الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 674الرجوع إلى "الثقافة"

شيوخ من الأزهر، في خدمة حركة الترجمة في عصر محمد على

Share

-٣-

أشرنا في نهاية المقال السابق إلي أن الاختيار قد وقع على الشيخين سالم عوض القنباني و محمد عمر التونسي للقيام بتصحيح الكتب المترجمة في مدرسة الطب البشري . وفيما يلى عرض موجز لجهودهما ولجهود شيوخ آخرين خدموا حركة الترجمة في المدارس الخصوصية الأخرى في عصر محمد على .

٥ - الشيخ سالم عوض القنباني: من بلدة القنايات بمديرية الشرقية، ومن شيوخ الأزهر تلاميذ العطار، بدأ عمله في الحكومة المصرية واعظًا لأحد الألايات التي سافرت إلى الشام في سنة ١٨٣٢ (١٢٤٨).

ولسنا نعرف بالتحديد متى ألحق بمدرسة الطب ، ولكنا نعرف أنه التحق والشيخ التونسي بها في وقت متقارب ، وأنهما كانا يتعاونان - في أكثر الأوقات - على مراجعة الكتب المترجمة وتصحيحها ، وشركان معهما في هذا العمل " الدكتور برون " فقد قام الشيخ التونسي بتصحيح كتاب " روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغري " الذي ترجمه الدكتور محمد على البقلى ، وطبع سنة ١٢٥٩ ، فلما طبع منه ما ينوف على ثلاثين ملزمة - كما يقول الشيخ القناباني : " سلمه إلي لكونه مشغولا بغيره من الكتب المحتمة الطبع ، والمدرسة لا زمة ، فشعرت الديل في تصحيحه وترتيبه ، واستنهضت الرجل والخيل في تنقيحه وتهذيبه ، واجتنبت فيه الإسهاب والإطناب ، والتزمت فيه جزالة العبارة ليسر أولى الألباب "

ويقول الشيخ القناباني بعد ذلك في نفس المقدمة : " ولطالما كنا ( أي هو والتونسي ) نقابله على أصله يحضرة وملاحظة من بلغ ذروة تلك العلوم ، وعلى أقصى درجة في منطوقها والمفهوم ، الماهر اللبيب ، اللوذعي الأديب ، الحكيم الكيماوي ، حائز فرائض تلك الفنون ، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير بيرون ، ولكنه يحسن اللغتين الفرنساوية والعربية ، وله بهذا الفن خبرة وحسن روية ، صار يقتنص إلى

هذا الكتاب كل عويصة شاردة ، ويرد إليه كل فريدة دقيقة الفهم نادرة آبدة " .

كذلك اشترك الشيخان في تصحيح كتاب " التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد " الذي ترجمه الدكتور محمد الشباسي ، وتم طبعه في بولاق سنة ١٢٦٦ ، وهو كتاب ضخم في ثلاثة أجزاء كبار ؛ يقول الشيخ التونسي في مقدمته : " ولما تم ترجمة وإتقانا ، وتهذيبا وإحسانا ، وكل أمر تصحيحه إلى حضرة المصحح الأول ، من كان عليه في مساعدتي المعول ، الأخ المواتي ، الشيخ سالم عوض القنياني ، فصحح منه الجزء الأول ، وعاقه الرمد عن الثاني ، فشرعت في تصحيح ما بقي منه بدون تواني " .

ويبدو أن مقام الشيخين كان واحدا ، فقد كان لهما الصدارة بين بقية المصححين . ولكن وثائق العصر تلقب الشيخ سالما " بالمصحح الأول " بينما تلقب التونسي "بالباشمصحح ".

٦ - الشيخ محمد عمر التونسي : وهو نابغة المصححين والمحررين ، وزعيمهم جميعا في ذلك العصر ، وقد أهلته لهذا المنصب ثقافة واسعة جناها من الكتب أولا ، ومن رحلاته العديدة ثانيا .

