الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 633الرجوع إلى "الثقافة"

شرق وغرب

Share

من الواضح جدا أن هناك شرقا وغربا ، وأن هناك فارقا بينا محسوسا بين كل ما هو شرقي وكل ما هو غربي : الرجل الشرقي يختلف عن الرجل الغربي ، والمرأة الشرقية خلاف المرأة الغربية ، والحضارة الغربية شئ يختلف عن الحضارة الشرقية جملة وتفصيلا ، وقد تختلف الفوارق بين هذين العالمين ظهورا وخفاء ، وقد ينكرها من يحسب أن إنكارها يدخل في دعوي السلام ، والأخوة بين البشر ؛ وقد يهون من شأنها اختلاط الأمم وتداخل الوشائج بينها في هذه العصور الحديثة ، ولكنها قائمة مدركة يشعر بها الشرقيون والغربيون ، ولا يستطيع تجاهلها أشد الناس إيمانا بالإنسانية الشاملة ؛ إنها باقية محسوسة تعمل عملها في سكون حينا وفي صخب حينا . .

وربما كان الغريبون أشد إحساسا منا بهذه الناحية ؛ فما من كتاب غربي في التاريخ العام تقرؤه ، وما من وصف رحلة إلى بلاد الشرق تقع عليها عينك ، وما من صحيفة غريبة تتحدث عما نسميه مشاكل الشرق ، بل ما من رجل غربي تجلس إليه إلا أحسست بأنه يشعر شعورا مستمرا بأنه غربي ، وبأن هناك فروقا لا يمكن إنكارها بينه وبينك ، أنت الشرقي ، وقد يحاول أن يتظاهر بأنه

لا يشعر بها ، أو قد يجتهد في التهوين من شأنها ، ولكنك - مهما كان الأمر - تدرك تماما أنها قائمة ، وأنها تقوم كالحائل بينك وبينه ، وانك تشعر بها من ناحيتك  كما، يشعر هو بها من ناحيته .

وليس من الضروري أن يجعله هذا الإحساس يشعر بأنه أفضل ، أو أعلى مرتبة ، وليس من الضروري كذلك أن يجعلنا نشعر أننا خير أو أرقي منهم ، وإنما للهم أن الفارق قائم ، وانه محسوس به من الجانبين .

وقد كان جهدنا منذ مطالع العصر الحديث منصرفا في الشرق والغرب نحو إزالة هذه الفوارق بين العالمين . فتظاهر الغرب بأنه يفتح ذراعيه لنا مرحبا ، وسعينا نحن إليه في همة حينا وفتور حينا حتى أحسسنا في بعض الأحيان أننا انتقلنا من الشرق إلى الغرب ، أو أننا على الأقل أزلنا الحوائل والموانع ، فلم يعد هناك شرق وغرب ، بل عالم واحد ، وخيل إلينا أن كل ما يصلح للغربين إنما يصلح لنا فأخذنا من قواعد السياسة ونظم المجتمع ومعاني الحياة ما قدرنا عليه : أخذنا نظم الدولة ، وقواعد التربية ، ومواد القانون ، ومظاهر تنظيم المدن ، وأشراط الصحة العامة ، وسبل المواصلات وأساليب التفكير ، وأقبلنا على لغات الغرب

ندرسها ونتعمقها حتى بدت بعض نواح من بلادنا في " مظهر " غربي ، وأسرف بعضنا في التفاؤل فزعم لنفسه ولغيره أن المخبر أيضا صار غربيا ، ولكننا تنبهنا بعد طول العناء إلي أننا لا زلنا شرقين في الصميم وان عرق الشرق ينبض في نفوسنا ويردنا إلى أصلنا على رغم محاولاتنا : فالمدرسة المصرية الحديثة على رغم ما بذل من جهود في سبيل النهوض بها تكشفت آخر الأمر عن الكتاب القديم في روحها وطريقة التعليم فيها ، وإدارات الدولة الحديثة ليست آخر الأمر إلا دواوين الشرق القديمة . وإنك لتشعر إذا أقبلت على مكتب مدير مصري كأنك في دار الوزير العباسي على بن عيسي الذي كان ينقل أوراق الدولة وملفاتها إلى بيته ويكدسها في غرفته ، ويجلس بينها وبين يديه كاتبه أو كتابه ، ويدخل الناس جماعات جماعات ، يتحدثون إليه ويساعدونه وهو يملي ويوقع ويقرر ويصادر أموال الناس ، أو يمنح أصدقاءه ومادحيه آلاف الدراهم أو الدنانير ؛ لا زال المدير المصري الحديث هو الكاتب العباسي القديم رغم المكتب الحديث وآلة التليفون والبذلة الأوربية والرطانة الأفرنجية ، ولا زال العمل يجري بين يديه بنفس البطء القديم والإهمال القديم والاستهتار القديم ، لا زال العمل يجري من ساعة لساعة : لا يعمل اليوم إلا ما تمس إليه الحاجة القصوي ، ولا يهتم بأمر إلا إذا لم يكن من إنجازه مهرب ، ولا زالت الفوضي تضرب بجراتها على كل شئ : تدخل غرف الملفات فتجدها أكداسا فوق بعض ، ولا بد لك من ساعات حتى تعثر على ما تريد ؛ مع أنها إنما وجدت لتيسير البحث ، ولا زالت الأرقام والبيانات شيئا ثانويا يعطي على وجه التقريب لا على وجه التحديد ، ولا زالت ساعات العمل كما كانت في الماضي : يتهادي الناس إلى مكاتبهم على هينة ويعملون في راحة ، وينصرفون دون أن يفكروا فيما صنعوا وما لم يصنعوا ، لا يخيفهم تأخر ولا ترهبهم مسئولية ، لأن النفوس مازالت شرقية . والقلوب ما زالت راقدة مع القرون الحوالى ، والزمان يمضي

