الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 255الرجوع إلى "الثقافة"

سيرة صلاح الدين، - ١٠ -، توحيد

Share

(( ذهب السلطان إلى الشام ، وفتح دمشق وغيرها من البلدان . ثم عاد على مصر ، ولم يكن قد فرغ من التغلب على جميع أعدائه من المسلمين بعد , فعاد ثانية إلى الشام ؛ ليعمل فى هذه المرة على إيجاد وحدة إسلامية قوية ، يستطيع بها أن ينجح فى مطاردة الفرنج  بها )) .

هتف بالسلطان هاتف الحج ، وتاقت نفسه الكريمة إلى أداء هذا الفرض ، وأراد أن ينتهز فرصة الصلح الذى عقده منذ حين ليقوم هو بأداء هذه الفريضة من فرائض الدين . وبينما هو يتهيأ لهذا القصد ، وبينما هو يهم فى نوع من الشعور كأنه الوجد ، إذا بصديقه القاضى الفاضل يدخل عليه ويقول : أرى المولى يفكر في أمر .

قال السلطان : نعم أفكر فى الحج وزيارة الرسول ، وأود أن يكون لى من الحظ ما كان لك بالأمس يا عبد الرحيم ، فقد كتبت إلى فى الحج ، وقلت إنها حاجة الدنيا والآخرة وأنشدت :

متى بات هذا الموت لا يلف حاجة

            لنفسى إلا قد فضيت قضاءها

قال الفاضل : نعم يامولاى ، وكتبت أنت على رأس الرقعة التى أذنت لى فيها بالحج قولك : (( على خيرة الله . يا ليتنى كنت معكم فأفوز فوزا عظيما )) .

قال السلطان : (( منذ يومئذ يا عبد الرحيم وهذه الرغبة تتحرك فى نفسى و يدق لها قلبى ، وأتربص الوقت الذى يسمح بأداء هذا الفرض . وها هى الفرصة قد سنحت بإبرام الصلح )) .

قال الفاضل : (( الرأى عندى الآن ألا يفكر المولى فى ذلك ، فليس الوقت ملائما له )) .

قال السلطان : (( كيف ونحن فى هدنة ؟ والحج لون من ألوان الجهاد ، والنية قد سمحت عندى على أدائه )) .

قال الفاضل : أليس ما فيه المولى جهاد لأجل الدين ؟ أليس ما يشتغل به أسمي وأعظم نفعا المسلمين ؟ أليس يجاهد الصليبيين الذين ودوا لو غفل عنهم فيميلوا عليه ميلة واحدة ؟ )) .

قال السلطان . (( ولكنا فى صلح ، والرغبة عندى ملحة فى الحج )) .

قال الفاضل : (( ما يفتأ المولى بثق بوعودهم ! ! هبهم يا مولاى نقضوا العهد وانتهزوا فرصة غيبتك فى الحج . ألا - لا يأسفن المولى على زمان ينقضى وهو عطل من هذه الفريضة ، فبحسبه النية الصالحة فى أدائها . فالله سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله ، ولكن يسأل عن نيته فى تمام هذا الفعل . وإذا كان المولى آخذا فى أسباب الجهاد ، فهو فى طاعة هى أجل من سائر الطاعات )) .

قال السلطان : (( برغمى لا أقوم بأداء هذه الفريضة ، ومن يدرى لعلنا نؤديها فى قابل . فدعنا من ذلك الآن وقم بنا نغم حياة الشيخ الإمام أبى طاهر بن عوف بالإسكندرية ، فقد سمعت ثناء عاطرا على هذا الشيخ ، وعلمت أنه الآن يشتغل بقراءة الموطأ لمالك . فلنذهبن إليه غدا وليذهب معنا أولادنا جميعا لسماعه والاستفادة منه )) .

قال الفاضل : (( أسعد الله المولى بهذه الرحلة الكريمة وأثابه الله عليها . ولله فى الله رحلتاه ، وفى سبيل الله يوماه ، فما منهما إلا أغر محجل )) .

وهما فى هذا الحديث ، إذ أتى من أخبرهما بموت الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين - مات ولم يبلغ بعد العشرين من عمره ، وبأن الأمراء فى نزاع شديد على ملكه : كل يريد أن ينتهز هذه الفرصة ويضع يده على قطعة من هذا الملك . فحزن السلطان لهذه الأخبار ورأى فى موت الفتى

وتنازع الأمراء من بعده محنة جديدة من المحن التى لابد له من التغلب عليها قبل أن يفكر جديا فى محاربة الفرنج .

قال الفاضل : (( لا يحزنك ذلك أيها الولى أطال الله بقاءك ، وجعل ملك هذا الفتى بعض إقطاعك ، حتى تستطيع جمع كلة المسلمين ومحاربة القوم الظالمين ، والله أعلم حيث يضع رسالته )) .