وحياة هذا الرجل عجيبة من عجائب ذلك العصر ، فهو تونسي أصلا ومولدا ، وإن كانت أمه مصرية ، وقد عشقت أسرته الرحلة . فعاش هو وأبوه وجده في مصر وبلاد العرب والسودان أكثر مما عاشوا في وطنهم الأصلي تونس .

ولد الشيخ محمد عمر في ٢٧ يوليو سنة ١٧٨٩ ( منتصف ذي القعدة ١٢٠٤ ) ، ثم نشأ نشأته الأولى في مصر ، وكان أبوه قد رحل إلى السودان باحثا عن أبيه ( أي جد محمد عمر ) ، فأعجبته الحياة هناك واستقر بتلك البلاد ، ونال الحظوة الكبرى عند سلطان دارفور عبد الرحمن بن أحمد ( توفي ١٢١٤-١٧٩٩ ) ، ولما ضاقت سبل الرزق

في وجه محمد رحل هو أيضا إلي دارفور باحثا عن أبيه . وقد أقام هناك مدة طاف في خلالها بأرجاء دارفور وواداي ثم عاد إلى مصر في الوقت الذي كانت تتأهب فيه حملة المورة بالمسير ، فعين واعظا للالاي الثامن من آلايات تلك الحملة .

وفي سنة ١٨٣٢ ( وهي السنة التي سافر فيها الرشيد بأن إلى باريس ) عاد إلى مصر مع الحملة ، فاختير مصححا بمدرسة الطب ، وهناك تعرف على الدكتور برون ، وأعجب كل منهما بالآخر ، وتنفذ يرون على التونسي ، وقرأ عليه كتاب كليلة ودمنة وكتبا أخرى ، وتعاونا معا على مراجة الكتب الطبية العربية لاختيار المصطلحات التى تيسر لمترجمين ترجمة الكتب الفرنسية ، وفي جلساتهما الخاصة تحدث التونسي إلي صاحبه عن مشاهداته في بلاد السودان ، فاوعز إليه أن يسجلها في كتاب خاص . يقول التونسي : " فذكرت له بعض ما عانيته في أسفاري من العجائب ، فحملني علي أن أزين وجه الدفتر بإيضاح ما شاهدته ، فامتثلث أمره لهاله على من اليد البيضاء" .

وأذعن الشيخ فعلا لمشورة صديقه، فزين وجه الدفتر بكتابين قيمين، سجل فيهما مشاهداته في: دافور، وواداي؛  وسمى الكتاب الأول: "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب  والسودان" وضمنه رحلته إلى دارفور؛ وسمى الكتاب الثاني "الرحلة إلى واداي" .

وقد قام الدكتور برون بنشر النص العربي للرحلة  الأولى في باريس سنة ١٨٥٠، ثم ترجمها إلي الفرنسية،  ونشر الترجمة كذلك في باريس سنة ١٨٥٥ تحت عنوان  (voyage au darfour)، أما النص العربي لرحلة واداي  فلم ينشر، وإنما نشرت ترجمته الفرنسية التي قام بها برون  في باريس سنة ١٨٥١ تحت عنوان (voyage au outday)،  والكتابان من أحسن المراجع التي وصفت السودان في  النصف الأول من القرن التاسع عشر .

وقد قام التونسي في مدرسة الطب بتصحيح الكتب الآتية:

١ - الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص  والمنافع، تأليف الدكتور فيجري بك، وترجمة السيد حسين  غانم الرشيدي، وطبع في بولاق سنة ١٢٥٧.

- واشترك مع الشيخ القياتي في تصحيح كتاب  "روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغري "  الذي ترجمه الدكتور محمد على البقلي، وطبع في سنة ١٢٥٩.

٣ - واشترك مع الدكتور برون في مراجعة وتصحيح

كتاب "كنوز الصحة ويواقيت المنحة" الذي ترجمه  الدكتور محمد الشافعي، وطبع في سنة ١٢٦٠.

