الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 599الرجوع إلى "الثقافة"

شخصيات :, جمال الدين الأفغانى، والإصلاح الدينى

Share

قضية الإصلاح الدينى فى الإسلام كما واجهها الأفغانى ، هى قضية اليوم يواجهها الذين أشربت عقولهم وقلوبهم آراءه وتعاليمه على قدر طاقتهم فى فهم روح العصر ؛ ويبدو أن هذه القضية فى اتساع دائرتها ستظل أيضا قضية الغد ، حتى يبعث الله لها رجلا ، بل رجالا تتسع عبقريتهم للفصل فيها برأى قاطع يلائم بين وجهة الدين ووجهة المجتمع فى تطوره الدائب المستمر .

ومن الإنصاف فى البحث أن نقول إن قضية الإصلاح الدينى فى الإسلام قديمة العهد ، ترجع أصولها إلى القرن الثالث للهجرة ، إذ استمر الجدل بين علماء الكلام فى التوفيق بين تكليف الدين وتحليل العقل ، حتى تفرقت فى ذلك الفرق وتعددت المذاهب ، وراح كل فريق يتلمس باب الإقناع برأيه والإلزام بحجته ، فوجدوا فى الفلسفة اليونانية موردا مستساغا ينهلون منه على هواهم ، ولعل الذى أغراهم بذلك أنهم وجدوا فى تدليل الفلسفة حرية للتأويل واللجاج لم تكن نصوص الدين تسعفهم فيها ، وقد أدى هذا الاتجاه إلى صبغ التفكير الدينى بصبغة فلسفية جدلية يتوزع الرأى فيها بين طرفى الرفض والتسليم .

وفى ناحية أخرى جلس علماء المذاهب الفقهية يحررون الأحكام ويقررون الفروع ويتحرون نصوص الدين فيما يلائم مطالب الحياة الاجتماعية ، وفيما يتواصل به الناس من شئون العيش والأخذ بمباهج الحياة ؛ ولقد وقع بينهم ما وقع من الاختلافات الشكلية فى تأويل الألفاظ وتلمس التدليل على الأحكام ، ولكنهم كانوا جميعا يتفقون على غاية واحدة ، وهى تصفية العقائد الدينية وتهذيب العادات فى المجتمع الإسلامى ،

وترويض الطباع على الملاءمة بين مطالب الدنيا وتكاليف الدين ...

وتطورت الحياة الإسلامية من الناحية التاريخية إلى أبعد مدى ، واتسعت دائرة الدولة حتى أصبحت تضم أمما مختلفة ، وشعوبا متعددة الأجناس والأشكال ، وكل أمة لها بيئاتها وعاداتها ، وكل شعب له ثقافته وتعاليمه ، فكان هذا كله مما أثر فى الحياة الإسلامية الدينية . جدت نزعات جامحة من الرأى ، وفكرات متحللة فى العقيدة ، وميول متطرفة فى الأخذ بمطالب الدنيا وزخارف الحياة ، وشطحات غامضة من التصوف فى فهم الصلة بين العبد وربه ، فكان هذا مما حمل بعض رجال الدين على مواجهة هذه الحال بالتشدد وفرض الأحكام والمبادىء التى لا تتعددى مدلول النصوص الواردة . وقد كان لهذا التشدد أثر عكسى ، فلم يأت القرن السادس للهجرة حتى كان التفكير الإسلامى يخضع لما يسمونه فى التعبير الحديث (( بالروح المدرسية )) التى تقف بالفكر فى أضيق ما يكون من الحدود ، وقد أفزعت هذه الحال كبار العلماء والمفكرين الإسلاميين ، فأخذوا يقاومونها جهدهم ، حتى الغزالى وهو العالم المتصوف الذى وقف يناضل أصحاب النظر بالعقل من الفلاسفة ، نراه فى ناحية أخرى يناضل دعاة الجمود الفكرى من علماء الدين نضالا حارا تتجلى فيه براعة ذلك المفكر العظيم .

وعندما انتهت الحروب الصليبية كان الإسلام قد أسلم كل شىء عنده ، وكان المفكر الإسلامى قد تاه تحت أعباء الأحداث الفاصمة ، فاختفت الروح السمحة فى قبض من الوجهة اللاهوتية الجامدة ، وكان من الطبيعى أن تنفصم

العروة الوثقى بين الدين والدنيا فى الأخذ بمطالب الحياة والنهوض بأعباء الحكم والسلطان .

