" لشد ما أمقت العاشقين المتصابين . . " قالت هذا ماري نيكولز فجأة ، وبنغمة مرة حاقدة وكان زوجها التر نيكولز مضطجعا ضجعة مريحة على العشب بجانب كرسيها في حديقة الدار ، ففتح عينيه وسألها :
- لم أكن أعرف من قبل أن لك عشيقا ما . . فتهانفت المسز نيكولز قليلا وأجابت - لو فرضنا يا مغفل ، أن كان لي عشيق ، فهل كنت تستطيع العثور او التعرف عليه . . انما أعني انني لا اطيق وجود خطيب وخطيبة في منزلنا - أتعنين جورج وكارولين ؟ - إياهما أعني - أوه لا أدرى
قال هذا المستر نيكولز وهو عر بيده على موضع صدره مفكرا ، ثم اردف يقول : وتمنين بذلك منافراتهما التى لا تنقطع ، وتناحرهما وحردهما ثم تراضيهما . . فتتجلي الغمة دون أن يصيب ثالثا رشاش منهما . . ؟ أجابت ماري نيكولز زوجها :
- أهذا كل ما تعرفه من هذه القصة ؟ ! الا تدري يا ويلم بأنني عند كل وجبة طعام، لا استطيع الجزم فيما إذا كانا لا يزالان راضيين عن بعضهما ، ام قد فسدت علاقتهما فازور أحدهما عن الآخر . فإذا كانت الحالة الأولى جلس أحدهما في حضن الآخر ، وإذا كانت الحالة الثانية طوى أحدهما كشحه عن الآخر ، وجلسا إلي المائدة متباعدين صامتين ، وحملق كل منهما فى طبقه بعينين زائغتين وجبين مقطب ، دون ان يصيب من الطعام شيئا . . أجاب المستر نيكولز :
- على كل حال . . قليل من السكوت لا يضير احداً فكلنا نتكلم أكثر مما ينبغي . . فقالت المسز نيكولز وهي تلوح بيديها : ولكنه السكوت المطبق المض . .
وقصف المستر نيكواز سماخة من العشب النامي وأخذ يمضغها ، وقد شاعت على وجهه غفلة التفكير ، وامتد بصره إلى ناحية وادي وندال wandal ، والنهر المنساب فيه ، وقد انكست على صفحته أشعة الشمس فبدت أمواهه براقة . وأخيرا سأل زوجته :
- وما خطب جورج وكارولين يا ترى ؟ أهل كنا تتنافر مثلهما أيام كنا خطيبين ؟ أما أنا فلست بذا كر شيئا من ذلك . وكل ما يحضرني هو انك احرجتني نوبة او نوبتين فكدت اتخيل بأنى قاتلك لا محالة . . ومع ذلك ما خرجت عن طوري مرة واحدة . .
قالت المسز نيكولاز : - لقد طال العهد علي خطبتهما . . ولا أشك في أن هذا هو السبب . وقد صممت على الا آدمهما يجتمعان عندي كرة اخري ، دون ان يكونا قد تزوجا ، او افترقا على خير . . ماذا ؟ اذلك جورج الذي اراه قادما نحونا ؟ - أجل هو بعينه . . وكأنما أراه يجر ساقيه جرا ، كحصان عربة الموتي .
كان جورج كاردل ( cardell فتى كبير الجسم قويه ، مشغوفا بالألعاب الرياضية صادق الأحدوثة ، وكان موفقا في عمله بالوظيفة . وله من العمر ستة وعشرون عاما . واقبل فسلم ، وقد لمحت المسز نيكولز امتقاع لون وجهه واكداده ، فاستطلعته النبأ ، وهل اختصم مع كارولين ، فقال : بلي ، وإن كارولين قد صرعته ، ورمت إليه بخاتم الخطبة .ثم ارتمي على الأرض بائسا منكسر الفؤاد .
وأثار منظر جورج عطف المسز نيكولز، فراحت
مخفف من لوعته ، وتهون عليه وقع المصاب ، قائلة : إن كارولين قد نفرت غير مرة ، ثم ما لبثت ان عادت إلي مقناها . . ولكن جورج اكد بأن كارولين كانت جادة في الفراق هذه المرة . بدليل أنها قذفت في وجهه بخاتم الخطبة ، فسألته المسز نيكولز
- هل لك أن تصدقني سبب هذه القطيعة ؟ أجاب جورج : - لا شئ . . سوي ما قلته لها عن جيوفري هاريسون - جيوفري . . ؟ ذلك الغلام الرخو الغر . ؟ الذلك غرت منه ؟
- طبعا لا . إنما لم أطق رؤية كارولين تتملق إليه ، في حين - وانا خطيبها - لم احظ منها بنظرة عطف ، او بإماءة وداد . ولابد انها تعمدت مكايدتي وتوكيس قدري أمامه . ولا أ كتمك بأن حماقتي هي التي جرت على هذا الوبال .
فقال المستر نيكولز مصححا : لا بل حماقتكما . أنت وهي !
وأقبلت المسز نيكولز على جورج تحاول فض الخلاف ، فصرحت له بأن هذا التنابذ تعود أسبابه - من وجهة نفسية - إلى طول عهد الخطبة ، ونصحته بأن يسرع فيبني علي كارولين ، لئلا يفقدها إلى الأبد . ولكن جورج ابدى اعتراضا ، بأن ما لديه من دراهم ، وحني بائنة كارولين مضافة إليها ، لا تفي بمشروع الزواج . وقال إنه وكارولين كانا قد هولا منذ البداية ألا يقدما على زواج إلا متى اطمأنا إلى وفرة مالهما ، بحيث يكفل لهما السعادة في حياتهما الزوجية . ومع ذلك اتفقا على أن يقضيا مدة الخطبة في سمة من العيش وألا يجهدا في التقتير والتأخر ، شأن بعض قرنائهما من الخطيببن ، وان يظلا عاقلين مهما طال
زمن الخطبة . ولكن المستر نيكولز لم يرق في عينيه هذا الرأي . وسخر من زعم جورج بأنهما " سيظلان عاقلين " ثم نهض وانصرف
واستطاعت المسز نيكول بعد لأي إقناع جورج بأن دخله الثابت من وظيفته ، مع ما يشاع عن ترقية له عاجلة ، خير ضامن له المشروع في امر الزواج راشدا . ونصحته بالذهاب إلي كارولين والإفضاء إليها مما عقد العزم عليه ، وسيري ما يدهشه من رقة قلبها وقبولها بالأمر الواقع
وامتثل جورج للنصيحة ، ولكنه لم يكد يبتعد عن المسز نيكولز قيد خطوات معدودات ، حتى طلعت عليها كارولين من مخبأ قريب بين اشجار الحديقة ، وقالت بأنها شاهدت جورج ينصرف من نسبها فزاغت عنه ، إذ قد عزمت على العودة إلي بيت أبيها في مدينة تميلتون ، وبأن المستر نيكولز قد تلطف فرضي بأن يوصلها بسيارته إلي محطة هلستون لتستقل قطار الساعة ٤٥ و ٣ بعد الظهر . ولم تكد المسز نيكولز تفتح فاها لتمحض النصح لكارولين كما محضته جورج منذ هنيهة ، حتى كانت هذه قد طارت من عندها وتوارت في الأفنان كأنها جنية ، إذ كانت قد لمحت جورج عائدا إلي المسز نيكولز ، وهو ما زال يبحث عنها في أطراف المنزل .
وجاء جورج فأخبرته المسز نيكولز بما انتوته كارولين واشارت عليه بأن يسبقها بسيارته ، ويركب القطار في المحطة الواقعة قبل هلستون . وفي هلستون يلتقي بها في القطار ، ويسعى في حملها على قبول الزواج حالا
وقف القطار في محطة ساذام satham الصغيرة قبل مروره بهلستون ، وعلى الرصيف شاهد فرد كروبر fred cropper حارس القطار ، فتى ممتلئ الجسم أشعث الشعر تبدو عليه مخابل الاضطراب ، يقفز إلى القطار . . وفي هلستون رأي الحارس نفسه ، فتاة صبيحة الوجه
ممشوقة القد ، كأنما تصلح لتكون ممثلة سينيمائية ، تنزل متهادية من سيارة المستر نيكولز ، الذي يعرفه كروبر حق المعرفة ، ثم تتجه إلي القطار وتدخل عربة السيدات . . وقد لفت انتباهه أن ذلك الفتى الأشعث ، كان يراقب الفتاة لمعرفة أى من الحجرات ستستقر فيها .
وجاز القطار محطة صغيرة ، هي اقرب ما تكون بالموقف الوقتى ، دون ان يزيد وقوفه فيها عن لحظات ، فرد كروبر الفتى ينزل من عربته ويسترق الخطي كاللص نحو عربة الفتاة ، ثم بلجها ، فداخله الشك في الأمر ، وتراءت له أفكار شريرة . . وتصور وقوع جريمة في القطار ، إذ كان قد قرأ في الكتب أن رجلا قطع أوصال امرأة في ظروف اشبه بما يشاهده الآن ، ولكنه نبذ هذا الوهم من مخيلته ، وانصرف إلي عمله الرسمي ، كحارس لضمان سير القطار
وكانت كارولين قابعة في ركن من أركان الحجرة ، موزعة الافكار ؛ فهي بين راض عن هجرها حبيبها وبين آسف على ما بدر منها من طيش وغرور ، وقد برمت بالقطار فأطلت من النافذة لتسري عن نفسها بمشاهدة المناظر التي تمر امامها ، فإذا باب الحجرة ينفرج لا لتدخل عجوز ورهاء كي تصدع رأس كارولين بقرؤتها كما تبادر ذلك إلى ذهن كارولين ، بل ليدخل جورج كاردل خطيبها منذ ساعات ، فانتفضت قائمة وبادرته بقولها :
- جورج ! ماذا جاء بك إلى هنا ، وكيف ؟ - تالله ماذا تعنين بهذا العبث والتجنى ؟
واقترب منها وهو يحدجها بنظرات قاسية نفاذة ، ثم شرع يشرح لها القضية متعطفا ، وقد لان الآن طبعه وانفرجت أساريره ، وكاشفها بما عقد عليه العزم من شروع فى الزواج ، وهى ساكنة مصغية ، وقد شعرت برعدة تسرى فى أطرافها ، لم تستطع لها تعليلا ، أمن الخوف ورهبة
الموقف كانت أم من السرور ، أم من هذه الأشياء مجتمعة ؟ ثم قالت بلهجة المتحدى : - هذا شأنى لا شأنك . أجاب جورج :
- أصحيح ما تقولين . . شأنك وحدك ؟ واقترب منها وقد تجهم وجهه واكفهر . فارتاعت كاورلين ، وغاظها هذا التصرف الفظ من جورج وتلفتت حواليها فى طلب النجدة ، فوقعت عيناها على إعلان ملصق فى أعلى جدار الحجرة يقول : " لكى توقف القطار اجذب الشريط المجاور . . . جزاء سوء الاستعمال خمسة جنيهات ، فسرعان ما امتدت يدها إلى الشريط قائلة لجورج وهى تصر بأسنانها :
- إذا اقتربت منى قيد فتر ، شددت الشريط ! فتضاحك جورج وقال : إياك أن تفعلى أيتها الرعناء . وحسب أن كارولين تدرك مغية جذب الشريط ، إذ لا يلجأ إليه إلا فى حالات النذر الهامة كوقوع جريمة ، أو دهم عرض مفاجئ . وخطا خطوة إلى الإمام ، ولكن كارولين أخلفت ظنه ، وجذبت الشريط بشدة . . فإذا هو مرخى بيدها ، بعد أن كان مشدودا محصدا
وشهق جورج : يا إلهى . . لقد فعلتها ! وأحست كارولين بفداحة خطئها ، وشرع القطار يخفف من سرعته تدريجيا ، وهى واقفة كالمشدوهة ، وفى طرفة عين نزلت من علياء كبريائها ، وعادت فتاة غريرة وجلة ، تستمد الغوث من حاميها الطبيعى قائلة :
- والآن يا جورج . . ما العمل ؟ . فحار جورج هو الآخر ورجع الصدى قائلا :
- والله لا أدرى ما العمل . . على كل حال ، لقد كنت تقصدين اتهامى بشىء ما . . أليس كذلك ! . فامضى فى الاتهام دون حيدة . . إلا إذا أردت أن أقول لهم بأننى أنا
الذى جذبت الشريط من قبيل العبث ، وأننى مستعد لدفع الغرامة . .
ورجفت كارولين دون أن تصل إلى قرار ما ، وقالت : - ها إن القطار يكاد يقف يا جورج ، فماذا أنت فاعل ؟ !
وقدح جورج زناد ذهنه ، فلاح له منفذ سرعان ما هم إليه ، واستلقى على الأرض مخاطبا كارولين :
- لقد أغمى علىّ . . قولى لهم هكذا . . وانتابك الفزع فالتمست الغوث . . أفهمت ؟ - ولــكنك ستلطخ ثيابك . - كان عليك أن تفطنى إلى هذا الأمر قبل جذبك للشريط ياعزيزتي . .
ثم قال بنبرة العتاب التهكمى : ومهما يكن من شئ فلماذا تهتمين بأمر ( قذارتى ) الآن . . ! وأسبل جورج جفنيه ببرود ، وانتفض القطار انتفاضته الأخيرة ، ووقف .
كان حارس القطار المستر فرد كروير ، أكثر الناس ارتعابا وتوجسا للشر ، إذ لم يحدث قط من قبل أن جذب شريط القطار الذي يعمل فيه ، وأحس بأنه لابد مواجه أمرا جللا ، وتراءى له ذاك الفتى الأشعث الأغبر ، الذى استقل القطار من محطة ساذام ، ثم تسلل إلى حجرة الفتاة الحسناء التي ركبت فى هلستون . وتوقع ، وهو مقدم على العربة التى انجذب منها الشريط ، أن يلحق به توم تيلور Tom Taylor سائق القطار ، ليشد أزره إذا دعا الأمر . ولكن هذا اكتفى بأن أطل برأسه من حجرته ، زاما باستغراب أسارير جبهته الكدراء . . وكأن سائر الركاب الآخرين كانوا ممن حرموا غريزة حب الاستطلاع ، إذ ظلوا فى أماكنهم ، ولم يعن أحد منهم ولو بالاستفسار عن سبب وقوف القطار . .
واقترب كروير من الحجرة المشئومة ، وهو هياب ،
وتسلقها وأجال بصره فى داخلها ، فأجفل إذ رأى الفتاة واقفة كالصم ، والفتى منطرحا عند قدميها . فقال فى نفسه : لله درها من فتاة مسترجلة . . صرعته ولم تبال . ! وولج الحجرة ، وقد زايله بعض الخوف ، فبادرته الفتاة :
- أيها الحارس . . أرجو ألا كون قد أزعجتك . . لقد أغمى على هذا الرجل ولم أدر ماذا اصنع فجذبت الشريط
فلم يصدق كروير قول الفتاة . وظن أن فزعها من الجريمة قد ألجأها إلى هذه الحجة ، فتقدم من الفتى وجس موضع القلب ، فوجده ينبض . فطمأن الفتاة بأنه ما يزال فيــه رمق . . واستفسر عن نوع الأداة التى صرعت بها الفتى ، فأجابت كارولين وهى لا تخفى اندهاشها ، بأنها لم تمسه بسوء ، بل إن إغماءة فجأنه ، فقال لها كروير :
- لا حاجة لك يا انسة إلى مثل هذا القول . . فكل ما فعلته ، إنما كان دفاعا عن الشرف . قبحا له من (زبون) قذر . . ! فعارضته كارولين قائلة : - ولكنني لم أفعل به شيئا ، إنه . . إنه . . صديق لى ولمح المستر كروير تلعثمها ، فزاده هذا تصديقا ، وظن بأن الفتاة تريد أن تتجنب الفضيحة ، بعد أن أيقنت من بقاء الرجل حيا . . غير أن واجبه يقضى بألا يدع هذا (الوغد) يفلت من طائلة القانون . وأخيرا جاء توم تيلور سائق القطار مستطلعا الخبر فقال له كروير :
- لقد داس هذا الرجل حرمة الحجرة التى تجلس فيها هذه الفتاة ، فلقى منها عدل الجزاء . . وهى الآن تحاول أن تجعل منه صديقا لها . فانبرت كارولين نقول : - أجل إنه صديقى . . وقد سافرنا نحن الأثنين معا فاندفع كروير اندفاعة المستنطق البارع يقول : - الآن قد برح الخفاء . . وبان تلفيق الأنسة .
.انهما لم يسافرا معا . لقد رأيته يرقبها من نافذة حجريته ، وهي تركب القطار من هلستون ، ثم ينسل إلى حجرتها في المحطة التالية
فقال توم تيلور ، مع أنه لم يكن يتبين من جورج سوى طرف حذائه:
-لا غرر في ذلك . . فدلائل (الثعلبة)بادية عليه فالتفت إليه كارولين مقضية قائلة : - إنك ياسيدي مخطئ فيما ذهبت إليه . . ثم إن الرجل خطبي . .
فهز فرد كروبر رأسه ، كمن لم يصدق حرفا واحدا مما تقوله كارولين ثم خاطبها يقول : - ولكنك قلت منذ هنيهة بأنه صديقك . . إنني شديد الأسف يا انستي ، إذ علينا واجب ينبغي ان نؤديه . . هيا ياتوم . . دعا ننقل الرجل من العربة .
وتهافتت كارولين على المفسد حيري ساخطة وماذا تراها فاعلة وقد أصبحت شخصا غير مقبول الشهادة أما جورج . .. فقد يكون لديه رأي صائب ، ولكنه لابد مدرك ان من الأفضل ان يظل في غيبوبته ، ربما تستطيع هي أن تتدبر الأمر ، وتلطف من جو عدائهما نحوه .
وحملا جورج ووضعاه على المشب بمحاذاة الخط الحديدي . وسمعت كارولين السائق توم تيلور يخاطب رقيقه قائلا :
- لنوقظة أولا ياقوم . ثم تستوضحه جلية الأمر قف فوق رأسه ربما أعود ، والدم (1)به الأرض ، إذا ما حاول النهوض وإتيان أمر ثم يم شطر الفاطرة يبغي تنفيذ فكرة رسخت في نفسه .
ولما طال وقوف القطار ، أخذ ركابه من سكان وادي و ندال wandal ينزلون أحادا وزمرا ، وبتجمهرون حول الصربع ، ليستموا إلى فرد كروير وهو يتلو عليهم القصة
كرة بعد اخرى . فضاقت كارولين ذرعا ، ورأت الخرق في اتساع ، وانه قد ان لها ان تقوم بعمل حاسم . فدلفت من العربية ، وجاءت فوقفت فوق رأس الصريع ، ثم التفتت إلى الجمهور كما فعل مارك أنطونيوس ، وهو واقف فوق رأس قيصر . . وشرعت تخطب فيه فقالت :
- اسمعوني ياقوم وعوا ماسأقول . . إنكم قد ارتكبتم فاحش الخطأ . ولقد غركم من نبأكم . فهذا الرجل إن هو إلا خطيبي ، وقد تلاحيت وإياه صباح اليوم وفسخت خطبتي به، فلحق بي إلى القطار ، وما كاد يلج على باب حجرتي حتى خر مغشيا عليه من فرط الوجد والإعياء ، كما تررون . هذه هي السيرة من ألفها إلي يائها .
ونفذت كلمات كارولين إلي قلوب جمهور النظارة من سكان وادى وندال ، وقلبوا صور الرواية ، كما صورتها كارولين ، فوجدوها سليمة المنطق . ولم يعد هذا اللقى في نظرهم وغدا ثيها ، ووافلا زنيا ، بل إن منهم من جهر بالعطف عليه والرثاء له . ورأت كارولين ان دورها المسرحي الذي عرفت كيف تتقن اداءه لم ينته بعد . فقابلت ما بين يدها على صدرها ، ونكست رأسها ، فبدا منظرها الجميل حزينا يستدر الرحمة من القلوب الصلدة ، وتابعت خطابها بصوت منهدج قائلة :
ولا أخفى عليكم أيها السادة والسيدات . . بأنني أحب الرجل حبا جما . آ
ولاحت على محيا جورح ابتسامة مرتعشة رقيقة ، ولكنها مبتسرة (1) ، لم يستطع لها إخفاء . فوكزته كارولين بقدمها بشدة ، خوف اقتضاح الأمر ، ففاضت الإبتسامة لتوها .
وقد أحدث خطاب كارولين أثره المطلوب في نفوس الركاب ، حتى إن المستر فرد كروبر قد رق قلبه ، وتلاشى
ما كان يشعر به من غل نحو جورج ، وود لو أنه ينهض ليعانف حبيبته الوالهة
يبد ان جورج قد أجاد هو الاخر تمثيل دوره ، بأن ظل ساكنا سكون الحجر . ورأت كارولين الجو صالحا المضى في الرواية حتى الفصل الأخير ، فوكزت جورج وكزة لها مغزاها ، فما كان منه إلا أن انتفض من إغمائه وزفر زفرة مديدة ، صحبتها انه خارجة من اعماق قلبه ، ثم اختلجت عيناه عدة مرات ، قبل أن تنفتحا ، ونطق بالعبارة المألوفة في مثل هذه الحالات :
- أين أنا . . أين أنا - ؟ ! واعتمد على مرفقه ، ونطلع فوقمت عيناه على كارولين فصاح : كارو ..حبيبتي !-
ثم ارعى على الأرض مفمضا عينيه مرة اخري . ووقف الركاب بنعمون بهذه الرواية الشائقة ، وقد كادت تختتم على خير وجه ، لولا ان فاجأهم توم تيلور سائق القطار الذي كان قد غاب عنهم قليلا ، يحمل دلوا أفرغه من غدير مجاور ، قد أسن ماؤه ، وتوالدت فيه الدعاميص ، وطفت فوق سطحه الطحالب ، وعلق على جوانب الدلو غبار الفحم الحجري وسناجه ؟ مع تقدم من جورج دون ان يفطن إليه احد ، ودلق معظم الماء في وجهه ، يريد أن يوقظه من غشيته .
لقد كانت هذه (الغمسة )كفيلة بأن توقظ المغمى عليه حقا ، فكيف بالمتصنع . . وهب جورح واقفا وهو يشهق شرقا بالماء ، وقد تعلق الحشيش بخصل شعره ، وسالت خيوط من الطبن على عارضيه وذقنه ، وترا كضت الدعاميص مذعورة على عنقه وصدره . فكان منظرا مزريا يدعو إلى الضحك والألم معا .
وقد اغتم الحاضرون من فعلة نوم تيلور ، إذ اصبحوا الآن في صف جورج . وارتاعت كارولين فانحنت عليه مولولة شاكية ، وضمته إلى صدرها ، فأصابها من البلى بقدر ما أصابه .
وعجب المستر تيلور كيف أظهر الركاب سخطهم عليه ، وعهده بهم حاقدين على جورج ناقمين منه ، فأراد ان يورطهم ، وأنذرهم أن يقيئوا (1) إلى القطار في لحظات ممدودات ، وإلا برح المحطة بدونهم . فهبوا إلى حجراتهم خفافا ، متدافعين بالمناكب ، مخلفين جورج وكارولين ، واقفين وحدهما وقفة نابية ، ولكنها مباركة . وما لبثا ان شرعا يتداولان خطط مستقبلهما . غافلين عمن حولهما ، ودون أن يقطنا إلى القطار الذي أخذ يتململ المسير بعد ان دوت صفارته عاليا في الفضاء
وجاءهما المسترك كروير عند اللحظة الأخيرة ، ونبههما فانشبها ، وركضا إلى القطار جذلين ، متأبطين ، تشيمهما نظراته الشفيقة الراضية . (القدس)

