الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 609الرجوع إلى "الثقافة"

سندباد إلى الغرب، تأليف الدكتور حسين فوزى، دار المعارف ، القاهرة سنة ١٩٥٠

Share

كان من حظى أن أقرأ هذا الكتاب الفريد وأنا أنتقل بين متاحف الفن وروائع الإبداع الإيطالى فى فلورنسا ، فكنت أشعر كأنما هذه الفصول التى أقرؤها وتلك الآثار التى أراها قد صيغت جميعها من مادة واحدة ، ولم أكن أشعر أن هناك أى فارق بين فصل " المطارد " ، أو صورة " الدوتشى الصغير " ، أو مقال " الفن المصرى " ،

وبين تمثال " سان چيور چيو " لدوناتيلو ، أو تمثال " العذراء والطفل " للوكا دلاروبيا : كلها ابتكارات لطيفة صدرت عن نفوس مرهفة أوسع الله عليها فى نعم الإحساس الكامل والخيال المحلق والتصور السليم والتعبير الصادق ، فجرت أيديها بالريشة أو بالأزميل أو بالقلم فى سهولة ويسر ، وأبدعت ما شاء الله لها أن تبدع من لطائف المثالة والتصوير والكتابة . أجل ، أحسست وأنا أقرأ هذا الكتاب فى ذلك الجو الفنى الحافل أن مادة الفن واحدة ، وأن هذا الذى كتب هذه السطور ، إنما هو مصور يرسم بالقلم والكلمات ، وموسيقى تنطوى كلماته على نغم ونشيد ، وما عليك إلا أن تقرأ فصوله عن " لا باڤلوڤا " و " موتسارت " و " بيتهوڤن " ، حتى تشعر أنها سيمفونيات مكتوبة ، لأن هذا الإحساس الكامل بعظمة موسيقى عظيم مثل موتسارت لا تضمه إلا نفس موسيقية حافلة بالنغمات والألحان . . .

ولا أبالغ إذا قلت إننى لم أقرأ منذ سنوات كتابا عربيا أثار نفسى وأحدث فيها من الانفعالات ما أحدث هذا الكتاب ؛ فإن كل سطر فيه ينطوى على فكرة تستثير

الذهن وتهز الإحساس هزا عنيفا . وإننى لأعجب كيف استطاع هذا الفنان المبدع أن يبلغ من الإجادة فى التصور والتصوير ذلك المبلغ الذى مكنه من أن يصف أجواء متباينة ينتقل الإنسان معها من أثينا إلى النورماندى ، ومن رودس إلى لندن ، ومن روما إلى مولد السيد البدوى ، فى خفة وصدق وإبداع ، وطوع له أن ينقل قارئه من بحار الشمال حيث الثلوج والأعاصير إلى سهول مصر ، حيث الجو الراكد الساكن ، والحر الذى يجثم على الأفئدة ويكتم الأنفس ؛ وهو إذا يحدثك عن " القبلة الهائمة " فى نورمانديا .

ويصور لك اجتماع الناس فى منوار ( دوار ) شاعر فرنسى متقاعد ، وإذ يعطيك صورة من حياتهم وما يتنقلون به من طلى الحديث ، أو حين يحدثك عن صديقه مكفرسون الساخر من البطولة ورجال الحرب ، أو عن كئوس خمر ساموس الثقيلة الدسمة التى شربها قبل أن يصعد إلى الأكروبول ، يشعرك فى كل كلمة يقولها أنه فان أصيل يستطيع بلحمتين من ريشته الصناع أن ينقلك إلى حيث يريد إلى العمق الذى يريد . . . ويكشف لك عن ثقافة واسعة واطلاع بعيد لا تجدهما عند أكثر من تقرأ له من الكاتبين بالعربية ، بل تشعر أن الكاتب يستلهم وحيه ويقبس الأضواء التى يوزعها بين سطوره من عالم غربى خالص لا يتاح الوصول إليه إلا لمن شرب هذه الحضارة من بحارها الواسعة ، وطاف فيها طواف السندباد بحور الدنيا . . . وحتى فى الفصول التى يتحدث فيها عن أشياء مصرية بحتة ، كمولد السيد البدوى ، أو دوائر الفن فى مصر ، تشعر أن

أساتذته يتبعون هناك فى إغريق القديمة ، وإيطاليا فى عصر النهضة ، وألمانيا فى أيام جيتسه وشار ، والنمسا في أيام موتسارت وبيتهوفن ... تشعر أنه نهل من هذه المنابع الفياضة واغتذى بخيرها وتمثله حتى أصبح جزءا من كيانه . من هنا لا غرابة أن تشعر وأنت تقرؤه أنك تسبح من علمه وإحساسه الفنى فى بحر زاخر يبعث فى نفسك لونا من النشوة قلما تشعر به وأنت تقرأ كتابا عربيا آخر ...