وكان المسلمون يحتفظون بالإسلام فى قلوبهم عقيدة لها طقوسها ومراسيمها ، ولكنها انمحت كقوة تصل المسلمين بنظم السياسة وأساليب الحكم واتجاهات الحياة الاجتماعية ، ولما تجددت الامبراطورية الإسلامية تحت لواء الخلافة العثمانية ظل هذا هو الوضع السائد ، وسرعان ما تجلت هذه الحقيقة واضحة على أثر انتهاء فورة الفتوحات واكتمال الغزو العثمانى إلى أبعد مدى وصل إليه ، إذ بدا الدين فى تقدير أولئك الناس أداة جامدة لا تساير روح العصر ، ولا تتمشى مع التيارات الجديدة التى تتصل بنواحى الحياة الاجتماعية والعلمية والفكرية والاقتصادية ، بل لقد تحولت الفكرة الإسلامية التى تستمد أصولها من الفطرة الإنسانية الصافية إلى سلسلة من الخرافات وشعوذات المتصوفة ، وأصبح علماء الدين أشبه بطائفة الدراويش ، كان الواحد منهم يطيل حباله ، ويوسع سرباله ، ويستذل الدين فى طلب الدنيا ، ويلفق عليه ما شاء من الغرائب والعجائب ، وينبش لذلك ترهات القصاصين وأساطير الإسرائيليين ، ويحاول بهذا إشباع العواطف الخامدة والعقول الجامدة عند العامة من جهة ، وعند أهل السلطان من جهة أخرى ، ليشبع من مبذول الصدقات ووقف الخيرات .

كانت هذه حال العلماء فى مصر وفى الشام وفى العراق ، على أنها كانت فى تركيا أعجب وأغرب ، فكنت ترى رؤساءهم وكبراءهم فى ردهات قصر (( يلدز )) يموجون فى أثوابهم الفضفاضة ويجلسون على الأرائك المصفوفة ومسابحهم بين أصابعهم يتمتمون عليها تمتمات لا تسمع ، ويظلون على هذا الساعات الطوال لا يتحركون فى مقاعدهم ، منتظرين دورهم فى المقابلة ليفضوا إلى الخليفة بتعبير رؤيا ، أو بنبوءة ، أو قراءة طالع ، أو وشاية فى شأن حاكم ، والخليفة من الضعف والتهافت بحيث يحظى بهذا كله ، حتى بلغ من سوء الحال أن سيطر رجل مثل (( أبى الهدى الصيادى )) على الخليفة  ((عبد الحميد)) بشعوذات التصوف وتلفيقات الدراويش كما سيطر راسبوتين على قيصرة روسيا ، فكان هذا الرجل الأفاق هو صاحب الكلمة والصولة ، لا ينال أحد مأربا فى الدولة إلا ببركته.       كانت هذه الحال بما أفضت إليه من عوامل الجمود

والخمود ، تستدعى الفزع إلى الإصلاح ، إن لم يكن بداعى اليقظة الفكرية والغيرة الدينية ، فخضوعا للضرورة التى تفرضها مطالب الحياة الجديدة وأساليبها ؛ وقد فكرت تركيا باعتبارها رأس الجسم الإسلامى فى ذلك الوقت فى الأخذ ببعض نواحى الإصلاح التى تلائم التطور الجديد ، فشرعت أول إصلاح تركى عام ١٨٣٩ م ، ولكن هذا الإصلاح لم يستمد أسسه من طبيعة الإسلام ومبادئه ، بل قام على المبادىء الفرنسية والاتجاهات الأوربية ، التى كانت تشير بها الدبلوماسية السياسية فى الخارج ، ويتنافس السفراء الأجانب لدى بلاط الخلافة فى فرضها على التقاليد الإسلامية ، وكان من الطبيعى أن يخقق هذا النظام ، لأنه لم يتصل بالروح الإسلامية ، ولم يلائم مشرب المسلمين وعواطفهم الكامنة فى نفوسهم ، وهكذا كان شأن كل إصلاح حاولته السلطات التركية والدوائر الرسمية فيما بعد .

أما فى الناحية الأخرى ، ناحية الجهود الفردية للمخلصين من رجال الدين ، فقد كان الأمر أجدى وأعود بالخير والنفع ، ويمكن أن تعتبر أول نقطة فى السعى إلى  إدراك الإصلاح الصحيح ، وبعث الروح الإسلامية القويمة بأمجادها وأحلامها وسماحتها فى تقبل أوضاع الحياة ومجاراة التطور فى تلك الخطة التى رامها - فى دائرة ضيقة محدودة - العلامة ابن تيمية ، إذ أخذ هذا العبقرى العظيم يحارب البدع والخرافات ويناضل الحشويين والفضوليين ، ويرد الإسلام إلى أصوله الصحيحة ونصوصه الصريحة ، وفطرته السمحة ، حتى حكم عليه أهل عصره بالكفر ورموه بالزندقة ، واتهموه بالمروق ، وألفوا فى ذلك الكتب والرسائل . ولكن الرجل كان قد بذر بذورا قوية فى بعض النفوس الصالحة ، فنمت وأثمرت ، وكانت دعوة محمد بن عبد الوهاب فى نجد ثمرة من هذه الثمرات ، وكانت دعوة هدفها الرجوع بالإسلام إلى طبيعته الأولى ، والعمل على أن يخرج هذا الدين ببساطته من الجزيرة العربية لقيادة العالم مرة أخرى ، كما خرج إلى ذلك من قبل. ومضى الوهابيون فى تنفيذ خطتهم عمليا ، وحشدوا لها جهودهم ، ورفعوا فى سبيلها السيف ، ولكن السيف لم يكن إلا سلاحا ضعيفا تافها أمام المدفع ، فما هى إلا جولة فى الميدان حتى طويت تلك الحركة أمام الجيش المصرى الذى أرسله محمد

