الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 190الرجوع إلى "الرسالة"

شعراء مصر وبيئاتهم، فى الجيل الماضى

Share

أحوج ما يحتاج إليه أدبنا سواء فى ذلك قديمه وحديثه، معرفة  مكانة الأدباء والشعراء، لا من حيث البلاغة والفحولة والمعاني  الشعرية فى ذاتها فحسب، بل من حيث الخاصية النفسية لكل منهم  ونوع مزاجه ووشائجه الإنسانية ونظرته إلى الطبيعة وفلسفته فى الحياة  إن كانت له نظرة وفلسفة

وقد تناول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فى كتابه الأخير  شعراء الجيل الماضي يتخللهم بلحظه الناقد وطبعه القويم، فإذا الرعيل  المحشود فى صعيد واحد تتبين له ألوان وشيات مهما خفتت وتقاربت،  وتتميز له ملامح وسمات مهما خفيت وتشابهت، وإذا بكل شاعر من  شعراء ذلك الجيل مبيت فى حيزه، وكل أمر من أموره مقرر فى نصابه.  وقد انتظم الكتاب بين دفتيه الساعاتي وعبد الله فكري وعبد الله نديم  وعلي الليثي ومحمد عثمان جلال ومحمود سامي البارودي وعائشة التيمورية  وحفني ناصف وإسماعيل صبري والسيد توفيق البكري ومحمد عبد المطلب  وحافظ إبراهيم وشوقي ثم كلمة ختام عن مدارس الشعر بعد شوقي والأستاذ العقاد فى كلامه عن هؤلاء لا يرسل القول إرسالاً،  بل يدعمه كعادته بما أحاط به تحصيله الواسع وأدركه تفكيره العميق  من بحوث عالية فى رسالة الأدب للحياة وموازينه الصحيحة والفروق  الفاصلة بين شعر الصنعة وشعر الطبع وبين الذوق الخاص والذوق العام (فالذوق ذوقان: فأما الشائع منهما فهو الذوق الذي يتملى الجمال  ويستحسنه حين يراه معروضا عليه. وأما النادر منها فهو الذوق ا لذي يبدع الجمال ويضفيه على الأشياء ولا يكون قصاراه أن يتملاه  حيث يلقاه أو يساق إليه.

فالذين يحبون محاسن الطبيعة كثيرون يحسبون بعشرات الألوف  وكل من يخرجون إلى الرياض ويجلسون على الجداول ويسهرون فى

القمراء ويستمعون إلى شدو العصافير ويبتغون منازه الأرض في  المواسم وأيام البطالة - هم محبون للطبيعة يشغفون بها كما يشغفون  بالفرجة والاسترواح. وقد يشبههم فى هذا بعض الأحياء التي تغرد  على الشجر كلما آن الأوان أو تأوي إلى الظلال والأمواه كلما حنت  إلى الراحة وبرد الهواء.

ولكن هذا هو الذوق الشائع كما قلنا، وليس هذا هو الذوق  الخالق المحيي الذي يضيف من عنده شيئاً إلى شعور الناس بما يراه  ويصفه ويحكيه

إنما صاحب الذوق الخالق المحيي هو الذي ينقل إليك إحساسه  بالشيء القديم الموجود بين جميع الناس، فإذا بك كأنك تحسه أول  مرة لما أودعه فيه من شعور وما أضفاه عليه من طرافة. فإذا وصف  البحر أو السماء أو الصحراء أو الروضة فكأنما هو يجعلها بحره وسماءه  وصحراءه وروضته لفرط ما مزج بينها وبين مزاجه وشعوره. وتسري  إلى القارئ هذه الجدة فيرى هذه المناظر بعين غير التي كان يرى  بها مألوفاته

ومن ذاك المعين الفياض نبع وصف الأقدمين للطبيعة ومحاسنها  ومخاوفها فتمثلوها - لفرط شعورهم بها - عرائس وحوراً وأطيافاً  وأرواحاً وبعثوها جنة وشياطين وأغوالا. لأنهم عاشوا فيها وعاشت  فيهم فمزجوها بدمائهم ولم ينظروا إلى الطبيعة كأنهم ينظرون إلى    (سجادة)  منسقة الخيوط مزبرقة الألوان مريحة لمن يمشي فوقها أو  ينام عليها كما يستريح العديد الأكبر من رواد الرياضة فى منازه الخلاء

