الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 692الرجوع إلى "الثقافة"

شكسبير وبرناردشو

Share

من أعظم كتاب الأدب الإنجليزي والعالمي ، لا شك في ذلك ولا ريب ، وبينهما في تاريخ الوفاة ثلاثة قرون ، غير أنهما يتقاربان ويرتبطان .. في كثير من ظروف حياتهما .

أما شكسبير فانجليزي أصيل ، وشاعري مسرحي ضجت أكف الناس من التصفيق لأثارة ، وظل مغمورا في محيط التقدير الأدبي فترة طويلة ، حتى استعادت مسرحياته مكانها منذ أول القرن التاسع عشر .. وقد مات في سن الستين .

أما برنارد فإيرلندي ثأئر، عرف بالسخرية والدعابة والصراحة كسمات بارزة لأدبه . وضع المسرحية للقراءة ، قبل المسرح ، وعاش حتى نيف على المائة ..

لكنهما ، بدا حياتهما فاعلين ، وذاق في صباهما وفخر شابهما مرارة الفقر والحرمان وأم البؤس والشقاء . . ولم يكملا تعليمهما . وأقبل كل منهما على الحياة أول الأمر إقبالا وصف بالتسكع ، غير أنهما أحبا القراءة والموسيقى والفنون ، ففتحت أمامهما آفاق العالم . كان شكسبير يقف على أبواب المسارح ينتظر خيول كبار المتفرجين ، وكان برناردشو يعيش على ستة بنسات طوال يومه ..

كان كل منهما عبقريا فذاً ، منحه الألم والحرمان قوة على أن يتبين بعد طريقه ، ويتعرف الوجهة التى يستطيع أن ينجح لو اتعبها ، ولم يحل التعليم القليل ، ولا الفشل البادئ، مع المثابرة والصبر والكفاح دون النجاح والوصول إلى الثروة ..

أما شكسبير فقد بلغها مبكراً ، إذ أتيح له أن يؤلف المسرحيات وأن يمثلها وأن يثير بها عواطف الناس ، وان يكسب بها الأموال .. وأن يصل إلى غاية ما يطمح إليه . . أما برناردشو فقد أتاح له ارتفاع السن وطول العمر ، أن يصل إلى المجد . . فقد ظل محتفظا بحيويته وقوته ، إلى آخر أيام حياته ، ولو مات شو في سن مبكرة ، لما أمكن أن أن يصل إلى المكانة التي بلغها . فهو بالرغم من حملاته التأثرة ونقداته اللاذعة في فجر حياته لم يلمع نجمه إلا في سن الأربعين .

ولو مات " شو " في السن التي مات فيها بيرون وشلي لما أتيح له أن يعتقد هذه المكانة .

ويقول النقاد إن موت " أوسكار وايلد " قد أفسح له الطريق ، ثم استطاع شو أن يبرز عليه في بعض الجوانب الفنية .

ومن أهم ما يربط بين شكسبير وشو . . حب المغامرة والاستطلاع ، فقد تسلق شو مرة أحد أسوار البساتين العالية ، وأخذ يجمع ثمار التفاح حتى تجمع له ما يقرب من الأربعين، ثم قفز السور وفر هارباً ، ثم تسلق مكانا عاليا غفة ورشاقة ، وراح يلتهم التفاح واحدة بعد الأخرى .

ومثال هذه أو قريب منها ، ما يروي عن شكسبير ، فقد قبض عليه هو وبعض آرابه يتسورون حديقة يملكها  عظم في قريتهم ، وهم يسرقون عددا من غزلانه ..

وقد جمع بينهما ، على بعد الزمن حب السرح ، فقد اشتغل كل منهما به وألف له . . وقد أحب كل منهما ، وشغلته المرأة . أما شو فقد تزوج في سن الأربعين وماتت زوجته بعد سنوات قليلة ، وكان يحبها ، ولم يتزوج من بعدها .

أما شكسبير فقد اختلف معها وانفصل عنها قبل وفاته بوقت غير قليل ، وكان يقاسي في أيامه الأخيرة بعض الآلام . ويري شو أن حبه المثالي عن طريق البريد ، وكان يحلو له أن يقضي الساعات عاكفاً على كتابة خطاب مطول ، وكان هذا أجمل أوقات حبه .