على لمحاربة الوهابين تحقيقا لرغبة السلطة ..      وكان أن فتح على الإسلام باب جهنم ، ونعنى به باب الاستعمار الأوربى الذى أخذ ينتشر لافتراس تركة تركيا ومواجهة الإسلام فى عقر داره ، ولم تكن المسألة مسألة القوة فحسب ، ولكنها كانت أكبر من هذا وأخطر ، إذ أخذت أوربا تهجم على الشرق بثقافاتها وتقاليدها ودياناتها ، وفاض على العالم الإسلامى فيض المبشرين والمستشرقين والدبلوماسيين وغيرهم من طلائع الاستعمار ، وكل غايتهم تحطيم الروح الإسلامية بكل ما يملكون من مال وفير  وأساليب جديدة فى التفكير والدعاية والوصول إلى الهدف ؛ وكان هؤلاء الدعاة أحد ثلاثة : مبشر دينى متعصب يريد أن يقتلع الإسلام من أصوله ليزرع مكانه دينا آخر ، أو صاحب غرض سياسى يهدف إلى غرضه على حساب الدين والثقافة الإسلامية ، أو ملحد أوربى يقاوم الإسلام كما يقاوم غيره من الأديان ، وهو يطمع أن يجد فى هذا العالم المنهوك تربة صالحة لتقبل مبادئه ومباذله ، كل هذا والعالم الإسلامى غارق فى الجهل ، تقتله الخرافات والأوهام ، وتستبد به مظالم الحكام ، وتتلاعب به شهوات الولاة وأصحاب المآرب المتهمة ؛ فآلت هذه الحال بالإسلام إلى أحرج ما يكون من المواقف ، وأضيق ما يمكن من الحدود . ولعل الإسلام لم يواجه فى تاريخه فترة أقسى من تلك الفترة الأليمة ، ولعل هذا الدين لم تشوه معالمه وتمسخ تعاليه ، وتلفق عليه الأكاذيب والجهالات ، مثل ما ألصق به فى تلك الآونة المظلمة ، وما لحق به من جراء تلك الحال المنكرة ...

كان دعاة الخارج  يتهمون هذا الدين بأنه أداة جامدة لا تقبل التطور ، ولا تساير أوضاع الحياة الجديدة ، ولا تصل الإنسان بمطالب الدنيا ، ولا تستسيغ حرية الفكر ، ولا تحتمل طبيعته أساليب البحث العلمى واتجاهات النظر الفلسفي ؛ ويزعمون أنه ليس فى روحه ومنزعه إلا دعوة إلى التعصب وإصرار على الجمود ، واستسلام للقضاء والقدر . وكانت أبرع حجة لهم على ذلك ما يمثلون به من حال المسلمين الراهنة ، وما يمثلونه فى شئونهم الجارية ، حتى جازت دعاواهم على الكثيرين من الذين أخذوا بحظ من التعليم المدنى ، ولم يكن لهم أدنى حظ من التعليم الدينى ، وكثيرا

ما وجدت هذه الدعاوى المغرضة من يدعو لها ، ويبشر بها ، من المأجورين أو المخدوعين من المسلمين أنفسهم .

هذه القوة الهاجمة من الخارج ، كان يقابلها ضعف متخادل فى الداخل ؛ فعلماء الدين يتولون القوامة عليه ، وينصبون أنفسهم دعاة له ، لا يجيبون شيئا مما يجرى حولهم ، ولا يفقهون الخطر الكامن فى هذا الهجوم الموجه إلى دينهم ، بل لقد كانوا فى جمودهم وجهلهم هذا حجة للهاجمين ؛ فكلما مد الغرب على الشرق مده ، وكلما تغلغلت روافد الحضارة الأوربية والمدنية الحديثة فى أقطار العالم الإسلامى ، أمعن هؤلاء القوامون فى الانطواء على أنفسهم ، وفى الجمود بالدين على الرسوم الكلامية والمضاحكات اللفظية الفارغة حتى وقفوا بالإسلام بين جدران المساجد وحصروا مظهره فى السبال الطويل ، والسربال الفضفاض ؛ فكان الإسلام فى هذه الحال أحوج ما يكون إلى مصلح عظيم يبعثه بعثا جديدا ، فيرده على أهله قوة تصلهم بأرقى ما في الحياة من النظم الاجتماعية ، وتمكن لهم فى الأرض كما مكنت لهم من قبل ، وتطهر قلوبهم وعقولهم مما علق بها من أوصار الخرافات والترهات ، وآصار الشفاعات والتلفيقات ... كان الإسلام أحوج ما يكون إلى رجل يواجه قضية الإصلاح الدينى على هذا الوضع الذى امتدت إليه ، وتعقدت به ، وارتطمت فيه ، فكان ذلك الرجل هو جمال الدين الأفغانى .         ( للكلام صلة )

اشترك في نشرتنا البريدية