فالرياض - عند الشاعر من هؤلاء - والخمائل والجداول والأنهار  والسماوات هي بعينها رياض زوار   (المواسم والآحاد)  وخمائلهم  وجداولهم وأنهارهم وسماواتهم لا تزيد ولا تنقص. . . . وأن بيتاً  واحداً كبيت البحترى الذى قاله فى الربيع:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما

ليساوي كل ما نظم شاعرهم فى ربيعياته وريحانياته: لأن الطلاقة  والاختيال والبشاشة والحسن الذي يهم بالكلام هي علامات الربيع  المبثوث فى النفوس. وكل كلمة من هذه الكلمات تدل على النفس الحية  التي تشاهد الربيع أكثر من دلالتها على الربيع الظاهر فيما يبدو  للعيان أو على   (السجادة)  المزخرفة بالأصباغ والنقوش والدوائر

والخطوط. . . ولو لم يكن البحتري قد أحس بشاشة الطلاقة وزهو  الاختيال وفرح الحياة النامية ونجوى الحسن المتكلم حين شهد ربيعه  لما كان لزاما أن يذكر هذه الكلمات ويجمع بين هذه الصفات.  ولكانت له مندوحة عنها بوصف الأحمر أو الأخضر يبحث له عن  أحمر أو أخضر مثله فى محفوظات المشبهين، وبوصف العطر يطلق  حوله الند والبخور، وكلمة من هنا وكلمة من هناك عن الخدود والعيون  والوجد والهيام على نحو ما يفعل شعراء الصنعة

وشعر الصنعة ليس على نهج واحد كله، فمنه ما هو زيف فارغ  لا يمت إلى الطبيعة بواشجة ولا صلة. وليس فيه إلا لفظ ملفق وتقليد  براء من الحس والذوق والبراعة. ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة  ولكنه - كما قدمنا - منقول من القسط الشائع بين الناس. فليس  فيه دليل على شخصية القائل ولا على طبعه ولا تتبين فيه لمحة من  الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس   (الخاصة)   إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز. وليس هو من أجل ذلك بالشعر  الذي هو رسالة حياة ونموذج من نماذج الطبيعة. وإنما ذلك ضرب  من المصنوعات غلا أو رخص على هذا التسويم

والفرق بينه وبين شعر   (الشخصية)  إن الشخصية تعطيك الطبيعة  كما تحسها هي، لا كما تنقلها بالمجاورة والسماع من أفواه الآخرين.  فهذه هي الطبيعة وعليها زيادة جديد مطلوبة أبداً، لأن الحياة والفن  على حد سواء موكلان بطلب   (الفرد)  الجديد أو النموذج الحادث،  أو موكلان بطلب   (الخصوص)  والامتياز لتعميمه وتثبيته والوصول  منه إلى خصوص بعد خصوص وامتياز بعد امتياز واقرب ما يمثل به لذلك زارع يستنبت صنوف الثمار لينقي منها    (المميز)  فى صفة من الصفات المطلوبة. فإذا عثر بالثمرة الواحدة التي  وصل فيها إلى غرضه قومها وحدها بعشرات الأفدنة من الثمرات  الشائعة عند غيره، لأنه بهذه الثمرة الواحدة ليستأثر بالطلب والإقبال  ويعفي على ثمرات الشيوع والعموم

وهكذا الشخصية الممتازة فى عالم الشعر أو فى عالم الحياة عامة:  (هي عندنا وعند الحياة التي أنشأتها أقوم من جميع المتشابهات الشائعات  وإن كن جميعاً مطبوعات غير مقلدات ولا زائفات وإنما يستحق الشعر أن يسمع ويحفظ حين يكون كهذا الشعر  - وقد أورد الأستاذ أروع الأمثال عليه - الذي يرينا ما فى الدنيا  وما فى نفس إنسان، ونعرف فيه الطبيعة على لون صادق ولكنه  أيضاً لون بديع فريد لأنه لون القائل دون سواه، فتجتمع لنا غبطة  المعرفة من طرفيها، ويتسع أمامنا أفق الفهم وأفق الشعور، إذ يتكرر

الشعور الواحد باختلاف الشعراء كأنه مائة شعور، ويتكرر فهم  الحقيقة الواحدة كأنها مائة حقيقة، وتلك هي الوفرة التي تتضاعف  بها ثروة الحياة، ونصيب الأحياء منها) وفي هذه الصفحات التي أدمجناها ما يجعل الإضافة والتعقيب  فضولاً منا. وإن القارئ بعد هذا الذي قدمناه لاشك مؤثر أن  يخلو بالكتاب ونفسه

اشترك في نشرتنا البريدية