اعتقد أن النقاش الذي ثار على صفحات هذه المجلة حول فلم مكبث لم ينته بعد ، إذ أن الأستاذ الناقد عبد الفتاح البارودي عند ما حاول تفنيد آرائي في العدد ٦٦٠ من هذه المجلة لم يعرض هو من ناحية آراء سليمة مقبولة تفيدنا في فهم مغزى الرواية وتقربنا من جوهرها ، وإنما ثر عدة أسئلة من شأنها الإرباك والتشكيك لا الإفهام والتقريب .
ومن هذه الأسئلة أن الأستاذ بعد أن يزعم بأن شكسبير : " يؤمن بأن القدر هو المتصرف في الحياة الدنيا ، إذ أنه يرمز له برموز مرئية ، كالأشباح والأطياف والساحرات وما إليها ، ويجعل لها نصبيا كبيرا في تكييف تراجيدياته " يعود فيقول متشككا مرتابا : " كما أننا نستطيع في نفس الوقت أن نقول إنه لا يؤمن بالقدر .، لأنه يقصر رؤية هذه الرموز على أبطاله أحيانا ، وأحيانا اخرى يشرك غيرهم في رؤيتها دون أن ندري سببا لهذا أو ذاك ؛ ومن هذه الأسئلة أيضا أن الأستاذ الناقد يخلص إلي القول بأننا : " لا نستطيع الجزم بأن هذه الرموز القدرية موضوعية أو ذاتية ، وبالتالي لا نستطيع تحديد مسئولية مكبث عن مأساته " و "أقصى ما يستطاع - ولعل هذا هو مغزى الدراما - أن نتساءل : هل نحن ألعوبة في يد القدر ، أم نحن المسئولون عن أعمالنا ؟ وهل للإنسان أن يختار ! وهل صرعه القدر أم خطاياه ؟ الخ . . .الخ . . ." .
كل هذه الأسئلة التي أثارها الأستاذ وزعم بأن الفلم يبعث عليها ويوحى بها ، أساسها شئ واحد هو إدخال القدر في موضوع بعيد عنه بعد الأرض عن السماء ، فإن شيكسبير لم يشر إلى القدر بروايته هذه لا من بعيد ولا من قريب ، وجميع مشاهد الفلم تؤكد رأي هذا ، وأن زعم
الأستاذ بأن الساحرات الثلاث إن هن إلا رمز للقدر لا يقبله المنطق السليم ، لأن شيكسبير من الدقة والفهم بحيث لا يرضى لنفسه بأن يرمز للمقدر وهو المتسلط المعاني الجبار بساحرات ثلاث يتمثل فيهن الضعف والعجز والانخذال فضلا عن أن الأستاذ الناقد نفسه قد عجب لانفراد : " البطل - في مشهد الوليمة - برؤية شبح بانكو ، بينما - في مشهد الساحرات - يشترك معه بانكو في رؤيتهن " ، فلو أن الأستاذ حاول فهمى بقدر ما حاول تفنيد آرائي في العلم ، لما اضطر إلى هذا التساؤل والتعجب ، بل لوجد أن أي تغير في وضع الرواية ومشاهدها الحالية كان من شأنه أن يربك المتفرج المتتبع ويضيع عليه القصد الذي توخاه شكسبير ، والمغزى الذي تفصح عنه الرواية .
فإن الأستاذ لو سلم معي - جدلا - بأن الساحرات الثلاث رمز الخرافة ، لما وجد ضيرا في أن يشترك بانكو مع مكبث في رؤيتهن ؟ فالخرافة شائعة بين الناس في عصر شكسبير ، والإيمان بها ويإيحاءاتها ليس مما يعاب المرء أو يؤاخذ عليه ؛ فأما في مشهد الوليمة حيث ينفرد مكبث برؤية شبح بانكو ، فذلك لأن مكبث هو المجرم دون غيره ، وظهور الشيخ لا يعني أكثر من تذكيره يفعلته وإحساسه بجريمته ، وهذا المشهد من شكسبير إشارة إلى الضمير الإنساني الحي الذي لا تطمره الشرور والآثام والمظالم ؟ وتصوير فنه لنبل الإنسان وليقظه الخالد . فالإنسان أن يغفو غفوة أبدية عن شرفه ومعنوياته ومثله العليا التى ترفع من شانه وتزيد من قيمته ، فيعيش في مادية بحتة وحيوانية منحطة لا إحساس فيها ولا تقبه معها ، وإلا ما كان الإنسان ينتشل نفسه من أغوار تلك الغابات التى عاش فيها أجداده قرونا لا عد لها ، فلم يكن بوسع شيكسببير أن يتيح
لمن كان مع مكبث في مشهد الوليمة رؤية شبح بانكو ما دامت معالم الجريمة مخيفة إلا علي مكبث نفسه ، لا يدري بها أحد سواه .
هذا عن إنسانية مكبث وعن الخرافة التي وجهت خطواته بإيحاءات الساحرات الثلاث وإيمانه بها ، ومن ثم سعيه لتحقيقها ، فبلغ العرش ، ولكن بعد أن اقترف الآثام وثقلت حياته وتنغص عيشه ؛ فأما فيما يخص الدين ، فإن مكبث بعد أن تستقر شئونه وتصفو أموره ، يتلفت وراءه فيجد ماضيه حافلا بالمظالم والقبائح ، وتتعامل فيه عقائده الدينية ، فيبدأ يتساءل عن الجحيم وكيف هي : أهي ذات لون أسود حقا أم أحمر؟! . . ثم لا يدري كيف يسترضي ربه الذي أغضبه بأفعاله المنكرة ، وكيف يكفر عن سيئانه . فيتساءل هو وزوجه ، شريكته في الجرائم : ترى هل تستطيع كل عطور الشرق غسل ذنوبه وتطهير يديه الملوثتين ؟ ! .
وبفعل مثل هذا التساؤل الذي يدفع الدين إليه ويحث عليه تصبح حياة مكبث فيما بعد ، إلى آخر الفلم ، جحيما لاتطاق .
فلو لم تكن حياة مكبث متأثرة بالخرافة من ناحية وبالدين من ناحية أخرى ، كما كانت حياة العامة المتأخرة في عصر شيكسبير ، لسار مكبث في غير هذا الاتجاه ولعاش عيشة غير معقدة هذا التعقد المضني الذي أشار إليه شيكسبير ، ووجه انظار الناس نحوه كأنه يحذرهم من نتائجه . وعرض على العقلاء من الناس والمتحررين ، من ناحية ثانية ، هذا الصراع الجبار الذي عانته الأجيال السالفة فكانت في عناء دائم ونزاع نفسي قتال .
ولولا هذه الميزات في فلم مكبث لسقطت أهميته ولكان من الأفلام العادية التي لا تستحق إلا القليل المألوف من الالتفات . .
( دهوك )
