قال نظام الملك :
وعلى الملك العادل أن يتحري سلوك عماله ، وإلا يتواني في تقصي سيرهم ، ليتأكد من نزاهتهم ، ومن رعاية الأمانة التي عهد بها إليهم ، والثقة التي أولاهم إياها . وعلى العمال أن يسيروا في الناس بالحسنى ، وألا يطالبوا الحراث " الفلاح " بالأموال قبل أن تؤتى الأرض ثمارها ، وإلا اضطر الحراث أن يبيع معجلا ما لا علم له بمقداره وقدره ، فيبيع بالثمن البخس جهده المضني . وعلى العمال أن يعاوثوا الحراثين إذا احتاجوا إلي البذور أو المواشي ، فإن من يعين الحراث على إنتاج الخيرات التي تنبتها الأرض يعين الشعب على عيشه ، ويوفر له غذاءه . وحرام علي الحكومة وعلى الناس أن يتركوا قطعة من الأرض بورا ، فإن من يعمر أرض الله يخدم دينه ووطنه ونفسه ، ومن يري أرضا صالحة للزرع ولا يعمرها بغضب الله والوطن والملك . فاذا سار العمال هذه السيرة في الحراتين سعدت الملكة ، وكثرت خيراتها ، وأمن الناس شر الفاقة والجوع والموت ، إذا ماجفت الأنهار ، وانقطعت الأمطار . ووقع القحط العظيم .
ألم تر ، يا مولاي ، إلي قياد ، وقد جف الزرع في عصره سبع سنين ، لم تفتح الأرض خلالها حبة واحدة ، فكانت شدة لا يخرج منها ، فاستطاع بما لدي عماله من الخيرات المخزونة أن يوفر لشعبه الغذاء طوال سنوات القحط ؛ فقد أمرهم ببيع ما لديهم من محزون الحبوب بأثمان رخيصة ، وسهر على عدالة التوزيع بين الناس ، فلم يمت من إيران فرد واحد بسبب القحط !
وعلى الملك ألا يتهاون مطلقا في مراقبة هؤلاء العمال ، وإذا رأى أن أحدهم استولي من حراث على أكثر ما ينبغي عليه دفعه ، رد ما اغتصب إليه ، حتى يعلم الناس أن العدل قائم ، وإن جار العمال وإذا كان للعامل المنتصب مال أخذ منه أضعاف ما اغتصب من الرعية ؛ وقد يرى الملك نفسه في حل من أن ينزع جميع أموال العامل الظالم ، ليعلم الشعب أن الظلم مرتعة وخيم . وأما إذا كان العامل قد قصر تقصيرا بسيرا ، فإن على الملك أن يقومه ويصلحه ويجازيه حسب مسئوليته .
وأما إشراف الملك علي الوزير وحكام الأقاليم فإنه أكثر وجوبا وأبعد أثرا ، لأن أخطار هؤلاء تحسب على الملك نفسه ، وتنسب إليه وإلى حكومته . ولذا وجب أن يكون الوزير والحاكم من ذوي العدل وأصالة الرأي ؛ ووجب أن يكون الملك يقظا محاسبا .
وكم أعجبني منظرك وسلوكك متى يا مولاي ! يوم جئتنى ، وقد أمسك كميك رجلان يشكوان إليك ظلم وإلى بلدهما ، وكانت الدموع تترفرف في عينيك وأنت تقول : كيف يكون حالى غدا عند لله إذا طولت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف ؟! وكم أسعدني إنصافهما عملا بأمرك وعدلك يا مولاي وأنا أسوق إليك قصة الوزير (رست روش ) الذي وزره " بهرام كور " فلم يرع النزاهة في حكمه !! فطفى وبغي وتكبر ، ولكن انظر كيف كانت عاقبته .
