الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 296الرجوع إلى "الثقافة"

سلطان العادة

Share

في ظهر يوم من أيام الصيف ، وقد اشتدت حرارة الجو ، وأخذت الشمس تقذف الأرض بالهب ، ترك الفلاحون أعمالهم ، وأسرعوا إلى الأشجار الوارفة يتفيأون ظلالها ، ويتمتعون بالراحة ليستأنفوا العمل وقد عاد إليهم النشاط . في هذا الوقت كنت لا تري في الطريق المتعرجة التي تؤدي إلي القرية مارا ولا تسمع حركة : فقد هدأ كل شئ وسكن . الهم إلا فارسا عند مدخل القرية قد استحث جواده ، يخيل للناظر إليه أنه يود لو أمكن أن يستعير جناحى طائر ليصل إلى بغيته في مثل لمح البصر . بدل مظهر هذا الفارس بملابسه الإفرنجية على أنه موظف حكومي . وإذا أنعمت في النظر طالعت في عينيه إشعاع الجد والصرامة ، وقرأت في ملامح وجهه الحزم والعزم .

وما أن وصل باب " أوس " الملازم حتي أخذ بطرفه بشدة ، وينادي بلهجة تنبىء عن خطر المهمة التي وكلت إليه . وبعد هنيهة انفرج الباب عن الملازم الذي أخذ يسأل الطارق في كثير من الاهتمام عند أمره ؛ فسلم له الفارس أمر المحافظة ، وهو يقضي علي الملازم بأن يضاعف من جهده ، ويشدد من رقابته بث العيون والأرصاد في منطقة نفوذه ، حتى لا يجتاز احد الحدود إلي خارج القطر ؛ فقد اختفي أمس صحفى شاب طعن الحكومة طعنا مرا في كثير من مقالاته . والراجح أنه وطد العزم وعقد النية على الفرار ، والحكومة جادة في القبض عليه ، مهما كلفها البحث عنه من نفقات .

نكس الملازم رأسه مفكرا ، ثم قال : ولكن يا عزيزى هل تتأكدون أنه لم يخرج من البلاد للآن ؟ فأجابه الفارس : وهل في استطاعته أن يبلغ الحدود في ليلة واحدة ؟ أنه اختفي ليلة أمس فقط ، ومن غير المعقول أن يأخذ الطريق إلى الحدود نهارا ، وهو على يقين أن الحكومة تضاعف الجائزة لمن يسلمه إليها .

- إن كان الأمر كما ذكرت ، فلن ندع أحدا يعبر الحدود ولو فعل المستحيل . ثم ألح على الفارس في شهامة وكرم أن يدخل ليستجم نشاطه ، ويريح جواده الذي أنهكه التعب ؛ فاعتذر إليه بأن المأمور في انتظار عودته لا تخاذ ما يلزم من التدابير للقبض على الهارب . فقبل أوس منه هذا العذر ، وودعه وداعا حسنا بعد أن كلفه أن يبلغ المأمور بأن يغمض عينيه مطمئنا من ناحية ، ثم أشار إشارة الواثق بنفسه إلي الأراضي الواسعة حوله وقال : لن يسلك الهارب هذه الفجاح ما دام في جسدي عرق ينبض . صحبتك السلامة ، ورافقك التوفيق!!

وبعد أن عاد الفارس نادي الملازم ابن أخيه " ميراش" وكلفه أن يجمع الحراس ويأتي بهم إليه في غاية السرعة ، وأن يمر في طريقه ب " دود " و " نيقولا " ويطلب إليهما أن يتركا العمل ويسرعا إلي البيت . فمضى ميراش مسرعا لفضاء المهمة التي كاف بها -

عمد الملازم إلي ملابسه العسكرية فارتداها ، وكانت تلك عادته إذا كلف بمهمة رسمية ، وإلا فهو في حالته العادية بملابسه المدنية يقوم بأعماله الخاصة . ولو قدر لك أن تراه في فناء داره ينتظر قدوم رجاله بملابسه الرسمية لرأيت رجلا قصير القامة ، مستقيمها ، عريض المنكبين ، واسع الصدر ، ينبعث من عينيه بريق القوة ، ويوحي إليك مظهره ، وهو متسلح ، بكثير من الشجاعة والشهامة . بدت على فوديه بوادر الشيب ولكن له حزم الشباب .

