الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 596الرجوع إلى "الرسالة"

شعب مصر

Share

لاقيت في هذا الأسبوع ثلاثة من مفكرينا: أحدهم وجهاً  لوجه، وبيدي مقال أستعرض فيه ما نشكوه اليوم من مظاهر  الانهيار الأخلاقي، وألتمس علاجاً لهذا الانهيار في إصلاح نظمنا  السياسية والاجتماعية، علما مني بأن التربية وبث مبادئ  الأخلاق في النفوس لا تكفي وحدها لتقويم النقص. ولقد أخذ  محدثي على المقال ما فيه من قسوة، وعنده إنه من الخطر أن نجسم  للشعب مواضع ضعفه، لأن ذلك التجسيم قد يزيده ضعفاً،

وأنه لأجدى على هذه الأمة أن نحاول رد الثقة إليها، حتى ولو  لم تكن تلك الثقة على أساس سليم، وأما فضح العيوب، فذلك  ما لا ينبغي. وأضاف، وهو من ذوي الأمر، إنه كثيراً  ما يتجاهل مواضع الضعف الأخلاقي فيمن يعملون معه، ويردهم  إلى الأخلاق، وكأنه يستمدها من نفوسهم ذاتها، فإذا نقل  إليه أحدهم قيلة سوء، فسرها على إنها قيلة خير، محاولاً حمله  على أن يكون إلى الخير قصده، وعنده أن ذلك أجدى في معالجة  النفوس من هتك ضعفها وأخذها بالقسوة ساقني هذا الحديث إلى النظر في الحكم على الشعب المصري

ووجوب مهاجمته بالحقائق أو سترها عنه، واتفق أن قرأت  في هذا الأسبوع كتابين لمؤرخين من رجالنا، فلاقيتهما على  صفحات ما كتبا، ولمست عند كل منهما اتجاهاً في الحكم على  الشعب المصري يغاير اتجاه الآخر. فأما أولهما، فقد استلفت  نظري حكمه في بعض مواقفه التاريخية، حكماً لا يخلو من  صرامة، حتى لقد وقع في نفسي موقع السيف، وخشيت أن  يكون صحيحاً، ولأضرب لذلك مثلين: الأول تفسيره  لاستقرار الحكم وازدهار المدنية أيام الظاهر بيبرس وغيره  من المماليك، برغم ما كان في حكمهم من شدة وعسف بقوله  تفسيراً لخضوع المصريين وعدم ثورتهم للحرية: (إن ثمن  الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة،

ولما كانوا   (أي المصريون)  يكرهون النصب أكثر مما يحبون  الحرية، فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة)؛  وفي قوله:   (إنهم يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية) ،  ما يملأ النفس رهبة، فتود لو لم يكن حقيقة. وفي موضع آخر  يفسر نفس الكاتب سخط الشعب المصري على الفرنسيين وثورتهم  ضدهم أيام الحملة الفرنسية بمجرد حرصهم على ما ألفوه. . . فقد  رأوهم يقلقون عاداتهم ويزعزعون أساليب حياتهم الموروثة،

فيكرهونهم على نوع من الحياة لم يألفوه، في مقاومة الأمراض،  وتنظيف الشوارع، وما إلى ذلك، فثاروا بهم، وهذه أيضاً  قسوة في الحكم، لأن الكاتب لم يشأ أن ينسب إليهم  ما نستشعره نحن اليوم من عاطفة وطنية، أو تعلق بحرية وذود  عن استقلال. وهذا منهج قد تمليه الروح العلمية التي تلزم  المؤرخ بأن يحكم بعقلية من يكتب عنهم، لا بعقليته هو،

ولكنني مع ذلك أخشى أن يكون مؤرخنا قد أسرف في القسوة  وأسائل نفسي: هل من الحكمة، بل هل من العدل، أن نحكم  على الشعب المصري أحكاماً كهذه؟ ونحن في مجال التاريخ  نحرص على الحقيقة أكبر الحرص، ولكن ما هي الحقيقة  التاريخية؟ وفي كل تاريخ نوعان من الحقائق: وقائع، وتفسير

لتلك الوقائع؛ فأما الأولى، فمن الواجب الوصول إليها بجمع  الوثائق ونقدها، وعلى العكس من ذلك تفسير تلك الوقائع،  فهذا ما لا تحمله الوثائق، وإنما يصل إليه المؤرخ باستنتاجه  الخاص، وهنا يكون تفاوت المؤرخين؛ وتدخل شخصياتهم  بحيث نستطيع أن نناقش أحكامهم دون أن يكون في مناقشاتنا  خروج على المنهج العلمي السليم

وباستطاعتنا أن نناقش المؤرخ السابق بآراء الكاتب الآخر  الذي لاقيناه يتحدث عن زعيم مصري تركزت فيه يوماً نزعات  شعبنا، وهو السيد عمر مكرم. فمؤرخنا شديد الحماسة لتطلع  هذا الشعب إلى الحرية منذ أوائل القرن الثامن عشر، وهو يرى  أن ظهور السيد عمر مكرم كان استمراراً وخاتمة لمحاولات عديدة  قام بها زعماء الشعب المصري الصميم للمساهمة في الحكم، وحمل  الباب العالي على تعيين من يرتضونه والياً على مصر. وعنده أن  سنة ١٨٠٧ هي التي وضعت حداً لتلك النزعة الشعبية، وذلك  لأن محمد علي عاهل مصر الأكبر، وإن كان قد وصل إلى الحكم  بموجة شعبية قوية قادها السيد عمر مكرم، إلا أن ضرورة  الحكم، وحرص هذا المصلح الكبير على أن يحث الخطى في  النهوض بالبلاد ورفع مستوى الحضارة بها، قد اضطراه لسوء  الحظ إلى أن يرفض عرض السيد عمر مكرم في تلك السنة  مساهمته هو والشعب المصري في عونه على رد الإنجليز عن رشيد.