وأنت تعلم يا مولاي أن " بهرام كور " قد اندفع وراء نزق الشباب ، فترك شئون الملك ، وانصرف إلي السيد والنساء والشراب ، وأقام مقامه أميرا ضعيفا لم يكن يستطيع أن يعارض للوزير " رست روش " رأيا أو يعصي له أمرا . وقد استغله " رست روش " اقبح استغلال ، وصور له أن ما تبديه الحكومة من الشفقة بالناس قد أفسد أخلاقهم ، وأطمع في الولاة أشرارهم ،
وأن الأمر إذا لم يتدارك بالحزم ويؤخذ بالشدة لا تحمد عواقبه ، فالواجب " ألا تدع على قيد الحياة مفسدا ، وألا نترك لغيتهم ما يثير الغرور في نفسه فيخرج علينا ، ولنستحي نساءهم ولنذبح أولادهم ، حتى لا يبق لأحد سلطان " . . وامتلأت السجون بالأشراف . . وحلت القصور من ساكنيها ، وولي كثير من الأمراء فرارا من إيران ، وقد ملئوا من ظلم الوزير رعبا . ونظر " رست روش " حوله ، فإذا سلطانه يمتد على الشعب وحكومته ، وإذا به يري باب الإثراء وقد فتح على مصراعيه ، له ولذويه ، فأخذ يمنح الحرية لمن سجتهم الأمير الذي يشغل مكان الملك ، على أن يمنحوه ضياعهم وأموالهم ثما لحريتهم ، وأخذ ينهب ويسلب كما يشاء ؛ وكلما أرادت الحكومة القيام بمشروع امتلأت جيوبه ، وعمرت خزائنه بالرشوة المستورة والرشوة المفضوحة ، حتى أصبح ترفه حديث الناس في إيران وغير إيران . وظل على هذه السياسة الهدامة سنين عديدة ، حتى افتقر الشعب ، وتحلل روحه ، واختلت الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكومين ، وخرجت من بيوت الأشراف التحف النادرة ، والخيول المطهمة ، والجواري الحسان ، وكل ما لدي الناس من الخيرات . . لتدخل كلها بيت الوزير " رست روش "
وكان لملك إيران عدو يقف له بالرصاد ، فاتصل به جماعة من الأمراء الهاربين مستنجدين ، فسارع ملبيا دعوتهم وأغار على إيران . . وأفاق "بهرام كور " من غفلته وأمر بتهيئة الجيش ، والتوسيع على رجاله لتقوي روحه وتشتد عزيمته . ولكن خازن المال وجد خزينة الدولة خالية ! وافتقد وزير الحرب الأشراف والنبلاء وهم القادة فلم يجد منهم أحدا : منهم المسجون ، ومنهم من هاجر . ونظر " بهرام " فإذا إيران يخيم عليها الفقر ، وبفت في عضدها البؤس والبأس . . فسأل مادهي المال وأفي الرجال ؟ فلم يجرؤ أحد أن يذكر له ما جرته سياسة
الوزير على الدولة من الدمار والفناء . فبات الملك ليله ساهرا يفكر في قلمته المتداعية والروم تقترب . . ولم يكد الصبح يتنفس حتى كان ممتطيا صهوة جواده الأشهب وسط الصحراء . هناك في الفضاء الذي لا يحد أبصر نارا فوق تل فاتجه إليها . رأي قطيعا من الأغنام ورأي خيمة على بابها كلب مصلوب ! وجلس الملك للإفطار مع صاحب الخيمة الذي لم يكن يعرف ضيفه ، واستمع إلي الرجل يحدثه عن الكلب المصلوب : كان لي من قطيع الغنم هذا رزق كبير ، وكنت أعتمد على هذا الكلب في حمايته ، وكان من القوة بحيث يغلب عشرة ذئاب . وكنت أثق به حتى أفى ، حين أضطر إلي السفر ، كنت أتركه ليقود الأغنام إلي حيث