ذهبنا في ختام المقال السابق إلي أن " حسان " يجىء في حلبة الفحول مصليا لا مجليا ، وهذا الرأي تؤيده كتب " الطبقات ، والروايات الأدبية التى ينقلها "العقد الفريد " وخزانة الأدب ( وغيرهما , فقد روت أن " حسان " وفد على " النعمان بن المنذر " فأذن له بعد أن تركه مدة على الباب ، وان " حسان ، خلا به ونادمه وأصاب منه مالا كثيرا ، حتى جاء " النابغة " فمدح " النعمان " ببائيته المشهورة ، فاهتز " النعمان " لشعره وأمر له بمائة ناقة من الإبل السود يرعاتها ؛ قال " حسان " فما حدث أحدا قط حدى له في شعره وجزيل عطائه " وذكروا ان " حسان ، كان يذهب إلي " النابغة " ليعرض عليه شعره وحتي الروايات التي تشيد بذكر " حسان " تحوي في طيها
إشارات إلي أنه كان دون " النابغة " وعلقمة الفحل " - مثلا - في شاعريته ؛ فقد روي أن " حسان " قال : أنيت " جبلة بن الأيهم الغساني " وقد مدحته ، فأذن لي ، فجلست بين يديه ؛ وعن يمينه رجل له ضفيرتان ، وعن يسارة رجل لا اعرفه ، فقال : اتعرف هذين ؟ فقلت : أما هذا فأعرفه. وهم " النابغة الذبيانى " وأما هذا فلا اعرفه . قال : هو " علقمة بن عبدة " , فإن شئت استنشدتهما ، ثم إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت . قلت : فذاك . مأنشده " النابغة :
كلبني لهم يا أميمة ناصب .. وليل أقاسيه بطئ الكواكب
قال : فذهب نصفي . ثم قال " لعلقمة " أنشد فأنشد :
طحا بك قلب في الحسان طروب .. بعيد الشباب عصر حان مشيب
فذهب نصفي الآخر . فقال لي : أنت أعلم الآن ، إن شئت سكت ، وإن شئت أنشدت ؛ فتشددت وأنشدت :
لله در عصابة . الخ
فقال لي : ادن - ادن ، لعمري ما أنت بدونهما , ثم أمر لي بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد ، وقال هذا لك عندنا في كل عام "
وكان الحطيئة ( ممن يجترئون على "حسان " ويحبون ان يغيظوه أحيانا : فقد ذكروا أن " الحطيئة " وقف على "حسان " وهو ينشد من شعره " فقال له " حسان " وهو لا يعرفه : كيف تسمع هذا الشعر يا أعرابى ؟ قال " الحطيئة ( : لا أري به بأسا ! فغضب " حسان " وقال : اسمعوا إلي كلام هذا الأعرابي ، ما كنيتك ؟ قال : أبو مليكة . قال : ما كنت قط اهون على منك حين كنيت بامرأة . فما أسمك ؟ قال : " الحطيئة " فقال " حسان " : امض بسلام " .
على أن " حسان " كان واثقا من شاعريته ,مزهواً بمقدرته وابتكاره . يقول في إحدي قصائده :
وقافية عجت بليل رزينة .. تلقيت من جو السماء نزولها
يراها الذي ينطق الشعر عنده .. ويعجز عن أمثالها أن يقولها
ويقول في أخري :
لا أسرق الشعراء ما نطقوا .. بل لا يوافق شعرهم شعري
وقد مرت الإشارة إلي افتخاره بلسانه وسيفه
لم يكن " حسان " - إذا - صعلوكا من صعاليك الشعراء ، ولا مداحا يتعرض للملوك ويستجدي عطاءهم ؛ ولكنه كان شاعرا ارستقراطيا ، صاحب منادمة وشراب ؛ وكانت شاعريته فيض العزة والبيان العربي . وأغلب الظن أن وفادته على الملوك " الغسانيين " كان مبعثها اعتزازه بصلة القرابة بينه وبينهم ، واعتزازه لما كان يلقي عندهم من جاه وتكرمة , وشعره حافل بهذا المعنى ، والروايات الأدبية
تؤيده كذلك : " فأبو عمرو الشبباني " مثلا - يروى الرواية التي أسلفناها عن اجتماع " حسان " و " النابغة " و " طقمة ؟ في بلاط " جيلة " ولكنه يجعل المجلس مجلس " عمرو بن الحارث الأعرج " ويذكر على لسانه أنه قال لحسان: "يا ابن الفريعة " قد عرفت نسبك في " غسان " فارجع ، فإنى باعث إليك بصلة سفية ، ولا تحتاج إلي الشعر ، فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك ".. فالمسألة - إذا - مسألة فرع من فروع البيت النساني يقدم علي أهله ويمدحهم ؛ ومدحه إياهم إنما هو من تلك الظاهرة التي أسلفناها ، وهي اعتزازه بقومه ، وتغنية بمجدهم ومآثرهم . وشعره هنا لا يقل جلالا وجمالا عن شعره هناك . ولكنك تلمح في أكثر قصائده في هذه المرحلة روحا سمحة متحضرة ، ونلمح فيها رقة وعذوبة وإمتاعا ، والكثير منها يحتوي في الغزل والنسيب والخمر قطعا مرحة راقصة لا في أسلوبها فحسب ، ولكن في موسيقاها
