" فرغ السلطان من ترتيب أموره بمصر ، ثم تركها بعد موت نور الدين ليتدخل في أمور الشآمين ، أملا منه في إخضاعهم لسلطانه ، وتأليف اتحاد عام للمسلمين يواجه به الصليبيين تمهيدا لطردهم نهائيا من جميع بلاد المشرق "
فكر السلطان في مغادرة الشام ، واخذ يتأهب للعودة إلى مصر . وبينما هو في تفكيره إذ دخل عليه العماد الأصفهانى أملا في ان يقترح السلطان عليه ان يصحبه في رحلته هذه إلى الديار المصرية . وكانت للسلطان هيبة عند جميع أصحابه تمنع أحدهم من أن يبتدره بالسؤال . فلم تكد تقع عينا السلطان على العماد حتى عرف هذا منهما أن السلطان بحالة يقبل فيها مزاحا ، فجعل يقول :
. أأذكر حاجتي أم قد كفاني ( البيت )
قال السلطان " يعز علينا أن تكون لك حاجة لا نقضيها . أتحب أن تصحبنا في هذه المرة إلي مصر ؟ أم تحب أن نقضي لك أمرا بدمشق ؟ " .
قال العماد : " بل أحب أن اصحب مولاي إلي مصر ، فإن شاء أخذت أهبتى لهذه الرحلة التي أشتاقها ، فلى سنوات لم أر فيها القاضي الفاضل ، ولي سنوات يفاخرنى هو بالديار المصرية ، وافاخره أنا بالديار الشامية ، وتدور بيننا رسائل في هذا الغرض " .
قال السلطان : " اما الفاضل فقد شغفته مصر حباً وشغفها هو حبا ، وهو كثير الذكر لمحاسنها ، والتغنى بنيلها وعجائبها ؛ وأذكر انه قرأ علينا بعض رسائله إليك في هذا المعنى " .
ثم سكت السلطان برهة قصيرة ، مرت بخاطره في أثنائها أفكار كثيرة ؛ ثم قال : " ترى - ما الذي أتمه الأمير بهاء الدين قراقوش من السور العظيم الذي امرناه
بإقامته حول مصر منذ حين ؟ "
قال العماد : " غدا تأتي خدمة ) رسالة ( من القاضي الفاضل يذكر للمولي فيها ما يسره ، ويشرح قلبه ، ويطمئن نفسه . وفي همة بهاء الدين قراقوش، وفي قوة نفسه وصادق عزمه ، ما يكفي يا مولاي للعمل الذي تدبه له " .
قال السلطان : " الحق يا عماد الدين أنني ما رأيت رجلا أصدق من بهاء الدين قراقوش ، ولا اقوى منه نفسا ، ولا أعظم منه صبرا ، بحيث لا يعرف الملل أو التعب إليه سبيلا . هذا كله فوق أمانة سمينة ، وشهامة عظيمة ، ونفس كريمة ، وبذل عجيب ، وقدرة قل ان يكون لها نظير في تصريف الأمور . وإنني يا عماد الدين مدين له كما أنا مدين للقاضى الفاضل ، وإليهما ارد فضل إقامة هذه الدولة التي أراد الله لها ان تقوم "
قال العماد : " أجل يا مولاي - إذا أراد الله لدولة أن تحيا قبض لها رجالا يعمل الواحد منهم لخيرها اكثر مما يعمل لنفسه ، وينظر إليها كما ينظر الأب إلي ولده ، يتمهده بالتغذية والتنمية حتى يبلغ أشده ؟ وانت يا مولاي قد أراد الله قيام دولتك ، وإعلاء كلمتك ، ونفاذ دعوتك " .
وهما في هذا الحديث ، وإذا برسالة ترد من القاضي الفاضل وفيها " أن بهاء الدين قد أوشك ان يتم بناء السور ، وانه بذل فيه جهدا عظيما وصبرا عجيبا ، ومهارة لا تصدر إلا عن أمثاله من أولى العزم " . ثم وصل السلطان إلى مصر ومعه العماد ، وكان يوما عظيما مشهودا ذلك اليوم الذي عاد السلطان فيه إلى قاعدة ملكة ، وأخذ في تنظيم امره ، وتفقد السور الذي بناه صديقه الأمير بهاء الدين قراقوش .
وعلم الفرنج بمغيب السلطان عن الشام ، وكانت بينه وبينهم هدنة سعى إليها السلطان ، إذ كان من خطته التي شاركه في وضعها القاضي الفاضل ان يعمل على توحيد المسلمين في الشرق ، قبل أن يفكر جديا في محاربة الفرنج وطردهم إلى ما وراء البحر
ولكن التاريخ الذي سجل للسلطان بلاءه في المحافظة
على العهود والمواثيق ، كما سجل له صبره على هذه المحافظة مهما كلفته من خسارة أو ضيق ، هو الذي سجل على الصليبيين غدرهم وخيانتهم ، وعبئهم بكل اتفاق يكون بين السلطان وبينهم ، ونظرهم إلى هذا الاتفاق على انه فرصة يجمعون فيها اشتاتهم ، ويفيقون فيها من سكراتهم . ويعودون ذئابا لا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلوبهم ، كما لم يعرف الشرف سبيلا إلي أخلاقهم ونفوسهم ؛ حتى لقد استحي من ذلك كله مؤرخوهم ، واظهروا كل الخجل في كتاباتهم من هذا الغدر الذي وصموا به تاريخهم . وكان هذا الخجل يصل إلي نهايته عند أولئك المؤرخين حينما كانوا يقيسون غدر الصليبيين بصدق صلاح الدين وشدة حرصه في المحافظة على وعده ، محافظة هي في اعتباره ايسر ما يقتضيه الشرف العسكري .
فبرغم الهدنة التي كانت بينه وبينهم ، هجمت طائفة من فرسانهم على بعض مدن الشام ، وهزمت هنالك أخا للسلطان كان عاملا له على دمشق . فحف السلطان إلى اخيه على غير استعداد . وكان أول من التقى به من امرائهم إذ ذاك صاحب الكرك وهو ) أرناط ( . لقيه بجهة يقال لها ) الرملة ( فانتصر عليه الأمير المسيحي ، وفر المسلمون من وجهه يطلبون الديار المصرية ، وضلوا طريقهم وسط الصحراء ، لولا أن أدركهم القاضي الفاضل برجاله وغلمانه وأزواده ، فوزعها عليهم وحثهم على اللحاق ثانية ببقية الجيش . وأسر الفرنج في هذه الموقعة عددا عظيما من المسلمين ، كان فيهم ذلك الفقيه العظيم ) عيسي الهكاري ( ، وهو صديق السلطان القديم ، وصاحب فضل عليه من قبل في الظفر بالوزارة المصرية من يد العاضد الفاطمي . فلا غزو أن ذكر له السلطان هذه اليد الكريمة ، وشق على نفسه أن يراه أسيرا ، ففداه بقطعة من المال جسيمة ، ثم كتب إلي أخيه بدمشق كتابا جاء في أوله :
ذكرتك والخطيّ تخطر بيننا … وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر
ثم أتى بعد ذلك قوله " . . لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة ، وما نجانا الله منها إلا لأمر يريده سبحانه وتعالي
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر الخ " وعاد السلطان بعد هذه الكسرة إلي مصر ، والناس يحمدون سلامته من سيوف العدو ، وقدم عليه الشعراء يومئذ يعتذرون له عن هزيمته ، ويخففون من وقعها على نفسه ونفوس المقاتلين معه . وكان من هؤلاء الشعراء رجل أنشد السلطان "
حسب العدا يا صلاح الدين حسبهمو .. أن يقرفوك بجرح غير مندمل
وهل يخاف لسان النحل ملتمس .. مرت على إصبعيه لذة العسل ؟ !