ترعي وليعود بها إلي حيث تبيت ، وأنا آمن هادي البال . ولكني لاحظت أن القطيع بتناقض ، ولاحظت الكلب فلم أهتد إلي تقصير في رعايته أو فتور في واجبه . حتى إذا جاء محصل الضرائب وجدت القطيع كله لا يبقى بما على من مال ، فأخذه المحصل وصيرني راعيا للقطيع الذي كان ملكي بالأمس . وتفرغت لرعاية الأغنام فعملت ما غاب عني ، وهو أن هذا الكلب قد وقع في شباك ذئبة غادرة . رأيته معها وأنا أحطب فوق ربوة عالية . رأيتها تدنو من القطيع ، ورأيته يهرع لاستقبالها ، ثم أخذ يداعبها حتى إذا بلغ منه الهيام مبلغه انتحي بها ناحية . فلا تلبث الذئية أن تعود فتفترس أقرب الأغنام إليها وتلتهم من لحمه ما تشاء ، ثم تمضي في سبيلها والكلب ينظر إليها نظرة المتيم الولهان . وهكذا كان ينقرض القطيع رويدا رويدا ، لأن الكلب غلبته شهوته ، ففقد أمانته وضاعت رعايته فرأيت أن أقل ما يجازي به هو أن يصلب كما ترى جزاء ضعفه وخيانته !
عاد الملك إلي العاصمة متفكرا في هذا الذي رأي وسمع ، أليس هو صاحب الفظيع الذي ملكه الله على الشعب ليعمر به الأرض ؟! ألبس وزيره رست روش هو ذلك الكلب الذي عهد إليه برعاية الشعب والعناية به ؟! ألم ير
الملك خزائنة خالية وجيوشه مسرحة ورجاله مشردة ، والشعب في بؤس مقيم ؟! ولكن الملك لم يهتد إلى خيانة وزيره ، كما اهتدى الراعي إلى خيانة كلبه ؟ فإن الحاشية كانت يخاف على نفسها من غدر الوزير الماكر الجبار . فأمر أن ترفع إليه التقارير اليومية التي كان الوزير يقضى فيها كل يوم . فإذا به يرى البطش والظلم والبغى . فأدرك أن ما أصاب شعبه من محن مصدره الوزير ، وأن عليه إذا أراد أن يعيد للشعب مكانته وثقته بنفسه وبحكامه ، أن يختص منه ؟ فلما دخل عليه رست روش قال له : " ماذا جرى لشعبى ، علاء الهم والفقر ، وأقعدته المحن والمظالم ، وماذا انتاب خزائنى أقفزت ، وكانت بالخير تفيض ؟! أولئك لتقتل الناس وتنتهك حراماتهم وتقيد حرياتهم ؟ ولقد وليتك عامر القلب خاوي الوقاض ، وكان هذا فحرك، فإذا بجاء الوزارة يضلك ، وإذا بك غني ضال ! دخلت
الوزارة فقيرا عزيزا ، وها أنت اليوم تخرج منها تربا لا نزاهة فيك ! " . وحاول رست روش أن يجيب ولكن الكلام لم يوانه ، خنقته الدماء البريئة التي سفكها ، والحريات الغالية التي أضاعها ، والأمانة التي خانها . فأمر الملك بسجنه . فانهالت عليه الشكاوي من الناس . ولم يلبث الملك أن علم أن رست روش قد تآمر مع أعدائه على القدر به ، ليظفر بسلطان أوسع ، فلم ير بدا من قتله والتمثيل به . ثم التفت إلي أهل إيران فأصلح أحوالهم ، وتدارك ما فسد من أمورهم ، وأبعد عنهم الذئبة الغادرة التي أبعدها الرامي عن غنمه حين قتل الكلب الضعيف الخائن ! واعلم بان لأي أن الإسكندر قال حين هزم دارا : " ملكني هذه الدولة ضعف ملكها وخيانة وزيرها " وقاك الله يا مولاي من الضعف ، وقواك وثبتك ، وألهمك السداد في اختيار وزيرك ، ووفقك في مراقبته ونصحه !!
