الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 187الرجوع إلى "الرسالة"

شاعر الاسلام (١)، محمد عاكف

Share

-١-

كنت أقرأ اسم محمدعاكف بين أعلام الأدب التركى الحديث ، وكنت لا أعرف إلا طرفاً من أخباره وأشعاره . فلما سافرت إلى استنبول منذ سبع سنين،   وكان عاكف قد هاجر إلى

مصر ، عرفت من سيرته وادبه ما حببه إلى وشاقنى إلى لقائه . فلما عدت إلى مصر بادرت إلى زيارته ، وكان من سعادة الجد حينئذ أن ألفيته على مقربة منى فى حلوان نازلا فى كنف الأمير عباس حليم باشا رحمه الله

ذهبت إلى داره، فطرقت الباب فاذا رجل ناهز الستين أشمط                ربعة قوي البنية، عليه سيما الحياء والتواضع. وجلست فتحدثنا                        قليلاً، فافتتحنا عهداً من المودة المؤكدة والصداقة المخلصة

وكان صديقي حيياً، نزر الكلام، كثير التفكر، طويل الصمت،                 نزاعاً إلى العزلة، نفوراً من المجامع؛ فتوفر حظي من لقائه والأنس              به، قلّما زرته فلم ألفه في داره

وكان أنسه أن أزوره أو يزورني ، فنفرغ للحديث نصرفه بين الماضي والحاضر ، ونمزج فيه الجد بالفكاهة . ونطوف به فى

أرجاء الأدب والتاريخ ، ونتعرف بها أحوال المسلمين . وكان اذا أنس بالمجلس انطلق فى الحديث وتبسط واستزاد المحدث بحسن استماعه واهتمامه . فاذا قاسمنا مجلسنا غيرنا صمت حياء أو انقباضاً ، أو إصغاء أو إنكارا؛ فاذا سألته لأشركه فى الحديث هز رأسه متجاهلا ، او ابتسم أو أجاب موجزاً ، ثم راجع صمته . فاذا انفض المجلس أبدى لي رأيه مخالفاً أو موافقاً . ساخطأ أو راضياً

وكان أحب شىء اليه أن نلتقى فى عشايا الصيف ، فنطوف فى حلوان نتعطف فى شوارعها كما تتعطف بنا شجون الحديث . فلا ننتبه لمكاننا حتى نخرج من أبنية المدينة فنرجع إليها ، ويلهينا الحديث حتى ننتهى إلى طرفها الآخر . وكان قوياً على المشى محباً له لا يذكر الدار إلا إن شكوت إليه التعب ، فيشكينى عائداً إلى داره أو دارى لنقطع الحديث بشرب الشاى .

وكم تحدثنا وقرأنا فى سيرنا وجلوسنا فى الآداب الثلاثة : العربية والفارسية والتركية. وكنت أحب أن أقرأ عليه شعره ؛ وكان يسره أن يستمع له . وكانت كل أحاديثنا وقراءتنا متعة ، يجتمع فيه على الفكر والذوق والأمل والألم . وكان أطيب المجالس مجلسا نفزع فيه الى شعر محمد اقبال . وهو " رحمه الله " عرّفنى باقبال يوم أعارنى ديوانه " يام مشرق ". فاذا صفا الوقت عمدت الى أحد كتب اقبال فقرأت واستمع مقبلا مستغرقا يقطع انشادى فى الحين بعد الحين بالاستعادة او الاستحسان أو التعجب او التأوه . وشد ما كان يثير إقبال نفسه ، أو يثلج صدره ! وشد ماكان يحزنه أو يفرحه ! وأذكر أننا بدأنا كتاب اقبال " أسرار خودى " فوالينا الجلسات حتى أنهيناه انشادا ، ثم أتبعنا به أخاه " رموز بى خودى " فختمناه على شوق الى الاعادة

وكنت عرفت أساتذة كلية الآداب بهذا الأديب الكبير،                                       فاختاروه لتدريس التركية بها، فكان محبباً إلى الأساتذة والطلاب                  يأنسون به ويجلّونه ويتوددون إليه

-٢-                                                                            كرّت على هذا الأيام، وعددنا فيه بضع سنين لا يكاد                                      عاكف يغيب ثلاثة أيام لا أراه في حلوان أو كلية الآداب.                                      وكان قويا صحيحا مغتبطا بالعافية، فلم يَرُعنا ألا أن بدا عليه الهزال  والشحوب، وازداد به الانقباض والحزن، فإذا سألناه اخبرنا أن

مرضا قديما عاوده . وهو يطب له ويرجو الشفاء . هم بدا له أن يذهب الى الشام يستمد العافية من السفر وتجديد الهواء ، فعاد بعد شهرين وقد استفاد أن مرضه لم يزدد . ثم تغيّر وتغيّر فأنكرنا حاله ورثينا له ، واذا الجسم القوى المضمور عظام تحت التياب ، ولكنا كنا نأمل له العافية ، ونرتقب ان نغتبط به معافى متهللا  كما كان .

وكان سفرى الى العراق ، فتركته راجيا ان ينجده الطب فيسترد عافيته ونضرته ، وتطول سعادة أصدقائه وغبطة الأدب به . وكتبت اليه من بغداد فلم أظفر بحواب ، ولم يكن ذاك من دأبه . فالتمست له عذرا من المشاغل وتمنيت الا يكون المرض شغله عن رجع الخطاب ، ثم علمت أنه سافر إلى استنبول وأن حاله  لاتبشر بالرجوع إلى مصر .

-٣-                                                                                     رجعت إلى حلوان افتقد زوراته بالنهار والليل ، وأندب

غدواتى وروحاتى اليه، ممسكاً بكتاب أو مُعِداً لحديث، وأتذكر                   مجالس عزّت عليّ من بعده، ومن لى بعد عاكف بمجالسه؟

وعلمت أواخر الصيف الماضى أن صاحبنا لما به ، وأن داءه قد استفحل ، وغلب اليأس الأمل . ثم انقطعت الأخبار ، وطال الانتظار ، وأرجفت الانباء ، ولم نظفر من الأمر بيقين . والتمسنا أخباره بالبريد والبرق فلم نستقر على نبأ

ثم طلعت جرائد مصر بالنعى ، وترادفت جرائد تركيا بخبره ، ولكن بالحسرة و والرثاء ، وبصورته ولكن فى ساعاته الأخيرة ، و بمشهده ، ولكن محمولا على الأعناق ، وبالخير اليقين ! ولكن فى بطن الثرى .

فإلى رحمة الله التقى النقى، وفى ذمة الله الأديب الألمعى،                                                   وفي رضوان الله   "شاعر الإسلام"

( للكلام بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية