- ۲ -
كانت أول مدرسة خصوصية شهدت نظام المحررين والمصححين هي مدرسة الطب البشري ، غير أن هذا النظام أصبح تقليدا فيما بعد . فألحق بكل مدرسة خصوصية مصححون لمراجعة الكتب التي تترجم بها ، وحتى مدرسة الألسن فإنها خضعت لهذا النظام ، وذلك لأن الكثيرين من خريجيها لم يكونوا من أبناء الأزهر ، بل جمعوا من مكاتب أو كتاتيب - الأقاليم ، فكانوا - رغم دراستهم اللغة العربية في مدرسة الألسن على فطاحلها في ذلك العصر - في حاجة إلي من يراجع كتبهم ، ويصحح لغتها ، ويقوم أسلوبها! وسنحاول فيما يلى أن نتحدث عن هؤلاء المصححين وأبرز جهودهم :
في مدرسة الطب البشري :
١ - الشيخ محمد عمران الهراوي :
هو أقدم وأول من عين من المصححين بمدرسة الطب ، ولا نستطيع أن نحدد بالضبط في أي سنة عين ولكنه عين قطعا قبل سنة ١۲٤٨(۱۸۳۲ م ) وهي السنة التي طبع فيها أول كتاب طبي ترجم في مدرسة أبي زعبل ، وهو كتاب " القول الصريح في علم التشريح " وترجمه المترجم السوري يوحنا عنحوري . وقام على تصحيحه الشيخ الهراوي بالاشتراك مع الشيخ أحمد حسن الرشيدي .
وقد قام الشيخ الهراوي بتصحيح كل الكتب الطبية التي ترجمها المترجمون السوريون : عنحوري ، وفيدال وسكاكيني ، فلما عاد أعضاء البعثة الطبية الأولى من المصريين بدأ يراجع ترجماتهم كذلك ، فكان أول كتاب راجعه من هذه الكتب هو كتاب " الأربطة الجراحية " الذي ترجمه
الدكتور إبراهيم النبراوي ، وطبع في بولاق في سنة ١٢٥٤ ه .
وكان كلوت بك قد انشأ - في السنوات الأولى من تأسيس مدرسة الطب - مدرسة تجهيزية لإعداد الطلاب لمدرسة الطب ، وأسماها "مدرسة المارستان " وقد ظلت هذه المدرسة قائمة حتى أواخر سنة ١٢٥١ أو أوائل سنة ١٢٥٢(١٨٣٦) حيث تعرضت لعوامل الضعف والانحلال . وأهم هذه العوامل عدم توفر المدرسين من الأطباء لتدريس العلوم التمهيدية للطب لتلاميذ تلك المدرسة ، حتى لم يعد " بها من المدرسين إلا ناظرها الشيخ " - أي الشيخ محمد عمران الهراوي .
وعند وضع لائحة سنة ١٨٣٦ لتنظيم التعليم رؤي الاستغناء عن هذه المدرسة ، وكتب " شورى المدارس " إلى كلوت بك يسأله رأيه . فاقترح إلغاء المدرسة ، ثم رأي الشوري ان يستطلع رأي ناظر المدرسة الشيخ الهراوي ، فكتب الشيخ إليهم " إنه لا يمكن الاستفادة من هذه المدرسة وهي في حالتها الحاضرة . ولكن لو عين لها مدرسون وما تحتاج إليه ، ونظمت أسوة بالمدارس الأخرى تصبح مفيدة أما إذا تركت على ما هي عليه الآن من الفوضى فلا يمكن أن يتعلم طلبتها شيئا ، ونكون قد صرفنا مبالغ طائلة في غير محلها . ولكن كلوت بك أصر - رغم هذا البيان - على إلغاء المدرسة ، لأنه كان يعلم - كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم - أن إيجاد المدرسين من الصعوبة بمكان . وان تنظيمها يحتاج إلى مصروفات باهظة .