.ثم غادر السلطان مصر ، واستناب عنه في هذه المرة أخاه الملك العادل ، وجعل إلي جانبه وزيره ومشيره القاضي الفاضل ، وخرج هو لملاقاة الصليبيين ليمسح عار انتصارهم منذ حين ؛ فلقيهم في جهة يقال لها ) مرج عيون ( ، كتب له فيها النصر . وكان الأسطول المصري في الوقت نفسه قد انتصر انتصارا باهرا في البحر ، وكان يقوده شاب يحبه السلطان ويفاخر به جميع الأمراء ، وكان هذا الشاب قد ابلي بلاء حسنا في وقعة الرملة ، ثم عاد فأظهر إقداما نادرا ومهارة عظمي في قيادة الأسطول المصري . وهذا الشاب هو )تقي الدين عمر ( وهو ابن أخى السلطان ، وإليه كان ينظر السلطان كما كان محمد صلى الله عليه وسلم ينظر إلي ابن عمه على بن أبي طالب .
ومهما يكن من شئ فقد طرب المسلمون لهذا الانتصار ، وقرت به عين السلطان , وجلس كاتبه العماد الأصفهاني في الخيمة الكبرى ، وأخذ يكتب اسماء الأسري علي ضوء مشعل ، وكان أولئك الأسري كثيرين وفيهم ) رايموند ( صاحب طرابلس . فمن كان منهم يريد أن يفدي نفسه بمال يدفعه قبضه منه العماد الكاتب وأطلقه وأني الشعراء صلاح الدين . وكان فيهم شاعر وقف يقول :
إن هذا الفتح المبين شفاء .. لصدور وقرة لعيون
هو يوم أضحي كيوم حنين .. سهل الله نصره في الحزون
إلي آخر هذه القصيدة العظيمة التي سبقتها أو تلتها قصائد أخري كثيرة استمع إليها صلاح الدين . ثم ترك وراءه ) مرج عيون ( واتجه بجيشه إلي حصن منيع من حصون الصليبيين ، ينسب إلي فرقة كانت تلقي الرعب في المسلمين هي فرقة ) الداوية ( . وكان يطلق على هذا الحصن من حصونهم ) بيت الأحزان ( أو ) بيت يعقوب ( أو ) حصن المخاض ( . وكان الداوية أنفسهم قد أخذوا في عمارته منذ انتصروا على السلطان بقيادة ) أرناط ( . وقالوا إن السلطان لما سمع بأنهم يعملون في إقامته بذل لهم مالا عظيما ليعدلوا عن ذلك فأبوا . فلم ير السلطان بداً من قتالهم فذهب إليهم ، وانتصر بجيوشه عليهم ، وأجهز على هذا الحصن الذي كانوا يستمدون منه قوتهم المعنوية . ثم تركهم السلطان وعاد إلي دمشق ، وكان في انتظاره الشعراء الذين تغنوا بهذا النصر ، وكان فيهم شاعر من شعراء مصر . قال يخاطب صلاح الدين ، ويسخر من غدر الصليبيين
وقفت على ) حصن المخاض ( وإنه .. لموقف حق لا يوازيه موقف
أيسكن أوطان النبيين عصية .. ثمين لدي أيمانها وهي تحلف
نصحتكمو ، والنصح في الدين واجب .. ذروا ) بيت يعقوب ( فقد جاء يوسف ؟
ثم رغب الفرنج في الصلح والهدنة ، فوهبهم السلطان الصلح والهدنة ، وتغني الشعراء يوم الصلح ، كما تغنوا من قبل يوم النصر ، لأنه كان صلحا عاما دخل فيه الفرنج والمشارقة والروم ، كما دخل فيه أهل الموصل وديار بكر وحلب . واتفق الجميع مع السلطان الا يشهروا في وجهه سيفا ، ولا ينقضوا له عهدا . ولكن دلت الأيام بعد ، على ان النفس التي طبعت على الغدر لا يمكن ان يصدر عنها غير الغدر ، وان النفس التي جبلت على الصدق لا يمكن ان تسام خطة غير الصدق ؛ وان هذا الرجل الكريم إن صح أن يكون له ذنب عظيم ، فهو انه كان يثق بوعود أعدائه دائما ، برغم ان أعداءه لم يصدقوا ما عاهدوه عليه مرة واحدة .