فإذا ذهبنا نستعرض بعد ذلك وجوه الخلاف بين الرجلين وجدناها كثيرة متعددة ؛ أما شكسبير فيذهب في الخيال بعيداً ، فهو شاعر حلو العبارة ، فياض الروح أولع بالدماء وأحب مرآها ، وحشد لها في قصصه الكثير من المشاهد ، وهو لا يدع الستار ينزل إلا على مصرع أبطاله جميعا . ليس شك في أن مرجع ذلك إلي نفسية شكسبير، الذي كان يعاني نقصا " وجدانيا " في حياته الخاصة ، يبدو واضحا جلياً

في ذلك الغموض الذي يلف بعض قصصه ، وذلك الإصرار على اللون الأسود ، لون المآسي العنيفة ، التي لا شك كان يجعلها وسيلته إلى التنفيس عن مكبوت عاطفته .

فهو يبدو من وراء آثاره في صورة من الحزن والمرارة والحنين إلى المجهول ، كأنما حرم بعض ما يطمح إليه من الزاد الروحي الذي كان دائما مطمح العباقرة الأفذاذ .

لقد كان شكسبير يكافح ويقاسي ويغالب متاعب الحياة في صدر شبابه . عاش الحياة في صورها المتعددة ، من الشارع إلى القصر ، وأجهده السعي في سبيل الرزق ، واتصل بالبيئات المختلفة ، وعاني صنوف الالم في الحب جميعا ، وذاق المتاعب حتى استطاع أن يصل إلى المجد ، فكان حقيقا أن تكون مسر حياته صورة من حياته . .

لقد امتاز فن شكسبير بتلك الروح التي دبت في الآداب الحديثة منذ قرن من الزمان . روح تعرية العظماء والكشف عن دخائل العباقرة ، والبحث وراء خفاياهم ومكنونات نفوسهم ، ورفع الطلاء المزيف الذي فرضه الطبل الأجوف على حقائقهم .

ولقد برع شكسبير في هذا الفن ، فهو أول من كشف عن البطولات ، ومزق من فوقها تلك الأغلفة البراقة المزيفة وجردها على حقيقها .

ولعل هذا هو السر الذي بعث ادب شكسبير مرة اخري بعد أن طوى قرنين من الزمان .

أما برناردشو فكاتب تغلب عليه نزعة السخرية العنيفة اللاذعة ، أولع بنقد كل شئ ، الديمقراطية ، والعظماء ، ورجال الدين .

وبلغ ذروة نقده عند ما هاجم الإنجليز ، أكثر من مرة ، وكان من أبرز هذه الصور موقفه في حادث دنشواي وفي قضية مراكش .

وهو الذي كتب عن عصبة الأمم القديمة يقول : " في جو جنيف الهادي ، الوطنية تموت ، والوطني هناك جاسوس لا يمكن قتله " .

وهو الذي يقول عن الأمريكان إنهم قرويون ، وإن في المائة منهم تسعة وتسعين أغبياء بلهاء . أغرم منذ فجر حياته بالموسيقى والسمفونيات ، واشتغل

بالنقد المسرحي والموسيقي سنة ١٨٨٨ ، ثم ترك الصحافة وانقطع إلى تأليف الدراما سنة ١٨٩٧ .

وقد استطاع أن يلهم الإنتاج الفكري العالمي ، أتاح له ذلك طول عمره وحياته الطويلة التي امتدت في القرنين التاسع عشر والعشرين .

يحب شو من الأدباء أو سكار وايلد وصمويل بطر ، وقد امتدحهما ، وكان صديقاً لتولستوي ، وقد غض من قدر شكسبير على حساب " أبن " الذي رفع من قدره . وكان شو ببغض كينج ودارون أشد البغض ، وكان يعارضهما معارضة شديدة .

أما ولز فقد كان صديقه أيام الجمعية الغابية ، ثم اختلفا مع امتداد العمر ، وقامت بينهما معارك حامية حول وجوه الإصلاح .

