الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 228الرجوع إلى "الثقافة"

سيرة صلاح الدين، -٥-، سلطان

Share

( وصل صلاح الدين إلى مصر ، واشترك مع عمه شيركو في رد الفرنج إلى القدس ، ثم اتفقا معا على قتل شاور فقتلاه وتولى شيروه الوزارة المصرية مكانه ، ثم مات هذا بعد شهرين من توليته ، وسلمت الوزارة لصلاح الدين ، ففاز بها بعد مفاوضات طويلة قام بها الفقيه عيسي . ومضي صلاح الدين ينفذ في مصر سياسة الرجل المريض ، فافلح فيها بمعونة القاضي الفاضل) .

أيها الغائبون عني وإن كـ   تم لقلبي بذكركم جبرانا

إنني مذ فقدتكم لأراكم    بعيون الضمير عندي عيانا

منذ غاب صلاح الدين عن أهله واخوته في دمشق ، وهو لا يفتأ يذكرهم ، ويجد في نفسه حنينا إليهم وشوقا إلي رؤيتهم ، وكان الأحداث التي مرت به ، وكان الظفر الذي جري علي يديه ، وكان الحرب الطاحنة التي نجا من شرها ، ولم يزل بعد مهددا بغيرها ، كان هذه الأمور كلها لم نفسه دمشق والشام ، ولا صرفته عن التفكير في الأهل والإخوان ، فبعث إليهم يستوحشهم بطائفة كثيرة من الكتب التي دلت على لطف حسه ، ورقة قلبه وسمة نفسه من هذه الناحية ، وكان في أكثر هذه الكتب التي كتبها يستعين بالشعر ، فأسعقه الشعر بكل ما كان يريد .

وفي أحد هذه الكتب - بعث صلاح الدين إلي مولاه نور الدين يطلب إليه في رفق ولين ان يرسل إليه أباه وإخوته ، يشد أزر نفسه بهم ، ويعتمد في أموره عليهم ، فلعل الأحداث أن تتغير ، ولعل الآفعي التي ضربت على رأسها منذ حين ان تفيق من سكرتها ، وتنفث السم حولها فتقتل به كل من أرادها بسوء !

وأتت هذه الكتب كذلك نجم الدين ، وكان هذا الشيخ حزينا علي موت أخيه ، أو حزينا على الظرف الذي

مات فيه أخوه ، فقد مات بمصر اخوه في وقت لم يكد فيه صلاح الدين يتجاوز الثلاثين من العمر ، فهو لا يستطيع النهوض وحده بأمر هذه المهمة الشاقة التي بات ينتظرها منه التاج الأنابكي

" مولاي إن أبي وحيد بالديار المصرية - وهو فيها بين خطرين كبيرين : خطر الشيعة الذين يبغضونه اشد البغض ، وخطر الفرنج الذين اقاموا ببلادهم ربما يجمعون شتاتهم ويعودون لإخراجه من مصر " وهذا الحديث الهادي الرزين ، ابتدر الشيخ مولاه نور الدين ، وكأنما كان هذا يفكر في نفس الفكرة التى افصح عنها الشيخ ، فلم يدعه يتم كلامه حتى قال له : " اجل يا نجم الدين ، لقد كنت الساعة أفكر في استدعائك للسفر إلى مصر ، فعندي أنه قد حان الوقت الذي تخطو فيه الخطوة الحاسمة لقطع الخطبة العلوية لتحل مكانها الخطبة العباسية " ، ثم سكت الامير قليلا ومضى بعد برهة يقول :

" ولقد أتاني يا نجم الدين أن ابنك صلاح الدين أبي في أول أمره أن يلي الوزارة بعد عمه ثم قبلها على تهيب لها ، وانها سلمت له بعد سعي من صديقه الفقيه عيسي الهكاري ، فيا له من فقيه ماهر ، جمع قلوب الجند على صلاح الدين ،

وأرضي عنه نفوس الطامعين المنافسين ، وراح بشير عليه . كذلك بأن ينفق كل ما جمعه عمه من المال في استرضاء ، الجند والرعية ، حتى مال إليه الجند وأحبته الرعية . أما العاضد نفسه فقد بلغني أنه أصبح ضعيفا قليل الجند ، بل لم يبق معه أحد من العساكر المصرية بعد ، فذلك يا نجم الدين ما جعلني على يقين من أن الفرصة قد واتت لقطع الخطبة ، وإن كنت عجبت من ولدك منذ مدة ، لأنني بعثت إليه بأمري هذا ، فاعتذر إلي بالخوف من أهل مصر لميلهم إلي صاحب القصر " .

قال حجر الدين " والذي نفس محمد بيده يا مولاي إنك تقول الحق ، وإني لأري الثمرة أينعت وحان قطافها ، وإن

ابني لهيابة مسرف في الحذر ، وإني اراده إلي شئ من الجرأة التي يتطلبها موقفه "

وأتى الشيخ مصر ، وأخذ يناقش ابنه الرأي ، فتبين له أن ابنه على حق فيما أظهره من الخوف ، وكان القاضي الفاضل حاضرا هذا الحديث فقال لنجم الدين والفاطميون يا سيدي لهم انصار كثيرون ، عن عرفوا ما ننوبه فيأتوا يأخذون للأمر عدته ، وأخذت كل جماعة منهم يحيك شباكها ،

وتنظم نفسها ، وتعد رجالها ، وكلما ازداد أمرنا قوة ازداد المصريون من جانبهم حيطة ، فالرأي عندي يا مولاي أن أمورنا تؤخذ بالهويني وإلا فسدت وضاعت غربها " ؟ عند ذلك انتهى خطاب الفاضل لنجم الدين فأقرة هذا على رأيه وراح يقنع به نور الدين ، ولكن نور الدين لم يزدد إلا رغبة والحاحا واستمسا كما بالرأي الذي امر به . وفي لهجة حازمة لا تسمح بالرد قال لصاحبه : " إرجع إلي مصر ثانية لتقطع الخطبة ، ولتأخذ القوم على غرة ، وذلك قبل ان تقوي شوكتهم ، وتدنو خطتهم من النضج الذي يمكنهم من الفوز " واطرق الرجل قليلا ، ثم رفع رأسه وتابع قوله في هدر كانه هدير الجمل فقال : " كانني بصلاح الدين ،

وقد طاب له الحكم ، وأخذ بأبهة الملك ، ورضي لنفسه أن يظل وزيرا سنيا لخليفة شيعي ! فاذهب إليه الآن أيها الرجل لتقول له : إننا لم نجعلك على جيوشنا ، وثرودك سيوفنا ، لتصل بها إلي مركز خطير ننسي به مصالح المسلمين وقد باتت مصلحتهم في أن تزول خلافة المصريين وفي ان تصبح مصر ملكا لنور الدين ، وفي ان يستعين بها المسلمون على امتلاك بيت المقدس

وعبثا حاول الشيخ أن يهدئ من ثورة الأمير ، وعبثا حاول أن يقنعه بأنه قد أبعد في الظن وأسرف في التقدير ، وعبثا حاول ان يستأذنه في تأخير عودته شهرا أو بعض شهر ، وأخيرا وافق مولاه على أن يأخذ أهبته للعودة إلي مصر

وحصل الشيخ بها ووجد ابنه يراقب أمورها ويفكر

في خير الطرق التي يصل بها إلي تنفيذ سياسة نور الدين ، مسترشدا في كل ذلك برأي صديقه القاضي الفاضل ، وقد اشار عليه هذا رأي يمتحن  به" شعور المصريين ، ويعرف مبلغ استعدادهم لقبول نظام جديد ، فقال له : " ليأذن لي الولي بأن أشير عليه برأي فيما نحن فيه " قال : قل  يا عبد الرحيم فاننا والله إلي رأيك أنت أحوج مني إلي سيفي هذا " فقال : " أشير على المولي بأن يبدأ بهذا العمل ، وهو ان يبطل من اذان الشيعة - حي على خبر العمل - وهي كلمة أضافوها أذانهم  تمييزا لهم عن أهل السنة من أعدائهم في المذهب الديني . فإن فعل المولى وانكر الناس عليه ذلك عرف ان الوقت لم يحن بعد ، وإذا لم ينكروا عليه ذلك علم أن الفرصة قد واتته " .

وعمل الوزير بهذا الرأي فلم يجد الرعية ثارت عليه ، ١ ولا وجد القوم صاحوا به ، فشجعه ذلك على ان يأتي أعمالا أخري أشار بها الفاضل أيضا :

فمرة يأمر بالقبض على جميع إقطاع العاضد بالبلاد ، ومرة يأمر بالقبض على جند العاضد من السودان ، ومرة يأمر بالقبض على جميع جنوده من الارمن - كل ذلك والرعية لا تنتقده ، وكبار العلويين في مصر لا يظهر فيهم من يعارضه . إذ ذاك فقط علم الرجل أنه يستطيع قطع الخطبة وهو آمن على نفسه بعض الشئ

وجلس صلاح الدين وأبوه عن يمينه والفاضل عن يساره وفكر الثلاثة في خطة سليمة العواقب ، أخذوا يحسبون فيها حسابا دقيقا لاحتمالاتها المختلفة ، وأخيرا استقر رأيهم على الا يشترك في الأمر صلاح الدين بنفسه ،