وهنا يجد القصص والتاريخ ، او يجد الأدب
والأخلاق مجالا لحديث له أهميته ودلالته : فقد يعجب الناس برجل عبقري في الحروب ، يستهزئ بالخطوب :
كالليث بل مثله الليث الهصور إذا.. غنى الحديد غناء غير تغريد
يلقى المنية في أمثال عدتها .. كالسيل يقذف جلمودا بجلمود
أو يعجب الناس برجل داهية خطر ، ينال بالرفق ما لا يناله الجبار بالبطش أو العنف ، ويصدر الرأي فتأتى الحوادث كلها شاهدة على صدقه ومبلغ نفعه :
موحد الرأى تنشق الظنون له .. عن كل ملتبس منها ومعقود
أو يعجب الناس برجل رقيق الحس ، له قلب ينبض بمعاني الرحمة والحنان ، وله نفس تفيض بمعاني البر والإحسان :
يجود بالنفس بأن ضن الجواد بها ..والجود بالنفس اقصي غاية الجود
قد يعجب الناس بكل رجل من هؤلاء ، ويتجاوز إعجابهم به حدود المدح والإطراء ، ولكن إعجابهم هذا لن يكون في حالة من الحالات اصدق منه في حالة الإعجاب يخلق الوفاء ، يصدر عن نفس كريمة عظيمة هي هذه النفس التي لا ترضي لصاحبها يوما ما بأن يربح الدنيا كلها بطريق الغش أو الخيانة ، ما دام في قدرته أن يكسب جزءا ضئيلا منها بطريق الصدق والأمانة . ومعنى ذلك أن زيادة إعجاب الناس بخلق الوفاء ، مصدره ان الوفاء يكلف صاحبه من المشقة أكثر مما تكلفه الفضائل الأخرى .
وهكذا كان صاحب السيرة التي نكتبها جنديا لا نظير له في ميادين القتال ، وسياسيا له من طبيعته الكردية الماكرة ما اعانه على أن يكون رجلا في ميدان السياسة ذا بال ، ورحيما إلي الحد الذي تسمع به ، فتحكم ان صاحب هذا القدر من الرحمة لا بد أن يكون له اكبر حظ من القوة المادية فضلا عن القوة المعنوية ، وعدلا ينصف الناس من نفسه ، ويسوي في القضاء بينه وبين خصمه مهما صغر هذا الخصم ؟ وأهم من ذلك كله ، او ادعي إلي
الإعجاب من ذلك كله ، أنه كان رجلا صادق الوعد ، شديد المحافظة على العهد ، يحترم في سبيل هذا العهد عدوه ويتعلم هذا العدو فيما يتعلمه منه أن الصدق كياسة ، والأمانة خير سياسة ، وان الشجاعة كلها في أن تلقى عدوك أقوى ما يكون استعدادا للقاء ، وان من الجبن والدناءة أن تأخذه على غرة أو تطعنه من وراء ، ذلك أن آية الرجل الشجاع هي أنه لا يفرح لمنازلة عدو يكون أضعف منه . .
كذلك كان صلاح الدين مثلا أعلى للمسلمين ، وخصما شريفا للصليبيين ؛ وكذلك كانت عظمته الخلقية والحربية التي بهرت أعين الناس في الشرق والغرب جميعا ؛ أما المسلمون فكانوا يتغنون بها ، وأما الأوربيون فكانوا يكبرونها ، حتى لقد شغلت هذه الشخصية الفذة ، أذهان النساء المسيحيات في أوربا ، فذهبن يحببنها ، وطلقن يحلمن بها ، واتخذ الأدب الأوربي من أحلامهن مادة غني بها ، وتلذذ الناس بقراءتها طوال العصر الوسيط
