(مجموعة من الأقاصيص التحليلية أصدرها الأستاذ حبيب الزحلاوي، وقدم لها بهذه الكلمة الأستاذ العقاد):
من المزايا التي يحسن أن تتوافر للكاتب القصصي أن تكون حياته صالحة لموضوع قصة أو قصص كثيرة، سواء في مساعيه الخارجية أو تجاربه النفسية
وهذه مزية قد توافر منها النصيب الوافي لصديقنا الكاتب الفاضل صاحب هذه المجموعة منذ نشأته الأولى، فعرف الجهاد في سبيل الوطن، كما عرف الجهاد في سبيل العمل، وتمرس بالناس كما تمرس بنفسه، واختبر حياة الأسرة وملابساتها، كما اختبر حياة المجتمع الشرقي وملابساته، وزار - مع هذا - بلاداً غير بلاده الشرقية، فسنحت له فرص شتى للمقابلة والموازنة والاستفادة من هنا وهناك
وليس أيسر على القارئ من أن يلمس هذه الحقيقة في صفحات هذه المجموعة القصصية. فهي ترجمة الأديب كاتبها موزعة بين قصة وقصة وبين صفحة وصفحة، يكاد من له ولع بالمشابهات والتوفيقات أن يستخرجها ويجمعها في نسق واحد، فإذا هي قصة واحدة، وإذا هي ترجمة حياة
توخى الأستاذ حبيب أساليب شتى في سرد الوقائع وإبلاغها إلى نفس القارئ، ووفق في جميع هذه الأساليب إلى التشويق الذي ينبغي أن يكون غرضاً من أوائل أغراض الكتابة القصصية على خلاف مذهب الطائفة الأخيرة من متحذلقة العصر الحاضر، التي تنكر التشويق أو تعجز عنه، كأنما تنفير القارئ غرض من الأغراض في اعتقادها يقابل ترغيب القارئ فيما اتفق عليه القصصيون والكتاب على الإجمال
وشاعت في ثنايا الوصف أو السرد عبارات متفرقة في مواضعها الملائمة لها، تشتمل إلى بلاغة وحسن تمثيل، كقوله في وصف لحظة انتظار: (تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن، والزمن لا ينفك من الأزل، وسيبقى مدى الآباد يسر بنظام محكم الضبط، فعلام اختل اليوم نظامه، وهدأت دورته، وتركني وحدي أنا: الشاذ المضطرب، الصاخب والهادئ، المفكر المبلبل. . . أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك. . . علام تركني في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة. . .)
أو كقوله على لسان البطلة في قصة مع الريح: (قلت له مرة، هل تستمد الوحي من أغصان الشجر أو من أفواه النيل الجارية؟ إنك دائم ترويح النظر بين هذه وتلك. وكأني به ارتاح إلى ملاحظتي فابتسم ابتسامة رقيقة: من القلب وحده يستمد الإنسان وحيه)
أو كقوله على لسان تلك البطلة تخاطب أختها: كتبت لي تعنفني على استرسالي في معاشرة ذاك الشيخ الذي توسل بوعد الزواج بي للوصول إلى غاية تنفى نبالة القصد من الزواج فتنبهت. اطلقني ملامك الصارخ من البحر الخضم فصيرني كالضفدع أقفز على اليابسة ولا أجرأ على الابتعاد من المستنقع الآسن. . .)
وهكذا في أمثال هذه التعبيرات الموفقة في معارض شتى تتخلل الأقاصيص التي اشتملت عليها المجموعة
ولا حاجة بالكاتب إلى سبب يرجع إليه وهو يقدم قصته لقرائه بعد أن يكفل لهم المزيتين اللازمتين في كل كتابة
لا في كتابة القصة وحدها وهما: صدق الرواية عن الحياة وحسن التمثيل لما رواه
وكلتا المزيتين بينة في قصص الأستاذ حبيب على ما نلاحظ خلالهما من هفوات لغوية تعهد في العصر الحاضر عند كتاب كثيرين، وتشفع لها هنا حسنات تميل إلى الرجحان ويخرج منها القارئ وهو رابح الميزان