وقام على تصحيح كتاب "الدرر الغوال في  معالجة أمراض الأطفال"، تأليف كلوت بك وترجمة الدكتور محمد الشافعي، وطبع في سنة ١٢٥٠.

واشترك مع الدكتور برون في ترجمة وتصحيح  كتابه الأخير" الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية " الذي طبع سنة ١٢٥٨-١٢٦٠.

٦ - واشترك أخيرا مع الشيخ القياتي في تصحيح  كتاب "التنقيح الوحيد في التشريع الخاص الجديد"  تأليف "كروليه"، وترجمة الدكتور محمد التباسي، وتم  طبعه في سنة ١٢٦٦.

وللتونسي فوق هذا جهود مشكورة في السعي لطبع قاموس المحيط وترجمة قاموس (fabre) الطبي.

وقد شارك التونسي كذلك في حركة نشر الكتب العربية القديمة ، فأشرف على نشر مقامات الحريري، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي .

وفي السنوات الأخيرة من حياته كان يدرس الحديث بمسجد السيدة زينب في يوم الجمعة من كل أسبوع إلى أن توفي في القاهرة في سنة ١٢٧٤ (١٨٥٧).

٧،٨ - الشيخان رفاعة الطهطاوي وإبراهيم الدسوقي عملا فترة كمصححين بمدرسة الطب ، ثم نقل رفاعة إلى مدرسة المدفعية ، ونقل الدسوقي إلى مدرسة المهندسخانة .

(ب) في مدرسة الطب البيطري :

١ - الشيخ مصطفي حسن كساب :ألحق مصححا  بمدرسة الطب البيطري منذ إنشائها في رشيد ، وقد قام بتصحيح جميع كتب الطب البيطري التي ترجمها المترجم السوري يوسف فرعون ، ثم المترجمان المصريان محمد عبد الفتاح وعطيه أفندي من بعده ؟ فكان أول كتاب قام على تصحيحة كتاب " التوضيح لألفاظ التشريح " تأليف " جيرار " وترجمة يوسف فرعون ، وطبع في بولاق سنة ١٢٤٩ (١٨٣٤ ) ، وآخر كتاب راجعه هو كتاب ( مجمع الفرو في سياسة البقر " تأليف " روبينيه " وترجمة عطيه أفندي أحد خرجي مدرسة الألسن ، وطبع في بولاق سنة ١٢٦٤ .

٢ - الشيخ عبد المنعم : وقد ذكر الدكتور عزت

عبد الكريم أنه كان بالمدرسة مصحح آخر يدعي الشيخ عبد المنعم ، وقد نقل فيما بعد ( باشخوجه ) بمدرسة المبتديان ، غير أنني لم أعثر بين كتب الطب البيطري المترجمة على كتاب واحد صححه هذا الشيخ .

(حـ) في مدرسة الزراعة :

الشيخ نصر أبو الوفا الحورينى : كان المصحح الوحيد بمدرسة الزراعة ، ولم أعثر إلا على كتاب واحد قام على تصحيحه الحورينى وهو كتاب " أجل الأسباب في أحل الاكتساب " وقد أثبت في آخره أنه انتهى من كتابته سنة ١٢٥٩ ، وفي نهاية تلك السنة نقل الشيخ مصححا بقلم الترجمة الملحق بمدرسة الألسن ؛ وفي سنة ١٢٦٠(١٨٤٤) اختاره محمد على بإشا بنفسه ليكون إماما لبعثة الأمجال التي أرسلت في تلك السنة إلى فرنسا ، ولما عاد إلى مصر اشتغل بالتدريس في الأزهر ، ثم نقل مصححا بمطبعة بولاق، وهناك أشرف على طبع كثير من كتب اللغة ، وله عليها حواش وتطبيقات قيمة ، وخاصة القاموس للفيروزابادي ، والصحاح للجرهرى ، والمزهر للسيوطى وغيرها كثير ؟ وله مؤلفات كثيرة طبع منها كتاب " المطالع النصرية للمطابع المصرية ".