ورفض شو جائزة نوبل في الآداب وهي ٣٥ ألف شلن ، وكتب يعتذر عن قبولها قائلا : إني لست في حاجة إلى المال الذي هو مثل حزام نجاة ألقى إلى سباح عند ما وصل إلى الشاطئ سالماً .

وكان كلفا بالسخرية ، حتى إنه عندما قابل المشعوذ في سلك الأولمبيا قال له : " كل ما في الأمر أن مهرجا قديماً يحيى زميلا له .

ولم يشرب شو الخمر ، ولم يقرب اللحم ، وكان يحض على التقشف والزهد ، ورحل طويلا إلى خارج وطنه مما لم يتح لشكسبير ، فزار جنوب أفريقيا وروسيا ونيوزلندا وأمريكا.

ولم يجد شو ما يمنعه من أن يتحدث عن نفسه في صراحة في كتابه أنصاف المتعلمين ، حيث يقول إنه من " أولئك الذين لم يتمكن ذوهم من تزويدهم بالعلم ، واضطروا إلى الانقطاع عن الدرس في سن المراهقة وكسب أرزاقهم بالعمل أسوة بصغار الكتبة ، وندعو هؤلاء باسم ، أنصاف المتعلمين .

ومن هؤلاء شكسبير ويونيان وبليك وتولر والجر ، ومنهم جان جاك روسو وسينوزا " . ثم يقول : " إنني أعزو نجاحي في الحياة وشهرتي إلى أنني أكثر

(البقية على الصفحة التالية)

ثقافة وأحسن تربية من خريجي معاهد الأشراف وكبريات الجامعات .

وحين يرد على أحد سائليه من الأوباء المعمرين يصور جانباً من حياته بما يبعث على الإكبار : " في إمكانك الحصول على بطاقة للدخول إلى المتحف البريطاني فتجعل منه غرفة للقراءة وملجأ تأوي إليه كل يوم .. كما فعلت أنا في كثير من السنين ، وكما فعل من قبلي ماركس وصمويل بطلو طيلة حياتهما .

" تعود الكتابة في دور المتاحف والمقاهي التي يكثر فيها الضجيج والحركة ، وإذا عجزت فلن تستطيع الكتابة في أماكن أخرى ، فقد كتبت معظم مؤلفاتي في محطات السكك الحديدية وعربات النقل وعلى ظهور السيارات الكبيرة "

وبعد : فقد هاجم شو شكسبير هجوما عنيفا لا مسوغ له ، فاتهمه بأنه قصير التفكير وإن كان قوي الملاحظة . ويقول : إنه كان يعبر عن نفس آرائه على لسان شخصياته ورواياته ، أما هو - أي شو - فقد صور الحياة كما هي . ويري أن شكسبير صنم يجب تحطيمه ، وانه لم يكن له عقيدة أو برنامج معين ، فكل تصميماته بسيطة ، غير أن

عبقريته عملت على إجادتها . ثم يقول : " لقد مات شكسبير قبل اوانه ، وهل لك أن تصدق أنني عشت ثلاثين سنة أكثر منه ، وأن مسرحياتي كتبت في سن مبكرة لم يدركها هو . . إن يتهوفن ألف السمفونية التاسعة في سن كان فيها شكسبير في عداد الموتى ، وأبسن كان أصغر من شكسبير عشر سنوات عند ما كتب آخر كتبه " سيد البنائين " وكتبت أنا بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة قصة " ثينوزيلا " .

إذا فكلنا وقوف على كتفيه ، فعلى كتف من وقف هو ؟ أعلى كتفي مارلو وشابمان ؟ لا هذا ولا ذاك ، فلقد كانا خيرا منه وأجدى إذا قارناهما به " .

ثم يمضي في هجومه فيقول : " إن شكسبير هو المسئول الوحيد عن انهيار الدراما ثلاثمائة سنة بعد موته حتى جاء وقتي ..

إن مسرحياته كانت مكروهة وقاتلة ومشوهة حتى بعث فيها هارلي جرانفيل باركر الحياة وأخرجها إلى الدنيا على المسرح . إن شكسبير أطول مني بكثير ، ولكني أقف على كتفيه ".

اشترك في نشرتنا البريدية