بل يقوم به نجم الدين ومعه جماعة من أمراء جنده ووجوه قومه ، فلينزلوا للصلاة بالجامع الكبير ، وليأت الإمام الذي يخطب يوم الجمعة فليخطب خطبته الأولى في معنى من معاني الدين ، ثم ليهمل في خطبته الثانية ذكر العاضد الفاطمي فينظر وقع ذلك في نفوس السامعين ، فإذا ثاروا

فليتدخل نجم الدين ، وإذا لم يثوروا ففي الجمعة الثانية يضع الخطيب مكان الخليفة العلوي اسم الخليفة العباسي . وأما الغرض من تغيب صلاح الدين فإنه إذا فسد الأمر وثار المصلون فسيعتذر هو للعاضد بأنه لم يكن حاضرا ، وبأنه ليس عن عمل أبيه راضيا ، وبأنه يستطيع أن يأمر آباه بمغادرة الديار المصرية والعودة إلي دمشق .

ثم إن الظروف كلها واتت صلاح الدين وأشار عليه الفاضل بإمام جريء من أئمة المسلمين هو الشيخ الخبوشاني ، فعهدوا إليه بوضع الخطبة وانتهوا بذلك من وضع الخطة ، وانتظروا تنفيذها على هذا الوجه .

وأتى اليوم المشهود ، ولاحظ أهل مصر حركة بالجامع الكبير ، وانتظروا وقوع حادث خطير ، وتهيأت نفوسهم لمعرفته ، حتى صعد الإمام المنبر والقي الخطبة الأولى ، ثم نهض خطبته الثانية وحين وصل إلي ذكر العاضد لم يذكره ، ولكنه دعا للآئمة المهديين وللسلطان الملك الناصر صلاح الدين ، ونزل والناس سكوت من الذعر كان على رؤوسهم الطير ، قد راعبهم منظر الجند الذين غص بهم الجامع الكبير وأحاطوا بالمنبر يومئذ إحاطة تنذرهم بأن منبرهم إنما ينطق اليوم بكلمة السيف .

وسمع العاضد قبل موته بقطع الخطبة فاغتم لذلك ، وقام يدخل إلي حجرته فمن قائل إنه قتل نفسه ، ومن قائل إنه امتص (فص) خاتمه وكان تحته السم فمات به ، ومن قائل إنه عثر وسقط سقطة أقام بعدها متعللا خمسة ثم مات . واتصل موته بالملك الناصر صلاح الدين فشق ذلك على نفسه وقال في لهجة النادم على عمله " لو علمنا أنه يموت في هذه الجمعة ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة " . فقال القاضي الفاضل للسلطان " لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت " !

وهكذا ثم وأد الخلافة الفاطمية على يد صلاح الدين ، والعجيب انه قام على قبرها يومئذ يبكي بكاء الحزين ، ومن

يدري لعل نفسه كانت متألمة حقا لهذا المصرع الذي تم على يديه .

ولكن ما ذنب الرجل في ذلك - وهذه الخلافة الكدراء كانت عن المرض والإعياء بحيث أصبحت لا تصلح للبقاء . " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شئ قدير " .

وما كادت الخطبة نفسها ثم للعباسيين حتى امر السلطان وزيره القاضي الفاضل فكتب بها بشارة إلي مولاه نور الدين ، فأمر هذا كاتبه العماد الأصفهاني فأنشأ بها بشارتين : إحداهما عامة تقرا في جميع البلاد الإسلامية ،

والأخري خاصة يذهب بها القاضي شرف الدين بن أبي عصرون إلي عاهل الخلافة العباسية . وكان يوما مشهودا ، ذلك اليوم الذي ذهب فيه القاضي بالبشارة إلي الخليفة العباسي . فهنالك ازدحم القصر العباسي بوفود المهنئين ، وهنالك ارتفع صوت الشعر مختلطا بأصوات الخطباء والوعاظ والصالحين ، وهنالك مدت موائد الطعام ليصيب منها الناس على اختلاف طبقاتهم ، ويعيدوا بها إلي الأذهان ذكري حلفائهم ، وأنهالت التهنئات على بطل المسلمين بالشام وعلى صلاح الدين بمصر ، وشهد الشعب الإسلامي في الشرق أيام أعياد عظيمة قدم العهد بها ، ثم أتت فرأيت لها هزة فرح في قلوب اصحابها ، ولو تمثلت السنة إذ ذاك رجلا لرأه الناس بطلا لا يبطره الظفر ولا يزعجه الخطر ولكن يقف ليقول :

وقالت لي الأيام إن كنت لا حقا      بأبناء أيوب فأنت الموفق !

هموا رفعوا رأسي وقاموا بدعوتي     جهازا وطرف الرفض (١) خزيان مطرق !

اشترك في نشرتنا البريدية