وهو يتمتع بنفوذ عظيم في المنطقة التي هو فيها ، مرهوب الجانب ، مسموع الكلمة ، ليس لآمره مرد . وقد استطاعت الحكومة ان تستغله لصالحها فعينته ضابطا احتياطيا وأمطرته بالمال ، وضاعفت له الجوائز . وهي بهذا العمل قوت من سلطانها ، وأ كبرت من شان قوانينها في دائرة نفوذه ، فلم تسمع بسرقة حدثت ، ولا بمخالفة للقانون ارتكبت . يحيط به رجال يبتسمون الموت ما دام فيه رضاء ؟ وها هم قد أسرعوا مدججين بالأسلحة يتسابقون لتلقي تعلماته عند ما يلقهم " ميراش " أمره .

شرح لهم دواعي الاجتماع . ثم عقب بقوله : ترون الآن أن هذا يوم في مثله تعرف الرجال . سوف لا تذوق للنوم طعما حتى لا يعبر أحد الحدود دون الإطلاع على أحواله .

بالأوس من داعية ! لم يكن هناك من يضارعه علما بالمرات الحقية ، التي منها يستطيع الإنسان القرار إلي خارج القطر . ولقد اكتسب هذه المعرفة في ظروف خطيرة مرت به ، واستفاد منها في سد الثعور ، فنصب في كل فجوة زوجا من رجاله الأشداء .

. . التفت إلي أولاده . ثم قال لنيقولا ، ودود ! تسلحا وانيعاني . أما أنت يا ميراش فلازم البيت وقم بالواجب نحو من يجيء . . ثم أخذ طريقه يرافقه أبناء ؟ أما أولهما فإنه كثير الشبه بوالده ، وأما الثاني فعملاق طويل وفي هذا الأثناء كان يسود الجميع الصمت ؛ وهذه عادة أوس لا يتكلم إلا حين يتطلب الموقف الكلام ، فهو يفكر ويعمل طبقا لتفكيره في سكون وها هو الآن يتخيل أنه سيقبض على الجاني ويسوقه بنفسه إلي المحافظة بوصف في الأعلال ، وحينئذ يقول لأولي الأمر في تية وفخر : ها أنذا الآن جدير برتبة " كابتن "

طاقت هذه الأفكار بذاكرته فارتسمت على وجهه كل علامات الرضا . وقد كان حسن الحظ ، سعيد

الطالع ، قوي الإيمان بأنه ليس هناك ما يحول دون بلوغ مبتغاه . والحق يقال ، إنه كان دائما يصل إلي ما يريد في أنا  وصير ، اللهم إلا مرة واحدة خانه فيها الحظ ، وجانبه التوفيق ؛ فقد نشبت بين عائلته وعائلة " وانا " معركة حامية الوطنيس في العام المنصرم ، وعائلة " وانا " هي الوحيدة التى تنافس عائلة " أوس " قوة وشهرة وقد انجلت المعركة عن قتل شقيق أوس . وها هو العام قد تجرم ، والفلك دار دورة ولم يتيسر الثأر للقتيل ، فقد أخذ الأعداء كل حيطة فما كانوا قط يخرجون منفردين .

بعد ساعة مضت على أوس وولديه منذ غادروا البيت وصلوا إلي فجوة صغيرة ، فقال لولديه : هذا مكان حراستكما ، إذ لا أشك في أن المرشد الذي سيلازم الهارب لا بد أن ينصح له بالخروج من هذه الفجوة ؛ لأنها في ناحية بعيدة ، والظنون أن أحدا لا يهتم بحراستها . وكل ما أستطيع أن أنصحكم به أن الهارب إن فكر في اجتياز هذه الفجوة فلا تدعاء يفلت إلا على أصلاتكم . ثم ودعهما وقفل راجما وحده من غير الطريق التى سلكها مع ولديه ، ليمر على الحراس ويري بنفسه مقدار انتباههم . وعندما وصل إلي البيت كان الليل قد نشر على السكون ذوائبه ، وبينا هو يصعد السلم ويفكر في أنه سيقضي كل ليلة في الحراسة بعد أن يأكل سريعا ويستريح قليلا ، من بحجرة الأضياف فوجدها مضاءة ، ورأي على الجدران بندقيتين معلقتين . وفي هذه اللحظة خرجت زوجته من حجرة الطعام لنتعرف القادم فسألها في دهشة ؛ من في حجرة الأضياف ؟

- جون واما

- من ؟! ألقي هذا السؤال بصوت مختنق ، إذ لم يتوقع أن يكون قائل أخيه في بيته ، ولكنها أكدت إجابتها بقولها :

- جون وانا مع رجل من المدينة

جمد أوس في مكانه ، وشعر بقشعريرة باردة اهتز لها جسمه . قائل أخي في بيتي ! في حلم أنا أم في يقظة ؟ ولكنه استجمع قواه أخيرا واجتهد في إزالة آثار الدهشة من هذه الزيارة التى لم يكن يتوقعها . ثم دخل على الضيوف بجأش رابط ، وجنان ثابت ، وعزم هو الحديد صلابة . ثم ألقى هذه العبارة في هوادة ورفق مساء الخير ! مرحبا وأهلا بقدومكم !!