ويبدو أن هذا الموضوع كان مثار خلاف شديد بين الرجلين - كلوت والهراوي - ، وأن الشيخ اعتد برأيه وأصر عليه . ووصل خبر هذا النزاع إلى محمد على باشا ،
وكانت للشيخ لديه سابقة أخلاقية ، فأصدر امره في الحال إلى وكيل الجهادية بأنه علم من اطلاعه على المضبطة المؤرخة في غرة الجاري ( جمادى الآخرة ١٢٥١ ه) حصول المعارضة من الشيخ الهراوى في أمور لا تعنيه . وبالنسبة لعلمه بآدابه لم يقابل بشئ من شورى الأطباء . ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم ، بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ ، وحتي إن تزويره معلوم لديه من قبل ، وان التزامهم السكون وعدم إدراكهم كيفية المذكور أوجب استغرابه . فيلزم بوصول أمره هذا استحضار المذكور ، والتنبيه عليه مؤكدا بعدم تداخله في شئ خارج عن وظيفته ، وبأن ينفي ويطرد لو حصل إقدامه ثانيا على ما يوجب التشكي منه
وفي الحادي عشر من نفس الشهر كتب محمد على أيضا إلى مأمور ديوانه " حبيب أفندي" يأمره ان يستدعي الشيخ وينبه عليه " بتجنب التدخل في أمور ولوازم مدرسة المارستان وشئون تلاميذها ، بل يحصر اهتمامه في تصحيح ترجمة الكتب المحولة إلى عهدته فقط ، وإنا لم ينتصح يزجه في غرفة خالية ويشغل خاطره بالعصا" .
وقد استقر الرأي نهائيا على إلغاء المدرسة ، واكتفى الشيخ الهراوي بأن " يحصر اهتمامه في تصحيح ترجمة الكتب المحولة إلى عهدته فقط ، وظل يمارس هذا العمل نحو ست أو سبع سنوات أخرى ، فقد توفي في أواخر سنة ١٢٥٧ أو أوائل سنة ١٢٥٨. يقول الشيخ محمد عمر التونسي في مقدمة الجزء الاول من كتاب الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية ، تأليف وترجمة الدكتور برون ، الذي طبع في بولاق سنة ١٢٥٨ : " وكان الأمر قد صدر بطبع هذا الكتاب على يد سلفي الفاضل ، حاوي كمالات الفضائل والفواضل ، المرحوم برحمة من يغفر ، الشيخ محمد الهراوي ، فطبع منه على يده في ظرف سنتين ثمان وخمسون ملزمة ، ودعاه داعي الحمام فلباه ولما أتمه ، فتوليت طبعه من بعده ، واقتفيت اثره في قصده ونحوت نحو إعرابه ، وإن لم أكن من أضرابه . . "
وبهذا يكون الشيخ الهراوي قضي في مدرسة الطب نحو عشر سنوات ، كان يقوم خلالها بوظيفة المصحح الأول ، وكان يساعده في بعض الأحيان مصححون آخرون . هم :
٢ - الشيخ محمد محرم :
ويبدو أنه التحق بمدرسة الطب حوالي ستة ١٢٥٠ ، فقد قام بتصحيح كتاب " إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء الذي ترجمه الدكتور هيبه . وطبع في سنة ١٢٥٢ ، وقد اشترك كذلك مع الشيخ الهراوي في تصحيح " نبذ كلوت بك التي ترجمها الدكتور إبراهيم النبراوي ، وطبعت في سنة ۱۲٥۳
۳ و ٤ - الشيخان احمد حسن الرشيدي وحسين غانم الرشيدي :
هما من طلاب الأزهر أصلا ، ثم الحقا مصححين بمدرسة الطب في السنوات الأولى من إنشائها ، وعملا بها تحت إشراف المصحح الأول الشيخ محمد عمران الهراوي ، واشتركا معه في تصحيح بعض الكتب الأولى التي ترجمت في المدرسة ، وكانا يحضران دروس الطب مع تلاميذ المدرسة فأظهرا نبوغا وتفوقا ، ولهذا اختارهما كلوت بك ليكونا عضوين في البعثة الطبية الأولى التي أرسلت إلي فرنسا سنة ١٨٣٢ (١٢٤٨) فلما سافرا قرر مجلس الجهادية في ٢٦ صفر سنة ١٢٤٨ " انتخاب اثنين مصححين بمعرفة الشيخ الهراوي رئيس مصححي مدرسة الطب البشري من المشايخ : عبد الرحمن الصفتي، ومحمد هدهد، ومحمد عياد الطنطاوي وعبدالمنعم الجرجاوي ؛ بدلا من كل من الشيخ السيد أحمد حسن الرشيدي ، والشيخ السيد حسين غانم ، من مصلحي الترجمة بالمدرسة المذكورة نظرا لسفرهما إلى أوربا صحبة كلوت بك .