متمهلا لا يعرف في العجلة . والعجلة من الندامة كما يقولون .

فإذا تخطبت المظاهر ومضيت تبحث في الأعماق ، وجدت الشرق راقدا على حاله ، وسواء أكنت في مصر أم في الشام أم في بلاد العرب فالحال واحد ، ولكنا في الهم شرق كما يقول شوقي : مجتمع فقير تعيس لا يظفر الإنسان فيه بما يُسعد ، وأسر مهدمة متهاوية كثير العيال قليلة الموارد ، تعيش في بيوت لا أثر للنعمة فيها ، وتسكن مدنا هي أقرب إلى القري وقري هي اقرب إلي الحرائب لا تعرف الماء المصفي ولا تدرك ما هو الطعام النظيف ، أيامهم متشابهة ولياليهم تنقضي في ظلام ، لا يسيرون مع الزمن ، وإنما تمضى بهم الأيام كما تريد ، لا يشعرون بالحاضر لأنه في حسابهم ماض تلكا في طريقه ، ولا يشعرون باالمستقبل ، لأن الغد بيد الله والتطلع إليه لا يجدي . . وإنه ليس مجرد مصادفة أنك تجد الزمان في نحو اللغات السامية ينقسم إلى ماض ومضارع فحسب . أما المستقبل فمضارع تضيف إليه السين أو سوف ، وهما في إحساس الشرقي حرفان يوحيان إلى النفس معنى التشكك وعدم اليقين . .

وبعيدا عن هذا العالم الشرقي السايح في الأزل السرمدي تجد العالم الغربي يعيش على الأرض : يفكر أهله في كل شئ تفكيرا طويلا ، ويحسبون لكل شئ حسابا عسيرا ، لا ينامون الليل إلا إذا اطمأنوا إلى الغد ، ولا يدعون شيئا يمكن عمله إلا عملوه ، درسوا الأرض وما عليها . والبحار وما فيها . وصعدوا في السماوات حتى كادوا يدركون القمر . ومضوا في كل ميدان من ميادين النشاط البشري أشواطا لا نكاد تدركها لبعد مداها ، وقد يحاول بعضنا أن يقلل من أهمية هذه الأشواط التي قطعها الغرب ، فيزعم أنها كلها في نواحي الماديات ؟ وهذه مغالطه ظاهرة ، فقد بلغ الغرب في ميادين الروحيات أبعد من مدانا بكثير ، حتى الفلسفة والتصوف والتفكير الخالص ، وصلوا فيها إلى أضعاف ما وصلنا ؛ وأين فلسفتنا كلها من فلسفة رجل واحد مثل كانت ، وأين ما وصلنا إليه في العصور الوسطى في ميادين

التصوف مما وصلوا إليه هم في نفس الميادين ؛ لقد قسموا التصوف إلي علوم ومذاهب ودراسات ، في حين لم نزد نحن فيه على اعتباره ميدانا للشطحات والخيالات والفتوحات الربانية .

ولو أنك أردت أن توجز الفروق بين العالمين الشرقي والغربي في عبارة بسيطة ، لقلت إنه اختلاف في السرعة واختلاف في نوع العمل وطريقته . .