ومضت أيام تأهب السلطان فى أثنائها للرحيل ، ثم خرج من مصر فى موكب ثقيل ، اشترك فيه الجند والشعب على اختلاف طبقاته . وبينما القوم فى أفراحهم ، والسلطان يشاطرهم هذه الأفراح ، إذ بأحد المربين لأولاده أخرج رأسه من خيمته وقال :

تمتع من شميم عرار نجد    فما بعد العيشة من عرار

فانقبضت نفس السلطان ، وخمد نشاطه ونشاط صديقه القاضى الفاضل . وكأن المؤدب نطق بما هو كائن فى الغيب ، لأن السلطان لم يعد بعدها إلى مصر ، فقد تركها وغاب بالشام ليقضى الأعوام الطويلة الباقية له من حياته فى جهاد طويل يوحد به كلمة المسلمين ويجمع به شملهم قبل أن يواجه بهم العدو .

ثم وصل السلطان إلى دمشق ، وأشار عليه أصحابه بالإغارة على حلب ، فأبى عليهم ذلك بحجة أن الهدنة التى بينه وبينهم لما تنقض مدتها ، ولا يليق بشرفه هو أن يغير عليهم قبل انقضاء مدتها .

قال له أصحابه : (( فإنهم قد هادوا الفرنج ، ومالشوا عليك شيخ الجبل - زعيم الحشيشة - ليأخذوك على حين غرة . فأدهمهم قبل أن يدهموك ، واشغلهم قبل أن يشغلوك ، وأفسد عليهم خطتهم قبل أن يفسدوا عليك خطتك )) . .

فما ازداد السلطان إلا إلحاحا فى إبائه واستمساكا بوفائه ، وقال لأصحابه : (( إنى لأستحى من الله أن يرانى ناقضا للعهد ، وإنى لأستحى من نفسى أن أكون كاذب

الوعد ، وما النصر إلا من عند الله )) .

ثم مضى أجل الصلح ، وأصبح السلطان فى حل من قتال القوم ، فرأى قبل ذلك ان يبدأ بمكاتبه ملوك الإسلام جميعا بالوفود عليه ، فمن جاء منهم مستسلما سلمت بلاده على أن يكون من أجناد السلطان وأتباعه فى جهاد الكفر . فوفد عليه من رسل الملوك من قبلوا الدخول فى دعوته ، ورفض منهم من أبى الدخول فى طاعته . ثم ذهب السلطان بنفسه إلى بعض مدن الشام ففتحها ، ثم اتجهت همته لأخذ ( حلب)  فأخذها . وكم كان سرور الرجل عظيما بفتح ( حلب ) ، ذلك بأنها البلد الذى سبب له من التعب ما لا يقل عما سببه له الفرنج . فلم يكد السلطان بظفرها حتى علا قلعة من قلاعها ، وكانما أناء بها الهاتف الذى يختلف على آحاد من الناس - هم الرسل ومن هم فى منزلة الرسل - فيدعوهم بدعوة الله ، ويعدهم بالنصر من عند الله ، ويهيئهم لأمر من الأمور التى أرادها الله ، فيرى هؤلاء أنفسهم مدفوعين إلى تنفيذ هذه الإرادة الإلهية . فذلك معنى قول السلطان وهو بأعلى هذا المكان :

(( والله ما سرنى فتح مدينة كما سرنى إلى فتح هذه المدينة . الآن تبينت أنى أملك البلاد . والآن تبينت أنى أكسح الفرنج . )) !

ونزل السلطان من القلعة فوجد الناس بالمدينة فرحين مسرورين ، وفى هذه اللحظة التى كان يشهد فيها سرورهم أتاه نبأ وفاة أخيه الأصغر ( تاج الملوك بورى ) ، فحزن عليه كل الحزن ، وشق عليه فى الوقت نفسه أن يكدر من صفاء القوم ، فانتحى ناحية أخذ يبكى فيها على أخيه ، وأمر أصحابه ألا يعلنوا موته حتى يفرغ المسلمون لسرورهم . وذلك حتى أقبل على السلطان وقد من شعراء مصر وفيهم القاضى السعيد ابن سناء الملك ، فوقف يهنئ السلطان بقصيدة أتى فى أولها :

بدولة الترك عزت دولة العرب

           ويا بن أيوب ذلت بيعة الصلب

ومنها فى وصف قلعة حلب وذكر تمتعها :