وهؤلاء المرشحون جميعا من خيرة شيوخ الأزهر في ذلك العصر ، فقد عاون الشيخ محمد هدهد الطنتدائي الشيخ رفاعة الطهطاوي في مراجعة الجزء الأول من جغرافية " ملطبرون " .
أما الشيخ محمد عياد الطنتدائي (أو الطنطاوي ) فكان من أنبغ تلاميذ الشيخ حسن العطار - شيخ الأزهر - وممن نهجوا نهجه في تجديد الحركة الفكرية ، فبدأ بتدريس كتاب الحماسة في الأزهر ، ولكنه لم يلبث أن اتهم من
زملائه بالكفر والإلحاد ، وانفض المستمعون عن دروسه ، فانصرف عن دروس الأدب إلى غيرها .
وقد كان الطنطاوي - كأستاذه - كثير الاتصال بعلماء الفرنجة الموجودين في مصر . فتتلمذ عليه كثير من المستشرقين من جنسيات مختلفة ، أمثال " دكتور برون " و"فرسنل" و " ج. فيل G. Weil" و "دكتور برنر Dr Pruner" و"ر.فراهن R. Frehn" وكان أشد هؤلاء إعجاباً به الدكتور " برون"، فهو إذا ذكره - وكثيراً ما يذكره - لا يقول إلا " شيخنا محمد عياد Notre Schiykh M. Ayyad
وقد أشاد تلميذه المستشرق الروسي " فراهن " يذكره عند عودته إلى الروسيا ، فقررت وزارة الخارجية الروسية دعوته لتدريس اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية " بسانت بطرسبرج " فسافر إليها في سنة ١٨٤٠ (١٢٥٦) ومعه زوجته وابنه . وظل يشغل منصب الأستاذية في جامعة " بطرسبرج " حتى عاجلته المنية في سنة ١٨٦١ ، فمات ودفن في ليننجراد ، ولازال قبره موجودا بها ، وقد خلف
بعد موته مكتبة كبيرة بها كثير من تآليفه بخطه . وهي محفوظة الآن في مكتبة الجامعة بالروسيا .
أما الشيخ عبد المنعم الجرجاوي فقد اختير فيما بعد ليكون مدرسا بمدرسة الألسن .
هؤلاء هم الشيوخ المرشحون ليختار منهم الهراوي مصححين لمدرسة الطب ، ولكنه لم يختر واحدا منهم . أو لعله اختار وكان الرفض من قبلهم ، فإن وثائق العصر والكتب الطبية المترجمة بعد سنة ١٨٣٢ لا تشير إلى اشتغال واحد منهم بالتصحيح بالمدرسة ، وليس صحيحا ما ذكره " مستر دن " في مقاله عن الطباعة والترجمة من أنهم اشتغلوا جميعا - لفترة ما - مصححين بمدرسة الطب ؛ أما من وقع عليه الاختيار فاثنان غير هؤلاء ، هما : الشيخ سالم عوض القنياتي، والشيخ محمد عمر التونسي .
وفي المقال التالي نتحدث عن هذين الشيخين وعن زملائهما الذين اسهموا في خدمة حركة الترجمة في المدارس الخصوصية الأخرى .