فأما من ناحية السرعة فلا خلاف في أن الأوربي يجري مع الزمن ، في حين اننا نستمهله ونبطئ حتى لنركد به . ونحن لا نستطيع مجاراته في هذه السرعة ، لأنها ترتبط آخر الأمر بالمزاج والطبع . إن مزاج الغربي فياض بالحيوية . لا يطبق الراحة ولا يستبغها ، وقد تربي هذا في طبعه بتأثير البيئة الجغرافية التي نشأ فيها ، وانت إذا نظرت إلى أوربي يعمل للاحظت الفرق بوضوح . فهو يعمل لأن العمل في طبعه والسكون لا يوافق هذا الطبع ، بخلاف الشرقى تماما ، فالعمل يؤذي طبعه ويؤلمه ، ومن ثم فهو لا يعمل إلا تحت الضغط والحاجة الماسة .

وأما من ناحية نوع العمل فقد تعود الأوربي ان يتقن كل شئ ؛ إذا بني كوخا فلا بد أن يكون محكما لا ينفذ فيه الماء ولا ينهار تحت الثلج المتساقط ، وإذا سعى لرزقه فلا بد أن يحصل مقدارا ضخما من القوت حتى يستطيع أن يعيش . أما الشرقي فرجل هين لين ، جوء رفيق وأرضه خصبة تنتج بأقل مجهود ، ومن ثم فهو لم يجد نفسه مضطرا إلى إرهاق نفسه . ولم يدرك الفرق بين العمل المتقن وغير المتقن . فأي كوخ يبنيه من البوص يكفيه . وأي طعام يدرأ عنه خطر الموت من الجوع ، ومن هنا فهو لا يدرك معنى العمل المتقن وأهميته كإيدركهما الغربي ، فكان عمله لذلك دائما غير متقن أو مضبوط ، وكان نوع عمله أقل قيمة من نوع عمل الغربي ، وقد كنت أتحدث ذات مرة مع مدير أوربي يشرف على مشروع ضخم في مصر ، فقال لي إن نوع العمل الذي ينتجه العامل الأوربي

يعادل خمسة أضعاف نوع عمل المصري ، أى أن عاملا أوربيا ينهض بما ينهض به خمسة من الشرقيين ، وأثبت لي ذلك بالإحصائيات .

وأينما وجهت نظرك وجدت الفروق قائمة بين الجانبين : فروق في النظرة إلى الحياة والطاقة العملية والخصائص عامة . فأما من حيث النظرة إلي الحياة فالشرقي ينظر إليها على أنها شئ خارج عن طاقته وانه خاضع لما تمليه عليه ، مُسير في تيارها ، في حين أن الغربي بشعر أنه سيد الحياة ولا يستريح إلا إذا سيطر عليها وأمسك زمامها بيده ؛ ومن ثم فهو لا يدع المقادير تتصرف فيه إلا بالقدر الذي يخرج  من طاقته ، ولا يستسلم للقدر إلا مرغما ؛ في حين أن الشرقي يستسلم له في المدة . وأما من حيث الطاقة العملية فالغربى صبور طويل الاحتمال لا يزال يحاول الأمر مرة بعد مرة حتى ينقاد له ، وإذا هول علي أمر فلا بد أن يبلغه أو يهلك دونه . وكلما أوغل العربي في الغربية ظهرت فيه هذه الخاصة صورة أقوى ، فعند  الغربيين من أهل الشمال تستوي الحياة وإدراك الأماني ، ويستوي الموت والفشل ، ومن ثم فهم أسرع الناس إلى الانتحار . لا عن خور ويأس ، بل لأن الحياة لا معني لها في نظرهم إلا بما يتحقق خلالها من آمال .

هناك إذا شرق وغرب ، هناك رجل شرقي ورجل غربي ، لا تستطيع أن تجد الفواصل بينهما في تحديدات الجغرافية أو فلسفات الفلاسفة ، وإنما تعرفها حينما تدرس طبائع الناس ، وتنتهي من بحثك إلى ما انهيت إليه في هذه الأسطر . ولست أريد أن أقول إن الشرقى أفضل من الغربي أو إن الغربي أفضل من الشرقي ، فهذا موضوع آخر . وإنما الذي أريد أن اقوله هو أن هناك نوعا من البشر يسكن الشرق آخر منهم يسكن الغرب ؛ ولن تستطيع مهما فعلت أن تجد نوعا إلى نوع إلا إذا كنت ممن لا يزالون ينظرون إلى الدنيا نظرة كيميائي القرون الوسطى إلى صنعته . فقد قضي مئات السنين يظن أنه مستطيع تحويل النحاس إلى ذهب . وعبرت به الأدهار ، والنحاس لا زال نحاسا .

اشترك في نشرتنا البريدية