ويقول الأمير عمر طوسون في كتابه عن البعثات "ومع أنه لم يرسل إلى فرنسا للتعلم إلا أنه تعلم اللغة الفرنسية هناك وكان يتكلم بها ويقرأها جيداً ، كما أخبرنا بذلك حفيده عباس افندي نصر " ; وقد ظل الشيخ على نشاطه إلى أن توفي سنة ١٨٧٤ .

(ء) فى مدرسة الهندسة :

الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي : كان المصحح الوحيد بمدرسة المهندسخانة ، ولد في دسوق سنة ١٢٢٦ ، ثم أتم علومه في الأزهر ، وفي سنة ١٢٤٨ عين مصححاً بمدرسة الطب ، ولكنه لم يلبث بها إلا قليلاً ثم نقل إلى مدرسة المهندسخانة .

وقد قام بتصحيح جميع الكتب الرياضية والهندسية التي ترجمت بها في عهدي محمد علي وعباس الأول ، فلما ألغيت المدرسة في عهد سعيد باشا نقل مصححاً بمطبعة بولاق ، وقد شارك في أوقات مختلفة في تحرير ( الوقائع المصرية ) ،  ومجلة ( اليعسوب ) الطبية .

وفي عهد إسماعيل رق إلى رئيس مصححى مطبعة بولاق . وقد اتصل الدسوقي اتصالا وثيقا بالمستشرق الإنجليزي "المستر لين " واشتركا معا في قراءة " القاموس وتفهمه " فإذا افترقا ترجم " لين " ما قرأه إلى اللغة الإنجليزية ، وظل علي ذلك سنوات حتى أتم تسعة أعشاره ، ثم سافر إلي لندن حيث أعد العشر الأخير ، وطبع القاموس المترجم لأول مرة في لندن سنة ١٨٦٣ تحت عنوان Lanes Arabie English Lexicon ، وقد عاش الدسوقي نحو أربع وسبعين سنة ، وتوفي سنة ١٣٠٠ .

(هـ) في مدرسة الألسن :

كان رفاعة الطهطاوي يشرف بنفسه على مراجعة وتصحيح الكتب التي تترجم في المدرسة أول إنشائها ، فلما كثر إنتاجهم أشرك رفاعة معه في هذا العمل بعض مدرسي الألسن ، وخاصة المشايخ محمد قطة العدوى ، وأحمد عبد الرحيم الطهطاوي . و محمد الفرغلي .

هؤلاء هم الشيوخ المصححون والمحررون ، وهذه لمحة عن جهودهم تبين في وضوح أنهم أفادوا حركة الترجمة والنهضة العلمية الحديثة فوائد جمة ، فخرجت الكتب المترجمة سليمة من المكنة والعجمة ، خالية بقدر الإمكان من الأخطاء ؛ وقد حاول الكثيرون منهم قدر استطاعتهم التوفيق بين المصطلحات العلمية الحديثة والمصطلحات العلمية القديمة ، وجمعوا لكتبهم مجموعة كبيرة منها تصلح لأن يتخذها المجمع اللغوي أساسا طيبا لجهوده في هذا الميدان .

وفي نفس الوقت أفاد ببعض هؤلاء المحررين - وخاصة الشيخ التونسي - الكثير من اشتغالة بهذه الحركة ، ففهموا بعض ماجاء في الكتب العلمية الترجمة ، وكسبوا لأنهم معارف جديدة واسعة ، وأضافوا إلى ثروتهم اللغوية ثروة جديدة لكثرة ما قلبوا الكتب باحثين ومنقبين ، ولكثرة مانحتوا واشتقوا واقتبسوا من ألفاظ ومصطلحات جديدة . ولهذا كانوا يحاولون دائما - فيما يكتبون من مقدمات - أن يعلنوا عن هذه المعرفة الجديدة التى كسبوا . وفي المقدمة التي كتبها الشيخ التونسي لكتاب " الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية " - تأليف وترجمة الدكتور برون - مثال طيب للبرهنة على ما نقول .

اشترك في نشرتنا البريدية