ينبغى لنا فى مبدأ كل عام عندما تدق ساعة الزمن دقتها أن نخلو إلى أنفسنا ونحاسبها . .
ولدى الكثير من الناس قدرة عجيبة على مصانعة أنفسهم ومخادعتها ، فيستقيم الأمر بينهم وبين ضمائرهم . فلا هم يؤدون حسابا إليها ، ولا هى تجفوهم أو تنكؤهم أو تؤرقهم . .
ومن الأمور التى يخدع فى شأنها معظم الناس ، الدين . فكم منهم يخال نفسه متدينا ، وإذا ما سئل فى ذلك يقول بلهجة من يرضى عن نفسه كل الرضا : " الحمد لله " ثم يقبل يده ظهرا لبطن وكم من هؤلاء ، لا توجد بينه وبين الدين أثارة من صلة ؛ وكم من هؤلاء لا يعدو أن يكون الدين فى حياتهم ثوبا قديما رثا يقع تحت أبصارهم ولكنهم لا يلقون بالا إليه !
ولكم يكون من الطريف ، القيام بعمل إحصاء للمتدينين حقا من بين الناس ! إذا لجاءت النتيجة مذهلة مفزعة . .
سل نفسك إذا : " هل أنت رجل متدين ؟ "
وأنت لا تكون متدينا إذا كنت من أولئك الذين أفردت الآراء الدينية بمعزل عن سائر معتقداتهم الدينوية ، فحبست فى قرارة نفوسهم ولم يعد لها من أثر يحكم أعمالهم ويسم سلوكهم فى حياتهم اليومية .
ولست متدينا إذا كنت من أولئك الذين يؤدون الطقوس الدينية بالتقليد والمحاكاة . والذين يذهبون إلى أماكن العبادة بدافع من عادة تأصلت فى نفوسهم ، وهم فى الحقيقة لا " يذهبون " وإنما " ينساقون " إليها . فهولاء ليسوا غير أشخاص يعوزهم من الإرادة ما يجعلهم يقلعون عن تلك " العادة " .
ولست متدينا إذا كنت من أولئك الذين يعتقد فرويد أن الحافز الوحيد لهم على اعتناق الدين وإطاعة أحكامه هو التشبث بتلابيبه ، إذ هو لا يمثل لهم غير طريق للخلاص والنجاة . فالصلاة والعبادة ليستا عندهم غير وسيلة للحصول على الحظوة عند الخالق ليبعد عنهم الآلام والأخطار ، ويجنبهم الصعاب والمكاره . وليس " الله " بالقياس إليهم غير صورة من الأب . وحالهم هو حال الطفل الذى اعتاد صغيرا أن يرى أباه يبذل ما فى وسعه لوقايته ودفع المكروه عنه . فإذا كبر وجد نفسه وجها لوجه مع القدر ، ضعيفا عندما تهب عواصفه ، وحيدا عندما تجتمع عليه صروفه ، فيقيم عندئذ لنفسه " أبا " فوق البشر ، قويا ، جبارا ، ينحصر عمله فى أن يبعد عنه الضر والأذى . وهو لا يلبث أن يصيح إذا أصابته مصيبة : " ماذا فعلت يا ربى حتى تأذن بذلك " .
ولست متدينا إذا كنت من أولئك الذين يمثل الدين لهم لونا من ألوان السيادة والاستعلاء على الغير ، فهو لا يعدو أن يكون نوعا من العدوان وفرض الإرادة . وهؤلاء أشخاص خلت قلوبهم من المحبة ، وطبعوا على الأمر والنهى . ومظهر الدين عندهم هو فى التسبيح بحمد الله لأنه لم يخلقهم كسائر البشر ، ولأنه حباهم بالقوة والصولة . وهم أنانيون لا يفكرون فى غير أنفسهم ، عتاة يرتدون مسوح القديسين مثل مستر باريت فى مسرحية " آل باريت بشارع ويمبول " . ومثل هؤلاء الأشخاص يظهرون شجاعة لا تقهر ، وسيطرة على النفس لا تهن ، واستقامة خلقية لا تميل ولا تلين . . ولكن لا مناص لهم
( البقية على صفحة ٢٣ )
( بقية المنشور على صفحة ١٨ )
ولمن حولهم من أن يدفعوا ثمنا كبيرا لهذه الصفات التى تشرى على حساب كل شعور بالرقة والعطف والمحبة والتسامح .
ولست متدينا إذا كنت من أولئك المتزمتين الذين يأخذون أمور الدين بجد يجاوزون فيه كل حد . فلا يحتملون فيه تساهلا أو تهاونا ، ولا يرضيهم منه الاعتدال والقصد . وهؤلاء ينسحبون عادة من محيط الحياة ويتحللون من مسئولياتها ، ويعتزلون الناس ، منزوين فى صوامعهم ، منطوين على أنفسهم . وعند ما يغالون فى نزعتهم يغدون كالمتصوفين من فقراء الهنود الذين يمضون كل حياتهم من غير أن يغتسلوا ، أو يقضون الشطر الأكبر منها قابعين على أعمدة طويلة كحشرات ملتوية على نفسها فى قواقعها . وهؤلاء هم الذين صورهم الفريد آدلر أحسن تصوير بقوله : " إنهم يتمثلون بالله " . وليست هذه النزعة الدينية فى الحقيقة غير هروب من الواقع وخوف من مواجهة الحقائق
ولست متدينا إذا كنت من أولئك الذين يعتقدون أنه يكفيهم الاحتفاظ بمثل أعلى مبهم ليس له بالدين صلة ، وإنما يحل لديهم محل عقيدة صلبة أكثر تصلبا وتشددا ، مقتفين بذلك أثر الرومانتيكيين الذين كانوا يحومون حول شعلة مقدسة يطيب لهم الاحتراق بنارها ، وتتمثل فى عبادتهم
لمذهب من مذاهب الفن ، أو مظهر من مظاهر العشق ، أو صورة من صور الجمال .
والآن سل نفسك مرة ثانية : " هل أنت رجل متدين " .