جليسة النجم فى أعلى مراتبه

              وطالما غاب عنها وهى لم تغب

ومانعته كمعشوق تمنعه

                أشهى من الشهد أو أحلى من الضرب

فتح الفتوح بلامين وصاحبه

                 ملك الملوك ومولاها بلا كذب

وكان انتصار السلطان على ( حلب ) وهى الوكر الأول لبيت نور الدين بشيرا بانتصاره على ( الموصل ) وهى الوكر الثانى لهذا البيت الأنابكى العظيم . إذ كان المواصلة كالحلبيين من أعداء الملك الناصر صلاح الدين . وأتى الرجل لحصارهم ، فأخذوا يفاوضونه فى إعفائهم ، وسلكوا فى ذلك طرقا شتى : فمرة يبعثون إليه بنساء من بيت نور الدين يشفعن عنده فى تركهم امنين بالمدينة ، فيكرمهن صلاح الدين وبلقاهن لقاء جميلا ويعتذر إليهن فى لطف ورفق . وأخرى يسمعون بمرضه ، ويعلمون أن المرض يرقق من مشاعره ويرهف من حسه ، وأنه فى المرض ألطف منه فى الصحة بكثير ، فيبعثون إليه برجل عظيم من فقهائهم ، وسياسى أريب من أخطر ساستهم - هو بهاء الدين بن شداد - وكان منهم يومئذ بمنزلة توشك أن تكون كمنزلة القاضى الفاضل من السلطان نفسه . فيأتى هذا الفقيه الجليل على رأس وفد كبير لمفاوضة صلاح الدين ، فيكرم السلطان وفادته ، ويعرض عليه مكانا رفيعا فى دولته ، فيأبى الفقيه ذلك بحجة أنه مندوب عن صاحبه أمير الموصل ، فيوافقه السلطان على ذلك ويقره عليه . ثم لا يجد أعضاء الوفد الموصلى بدأ من توقيع شروط الصلح ، وهى شروط أملاها عليهم السلطان ، وبها أصبح سيدا أكبر على الجزء الشمالى كله من الإمبراطورية الإسلامية .

ثم اتجه السلطان إلى الأجزاء الجنوبية من هذه الإمبراطورية ولم يكن منها خارجا عن طاعته غير أقليم واحد كان يفصل مصر عن الشام وهو إقليم ( الكرك ) وأميره أرناط . وفى ذلك المكان اجتمعت عساكر الإسلام ، ودافع الفرنج عن هذه المنطقة دفاعا لم يغن شيئا أمام جموع المسلمين الذين فتحوا بلادهم ، وبلادا غير بلادهم ، وذلك أصبح السلطان سيدا أكبر على الجزء الجنوبى كله منى الأراضى الإسلامية .

وجلس السلطان يستريح ، فأتى الشعراء لتهنئته وفيهم الشاعر المصرى الذى مر ذكره وهو القاضى السعيد ابن سناء الملك . فأنشد السلطان قصيدة وصف فيها ( الكرك ) بأنها عوقبت بالعقوبة التى نص عليها القرآن الكريم وهى عقوبة الرجم بالحجارة ، لأنها بلدة مسلمة رضيت أن تكون تحت رجل غير مسلم ، قال :

هى الكرك الثكلى بأولادها انتهت

                     عن الفضل مما جرعته من الثكل

غدا بعلها ( الإبرقس ) ( ١ ) يلعن عرضه

                      بها وهى لا تنفك من لعنة بعل

وقد رجمتها المنجنيقات إذ زنت

                    هناك بشيخ كافر جاهل رذل

ثم لم يمض زمن طويل علي هذه الفتوح ، حتى وصل إلى السلطان نبأ وفاة صاحب ( أرمينية ) . مات ولم يترك بعده ولدا ولا ذا قرابة ، فكتب أهل البلاد إلى السلطان يخطبونه لها . فما أسرع ما خف السلطان لأخذها ، ثم ما أسرع ما كتب للخليفة فى بغداد يطلب إليه تقليدا عاما بها وبالموصل وحلب وديار بكر . فجاءه التقليد من الخليفة بالموافقة على كل ذلك .

ونظر السلطان فإذا ملكه ممتد من برقة وما حولها من ناحية الغرب ، ومن اليمن وبلاد النوبة من ناحية

الجنوب ، ومن ديار بكر والجزيرة وأرمينية من ناحيتى الشمال والشرق . ونظر أيضا فإذا هو قد فرغ من جميع أعدائه بالشام ، وإذا هو وحد فى قبضة يده جميع بلاد الإسلام ، وإذا الوقت قد حان ليحصل لنفسه ودينه وشرفه وشرف المسلمين معه فى مشارق الأرض ومغاربها على أمل طال فى انتظاره رجاؤهم ، وتحرفت للظفر به نفوسهم ، ومن أجله كان التفافهم حول أبطالهم وزعمائهم من لدن عماد الدين وابنه نور الدين إلى أن أتى صلاح الدين ، وهو البطل الذى شرفه القدر بذلك الظفر الذى لا يعرف التاريخ الإسلامى ، منذ الفتوح الإسلامية الأولى ، أعلى شأنا ولا أمجد ذكرا ولا أعظم أثرا منه.

اشترك في نشرتنا البريدية