أجل ، وما أصدقه وهو يتحدث إليك عن أيام الطفولة ويصف لك نفسه طفلا يصنع طائرة من الورق ليبعثها فى الهواء و يحلق معها بعقل الطفل فى أجواز القضاء . إنه يصل بوصفه هذا إلى أبدع وأدق ما بلغه الواصفون فى العربية ، لأنه يجمع الصدق والبساطة والعمق فى النظرة فى آن واحد ، وما أصدقه حينما يصف لك المشعوذ الذي أنى به مرة ليفتح المندل ، فناداه - وكان إذ ذاك صبيا -

وأجلسه ووضع على رأسه خرقة وأعطاه فنجانا وطلب إليه أن يصف ما يرى ، فلم ير الصبى شيئا ، وجعل فاتح المندل يغريه ليؤثر في خياله الصبى ، ويصور له أنه يرى فى قاع الفنجان سارق الشئ الضائع ؛ فأصر الصبى على أنه لا يرى شيئا ، فرفع الرجال الخرقة عن رأسه وقال لمن حوله كمن يتعزى عن الخيبة : " الولد أدرك " وهو يريد بذلك أن الصبي قد بلغ مبلغ الرجال ، فلم تعد الشاطين توحى له بالأسرار . ولكن حسين فوزى يريد بذلك أن " الولد بلغ الإدراك العقلى وأصبح يميز بين الحقيقة والخيال ، ولم يعد يرى إلا ما تراه عيناه لا ما يهجس له به خياله الصغير ! هذه نفحة فنية بارعة لا تصدر إلا عن ذهن حساس مرهف قدير على أن يصل إلى أعماق الأشياء ؛ فقد رأينا عملية المندل جميعا ، ولكن الفنان وحده هو الذي يستطيع أن يصل إلى هذا العمق فى النظر والتصور . ثم انظر إليه يتحدث عن بيتهوفن ، بل يصلى فى محرابه ،

إن كلامه فى هذا الفصل ليدل على أن الأصابع التى جرت بالقلم لا بد قد جرت على أوتار القيثارة بسوناتات الموسيقى العظيم ، وشاركت فى عزف رباعياته ، لأن هذه الغزارة فى الإحساس لا تصدر عن العقل المفكر ، بل عن القلب النابض . ومن هذا الطراز أحاديثه عن موتسارت وهواة الموسيقى الغربية فى مصر ، وما إلى ذلك ، مما لا يصدر إلا عن موسيقى مطبوع وفنان زاخر الإحساس ...

إن أكبر ما يقرب هذا الكتاب من نفسى ويجعلنى أعود إلى مطالعة فصوله المرة بعد الرة هي هذه النزعة الغربية التى ينزع إليها الدكتور حسين فوزى فيه ، نزعة صادقة صريحة قوية ، تدل على أن صاحبها يشاركنا الإيمان فى أننا لن نصل إلى ما نصبو إليه من رقى إلا إذا اتجهنا وجهة غربية خالصة ، وتخففنا من أعباء هذا التراث الثقيل الذى يشل حركتنا عن السير ويقف بنا فى منتصف الطريق ، فلا نحن مستطيعون بعث الماضى للعيش فى ظلاله . ولا نحن قادرون على أن نلاحق العصر الذى نعيش فيه ...

ذلك كتاب فياض بالدوافع والحوافز ، ومهما تكن وجهة نظر قارئه ، ومهما يكن اتجاهه فى الحياة ، فهو خارج من قراءته بطائفة من الانفعالات تنفعه أكثر من قراءة أى كتاب صريح يستجدى عطف القراء بالتمسح فى ذكريات عاطفية ماضية .

اشترك في نشرتنا البريدية