامة قوله : خذا الزاد ياعينى من نور وجهها فما لكما فيه سوى اليوم منظر !
حتي استوى علي ركبتيه متطاولا وجعل يحدق في وجه سلامة وعيناه زائغتان ، فلحظته سلامة فعرفت وجهه ، وعرفت ابن سهيل إلى جانبه والتقت عيناه بعينيها ، فوقع عبد الرحمن على الارض مغشيا عليه .
فقال ابن سهيل : أعنى يا ابن أبى عتيق لنحمله إلى المنزل . فنهض ابن أبى عتيق مع ابن سهيل فحملا صديقهما الشاب وخرجا به والناس ينظرون اليهما .
وتغير وجه سلامة وارتعشت أطرافها وأحست كأن الارض تدور بها ، فأشفقت أن يراها الناس كذلك ، أو أن يغمى عليها فى الندى ، فقامت من كرسيها ودخلت باب الدار مسرعة .
واضطرب المجلس وسأل الناس بعضهم بعضا عن الحادث حتى ارتفع اللغط .
ورؤى صاحب الدار يجرى منطلقا فى إثر ابن أبى عتيق وابن سهيل حتى أدركهما عند باب الحديقة فاستوقفهما وقال فيها : هلما . إلى الدار لنعالجه
فأجابه ابن أبى عتيق قائلا : سنعالجه فى دارنا فتثبت بهما ابن رمانة قائلا : لا والله لا أدعكما تخرجان به من هنا فيقضى فى الطريق .
فما كان منهما إلا أن نزلا على رأيه فقادهما إلى الدار من طريق آخر وانقض الناس منصرفين ، وأخذ الرجال يخرجون من بابهم والنساء من بابهن وهم يتساءلون عن الحادث ، ويروى بعضهم لبعض ما رآه أو ما سمعه : - إنه القس عاشق سلامة - القس الذى سميت سلامة به ؟ - نعم هو . - ويحه ما أتعس حاله ! - حملوه مغشيا عليه . - أما رأيت سلامة كيف اضطربت لما رأته ؟ - نعم انها هي الاخرى تحبه ! ( يتبع )