والرأي عند مؤرخنا أن هذا الرفض قد أثر في تربية الشعب  السياسية، وباعد بينه وبين الاهتمام بأمور الدولة والمشاركة فيها  نحواً من خمسة وسبعين عاماً، أي من سنة ١٨٠٧ إلى ثورة  عرابي، وهنا أيضاً لا ندري إلى أي حد قد بلغ عطف المؤلف  على الشعب المصري، والى أي مدى قادته الرغبة في تمجيده؟!

ويقف المرء حائراً. . . أي وجهة يوليها في حديثه عن هذا  الشعب الذي نبغي كلنا خيره؟ هل نمس في رفق عيوبه، ونواريها  عنه إلا بمقدار، ليظل محتفظاً بثقته بنفسه؟ أم نشق عنها  الحجب، ونلقي الضوء كاملاً لعله يثيب؟ وإذا عالجنا ماضيه، هل

نقسو في الحكم، أم نلين؟ وهل نحابيه، أم نزجره؟ إذا لم يكن بد من أن نفصل في هذه الاتجاهات العويصة،  وجب - فيما أظن - أن نفرق بين الحاضر والماضي: فأما  الحاضر، فالحكمة في أن نحدد فيه البصر حتى لا يأخذنا غرور  مميت. وباستطاعتنا أن نتجنب الخطر بالا نقف عند تصوير  العيوب، بل نلتمس لها العلاج. وليس من شك في أنك لن  تستطيع حمل النفوس على قبول جديد وتغيير قديم ما لم تبصرهم  بما في هذا القديم من عيب. والأمم لا يمكن أن ترقى ما لم  يشتد بها النقد، وفيم الرغبة في التغيير إذا لم يؤمن الناس  بضرورته؟

وأما عن الماضي، فلعلنا نكون أقرب إلى الروح العلمية  الصحيحة كلما كانت نظرتنا أكثر عمقاً وأكبر اتساعاً. وآفة  الأحكام في تفسير الظواهر كثيراً ما تأتي من التعميم، فالمصريون  مثلاً إذا كانوا يكرهون النصب ويؤثرون السلامة أكثر مما  يحبون الحرية، فإن ذلك لم يمنعهم عندما يشتد بهم الاستبداد  من أن يغامروا بسلامتهم مؤثرين الحرية على كراهة النصب.

وفي حركاتهم الثورية أيام الحملة الفرنسية وعرابي ودنشواي  وسنة ١٩١٩ أدلة على صدق ذلك. وهم إذا كانوا بفطرتهم  محافظين يكرهون الخروج على ما ألفوه فيثورون، إلا إنه قد  لا يخلو من ظلم أن نرد حركتهم كلها إلى هذا الباعث، فهم  إذا كانوا لم يتحركوا لفكرة الاستقلال الوطني بحكم تبعيتهم  المتصلة للدولة العلية وعدم نشوء فكرة الانفصال عندهم إذ ذاك،

إلا أن الشعور الديني مثلاً كان لا ريب من الحوافز التي يجب  أن تضاف إلى نزوعهم إلى المحافظة على ما ألفوه. وها هو ذا الجبرتي  نفسه يحمد الله أن سخر طائفة من النصارى   (الإنجليز)  لطرد  طائفة أخرى   (الفرنسيين)  من أرض الوطن، وبذلك يتحقق  - فيما يقول - قول النبي صلى الله عليه وسلم:   (إن الله يؤيد  هذا الدين بالرجل الفاجر) . وهل من شك في أن الدافع الديني

كان من محركات سليمان الحلبي مثلاً في قتله لكليبر. ثم هل  من الحق أو من الحكمة أن نجعل من الشعور الوطني عاطفة  تنهض بذاتها منفصلة عن مصالح الأفراد الذين يكونون الوطن؟

ونحن ممن يعتقدون أن الوطنية ليست شعوراً بذاته، وإنما هي  مجموعة من المشاعر يستند الكثير منها إلى مصالح الناس ووسائل  حياتهم، ولهذا لن نمل تكرار القول بأن الوطنية الحقة لن تملأ  نفوس المواطنين إلا إذا أحس كل منهم إنه عزيز في وطنه،

ميسور الرزق في كرامة، متمتع بحياة تليق بالإنسان، وإنما  يظهر انفصال الشعور الوطني عن غيره من المشاعر والمصالح عندما  يحدث التعارض، وهنا يكون للمؤرخ الحق في أن يقسو في  أحكامه أو يلين، وأما عندما تتساوق مصالح الناس ومصالح  الوطن، فمن الظلم أن يأتي المؤرخ فيفسر الحركات الوطنية بالدافع  الأول دون الثاني

ونجمل الرأي بأن الخير هو دائما في اتساع النظرة سواء  نظرنا في الحاضر أو في الماضي، فأي أمة لا يخلو ماضيها  أو حاضرها من مواضع ضعف ومواضع قوة؟ ومن الواجب  إبراز الجميع ليكون في إظهار الضعف حافز للكمال، وفي  إظهار القوة داع للثقة

اشترك في نشرتنا البريدية