كان الغسانيون أصحاب دولة متحضرة متصلة بالروم وبالثقافة اليونانية . وكانت قصورهم مسرح اللهو والغناء والغيان والندمان ، وكان شعر حسان المظهر الغني لتلك الحضارة الزاهية ، تتغني به قبيلتهم ، ويستمع له ملوكهم . وقد حفظوا لحسان هذا الصنيع حتى بعد أن جاء الإسلام ، وانقطع هو عن زيارتهم ، وتفرغ لمهمته الجديدة في الدفاع عن رسول الله ) ص ( وعن المسلمين . ولعل من اطرف الروايات المطولة في هذه الناحية تلك التى يرويها " الأغاني " و" العقد " وغيرهما في شأن "جبلة بن الأيهم " آخر ملوك غسان . وما كان من وفادته على " عمر بن الخطاب " وإسلامه ثم تنصره ثانيا في حادثة لظم الفزاري ، وهروبه إلى "هرقل " وأهم ما في القصة من وجهة موضوعنا الحاضر طلب " جبلة " إلي جواربه ان يطربنه , وعنده رسول " عمر بن الخطاب " إلي "هرقل " فيندفعن يتغنين
يخفقن بعيدانهن ويقلن :
لله در عصابة نادمتهم . . الخ
فيضحك ) جبلة - حتى تبدو نواجذه ؛ ثم يطلب إليهن ان يبكينه ، فيندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن :
لعن الدار أقفرت بمعان .. بين أعلى اليرموك فالخمآن
ذلك مغني لآل جفنة في الده .. ر محلا لحادث الأزمان
قد أراني هناك دهرا مكينا .. عند ذي التاج مقعدي ومكاني . الخ
فيبكي حتى تسيل دموعه على لحيته ، ويذكر لجليسه ) رسول عمر ( ان قائل هذا الشعر كله ) حسان بن ثابت ( شاعر الرسول ) ص ( . ويبعث مع الرجل هدية نفيسة إلي حسان ويرجع الرسول إلي عمر ، ويخبره الخبر ، فيرسل عمر إلي حسان فيجيء وقد كف بصره وقائد يقوده فيقول : " إني لأجد رياح آل جفنة عندكم " ثم يأخذ الهدية وينصرف ، وهو يقول شعرا في مدح جبلة ؛ فيعترض عليه أحد من في المجلس من " مزينة " قائلا : أتذكر ملوكا كفرة ابادهم الله وأفناهم فيقول حسان : " والله لولا سوابق قومك مع رسول الله ) ص ( لطوقتك طوق الحمامة ) ١ (
هكذا كانت منزلة " حسان " عند عشيرته من " الغسانين ، وهكذا كان وفاؤه لذكراهم ، وحنينه إليهم حتى في الإسلام . ويظهر ان اختصاصه بهم كان كاختصاص " النابغة بالنعمان بن المنذر اللخمي " فلم ترو الروايات أنه ، زار أحدا من الملوك - غير آل جفنة - الهم إلا زورة واحدة كانت له إلي " النعمان " . ويظهر أن شاعرنا كان
يستعمل النثر احيانا في بعض موافقه بالشام ، فقد ذكروا أنه دخل على " عمرو بن الحارث الجفني " فقال : " انعم صباحا أيها الملك السماء غطاؤك ، والأرض وطاؤك ، ووالدي ووالدتي فداؤك ؛ اني يناوثك " المنذر بن المنذر ابن ماء السماء ؟ ! فوالله لقذالك أحسن من وجهه ، ولأمك أحسن من أبيه ، ولظلك خير من شخصه ، ولصمتك ابلغ من كلامه ، ولشمالك خير من يمينه . .
وبعد فهذه المرحلة من حياة حسان وشعره في الجاهلية قد وصلت بنا إلى النقط الرئيسية التالية : أن " حسان " كان عربيا أرستقراطيا ، نشأ في بيئة ذات سيادة وشعر ؟ وان فخره بقومه كان عنصرا بارزا في شعره ؛ وان المدينة كانت في أيامه علي درجة من الثروة والمعرفة والشعر ، وكان هو اشعر شعرائها البارزين الخمسة ، ولكنه لم يكن في الصف الأول من شعراء العرب علي العموم ؛ وانه كان معتزا بصلة القرابة بينه وبين ملوك الشام ينادمهم ويمدحهم ويجيد في هذا المديح ؛ وان شعره لم يكن في جملته وليد روية وتثقيف وتنقيح ، لذلك غلبت عليه السهولة ، إلا في مواطن الفخر فقد كان يفيض رصانة وشدة أسر . وقد كان علينا أن نعالج هنا أسلوبه في الهجاء ، ولكنا اثرنا أن نطرق هذه الناحية عند كلامنا على شعره في الإسلام ، فقد كان الهجاء ابرز مظاهره ، وأول أهدافه . ) للبحث بقية (