قام الضيوب لاستقبال صاحب البيت ، وتعانق - كما هي العادة - أرس مع جون وانا اولا ، لأنه كان في سنه تقريبا وإن كان أطول منه قليلا ، له شارب ماتو طويل يصل إلى أذنيه . ثم عانق الثاني وهو شاب صغير السن ، خفيف الجسم ، أسمر اللون ، أنيق الملبس ، تعلو وجهه مسحة من الكأبة والحزن . ثم جلسوا ، وأخرج أوس علبة التبغ وقدسها لهم ليدخنوا . ثم التفت إلي ابن أخيه وقال : أننا قهوة . فرد الضيفان : شربنا ولك الشكر . ولكنه أكد فقال أوس : هاتوا ثانية .

مكثوا جميعا لحظات غير قليلة في سكون تام وصمت مطبق ، ودم أوس يغلى كالمرجل غيظا . جون وانا - الذي ظل عاما كاملا يفتش عنه ليرديه قتيلا برصاصة من مسدسه ثمارا لأخيه - في بيته الآن ، ولا يستطيع إلا أن يستقبله كأحسن الأصدقاء ، موذة ، إذ سلطان العادة يقضي بذلك ! ولكنه أخيرا تغلب على نفسه ، وهدأ تاثرئه ، وتطلع إلي الوقوف على دواعي هذه الزيارة . وكان كلما وقع نظره على الشاب مرت بخاطره فكرة لم يشأ أن يعتقدها حقيقة حتى لا ينقطع عليه معسول الأماني .

وكان الضيفان لايزالان ممنطقين ومسلحين بالمسدسات ، فقال لهما أوس بعد أن فرغوا من شرب القهوة : خففا السلاح عنكما يا سادة ، فأخرج " جون وانا " مسدسه ذا اليد

الفضية وسلمه إلي أوس ، وكذلك فعل الشاب . ثم التفت أوس إلي ابن أخيه وقال : ياميراش ! بنا شوق لشرب النبيذ فأحضر لنا مقدارا من النوع الجيد ، ومكثوا يشربون ويدخنون طويلا في جو من الصفاء . إلا أن الشاب كان دائم الصمت ، بادى الحزن ، مطرق الرأس ؛ ومع أن أوس وجون وانا طرقا أبوابا شتى من مختلف الأحاديث فإنهما لم تقع عين أحدهما على صاحبه ، وابتعدا عن كل ما يذكر  بما بينهما من عداوة .

بعد بزمن رفع جون كأسه ثم التفت إلى الشاب وقال : في حياتك يا حضرة المحترم ! لا تفكر طويلا ، واطمئن ما دمت في كنف السيد أوس وحمايته .

- في عزك وحياتك قال الشاب هذه الكلمة بصوت الذي استيقظ من نوم طويل عميق . ثم عقب بقوله : معذرة أيها السيدان إذا أنا لم أقاسمكما الحديث ، فإن الأفكار أتعبتنى وأنهكت قواي . وقد وصلت بجهد ومشقة إلي بينكما .

فهم أوس كل شئ !! الآن لا يتسرب إليه شك أن هذا الشاب الذي جاء به جون هو الصحفى الذي من أجله فزع رجاله في الطرق والمرات حتى لا يفلت . " ذكي جدا هذا الشيطان جون " ! لقد كان في استطاعته أن يلجأ إلي حيلة أخري لنجاة هذا الشاب ، ولكنه عرف بثاقب فكره وبعد نظره ، أنه إن فعل غير ما فعل ستمتد يدي إليه ليس كعدو لي فقط ، ولكن كمجرم أمام الحكومة أيضا.

لألبانيا - ككل البلاد - عادات وتقاليد عجيبة ، وسلطان تلك العادات والتقاليد من القوة بحيث لا يجرؤ إنسان أن تحدثه نفسه بمخالفته . وأوس من هؤلاء النوادر الذين يتعصبون لعادات بلادهم وتقاليدها ، ويحلونها المحل الأول ؛ فهي عنده فوق كل اعتبار وفوق .

كل أمر حكومى ، بل وفوق كل شعور

التفت أوس إلي جون وقال : خير إن شاء الله  مالهذا الشاب الذي لا أعرف عنه حتى ولا اسمه     فقطع الشاب كلام أوس قائلا : شوكت فاض .

تشرفنا بهذا السيد الذي أسعدنا بنزوله ضيفا علينا ، سأبذل إن شاء الله كل ما في استطاعتي لأقوم واجبات الضيافة التي رسمها لنا أباؤنا

وكانت المائدة قد أعدت ، فانتقلوا إليها ليتناولوا عشاءهم ولكن جون ابتدأ الحديث عن المهمة التي جاء من أجلها فقال : أدام الله عزك وشرفك يا أوس . ثم نظر إلي عينيه لأول مرة مند قدومه، واستمر في حديثه ، هذا السيد - وأشار إلي الشاب -  يحدق به خطر داهم ، فالحكومة تبحث عنه ، والويل له إن قبضت عليه . وإنه قد استجار بي ، وإني قد أجرته ، ثم أثبت به إليك لتبذل له معونتك ، فيغيرها لا يجتاز الحدود سالما مطمئنا .

وفي أثناء كلام جون قرر أوس كل ما سيفعل . ثم نظر إلي منافسه وقال : من أجلك سأفعل المستحيل يا سيدي . أما الآن فلناكل ، ثم ندير ، ثم أخذ يبادلهم التحيات . وبعد أن مضي وقت طويل من العشاء ، قام صاحب البيت وقال : أيها الرجال وقت العمل ، هيا تسلحوا وبعد أن أخذوا الأهبة نزلوا من السلم ، وفي نهايته قال جون وانا : دائما في الأفراح يا أوص ، ثم عقب علي ذلك بقوله : ليس من الضروري أن أجىء معكم ، وسأذهب إلي البيت إطال الله عمرك ، إنى عاجز عن شكرك لما أسديت لي من معروف نحو هذا الضيف فأجابه أوس قائلا : وفي أفراحك إن شا الله ! مع السلامة . ولكنك لن تذهب إلي بيتك وحدك . ثم نادى : يا ميراش ! رافق السيد جون إلي بيته ، ثم تعانقوا وافترفوا .

كان الجو صافيا ، والنسيم عليلا ، وكانت السماء

مطرزة بالنجوم ، وقد قرب النهار أن يطل على السكون ليملاه بالحركة والنور .

سار شوكت مسترشدا بأوس الذي كان يخطو مطمئنا كل الاطمئنان . وبعد ساعة وصلا إلي ممر ضيق فدخلا في فجوة صغيرة منه وصاح أوس : نيقولا ! دود ! فجاءه الرد من آخر الممر : من ؟ وما الخبر ؟

- أنا أوس - أين أنتما ؟ وهل معكما أحد ؟

- نحن هنا . وليس معنا أحد .

إنما تلاقوا نظر الشابان إلى السيد الذي يستصحب واللدهما في اهتمام ظاهر ، ولكنهما ثم ينبسا بينت شيفة . وتكسا رأسهما ، ومشيا وراء والدهما في سكون وصمت . السار قد تأخذ يسمح حبان الكون في هذا الوقت كان النهار قدخذ يمسح جبين السكون ثمة الظلام ، وكانوا قد وصلوا إلي نهاية الممر ، وبدا لهم مهر طويل وزدان شاطئاء بأشجار كثيفة . وهنا قال اوس مشيرا للصحفى : الآن امها السيد قد مجوت . . بعد هذا النهر وطن غير وطننا . كنت أمل ان اخرج من هذا المرضطا بثلاث نجوم ، وها أعدا الآن اخشى ان اخرج وقد زالت عني النجمان ؛ ومع ذلك فلا بأس ولا ندم ، فالحياة بغير تضحية ، وبغير مرودة ، وبغير ضيوف ، ليست لها قيمة في حبالنا برافقنك السلامة ، وصاحبك التوفيق أمها الضيف العظيم

- رعاك الله بعنايته ، وأضفي عليك ستر حمايته أيها الجواد الكريم ! لن أنسى لك هذا الجبل ما حييت هكذا أجاب الصحفي وبعد أن تعانقوا جميعا أسرع الصحفي في خلع ملابسه ، ثم ألقى بنفسه في النهر سابحا . وبقى أوس وأولاده يراقبونه إلي أن وصل سالما إلي الشاطئ الآخر ، وحينئذ فقلوا راجعين وأوس كله بشر وسرور ، فقد قام بالواجب نحو ضيفه من غير أن يفكر في ضياع رتبته .

اشترك في نشرتنا البريدية