_١_ أقدم ما يعى التاريخ من أخبار الإسلام فى أوربا الشرقية يرجع إلى بلاد البلغار . وهى ثانية البقاع الأوروبية استنارة بالإسلام ؛ وأولاها الأندلس . ولا يسبقن إلى الوهم أننا نعنى بلاد البلغار المعروفة بهذا الاسم اليوم ، وهى البلاد التى تقع جنوبى نهر الطونة ، فإننا نعنى بلادا أخرى كانت تسمى بهذا الاسم ، وهو اسم القوم الذين استوطنوها ؛ ويجمعهم وبلغار هذا العصر أصول مشتركة . وأصولهم ترجع إلى أقوام من الجنس التركى مثل الجواش والحرمش . وقد ذكر شمس الدين الدمشقى أن جماعة من البلغر مروا ببغداد فى طريقهم إلى الحج ، فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة وما استعانوا به . وسألهم سائل من أى الأمم أنتم ؟ وما البلغر ؟ فقالوا قوم مستولدون بين الترك والصقالية ، وليس بعيدا أن يكونوا خالطوا الصقالية حين جاوروهم .
وقد ميز مؤرخو العرب بين هؤلاء البلغار المسلمين وبين بلغار الطونة . قال ابن الأثير بعد ذكر حوادث وقعت بين الروم والبلغار فى حدود سنة أربعمائة من الهجرة : (( وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة . فإن هؤلاء أقرب إلى الروم من المسلمين بنحو شهرين ، وكلاهما يسمى بلغارا )) . ولكن وقع الخلط بين أخبار المملكتين فى كثير من الروايات الإسلامية .
وبلغار الطونة هم الذين ذكرهم المتنبى فى قصائد سيف الدولة ، كقوله عن ملك الروم :
يجمع الروس و الصقالب والبا هر فيها وتجمع الآجالا
وكلمة بلغار اسم للقوم وللموطن الذى استوطنوه وللمدينة الكبرى فى ذلك الوطن ، وتجدها فى بعض الروايات بلغر بغير ألف وبرغر براءين ، وبلار بإسقاط الغين ، وبلكار .
_٢_ كانت مملكة البلغار القديمة تمتد من جبال أورال فى الشرق إلى مجرى نهر ولقا ونهر أوفا فى الغرب . ونهر ولقا هو قلجا الذى يتردد ذكره فى أنباء العالم كل حين ، ويسمى فى الكتب العربية والتركية نهر إتل او إدل . وحدودها الجنوبية تمتد إلى البحر القزوينى ، أو ما يقرب منه ؛ وقد اختلفت على مر الزمان . وأما الحدود الشمالية فكانت تنتهى إلى البلاد التى سماها القدماء أرض الظلمة . يعنون آخر المعمور المعروف فى تلك العصور.
وقال ابن بطوطة بعد ذكر وصوله إلى البلغار : (( وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة ، والدخول إليها من بلغار ، وبينهما أربعون يوما ،ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤنة فيه وقلة الجدوى . والسفر إليها لا يكون إلا فى عجلات صغار تجرها كلاب كبار ؛ فإن تلك الغازة فيها الجليد فلا يثبت قدم الآدمى ولا حافر الدابة فيها )) .
وقد ذكر البلغار كثير من المؤرخين والجغرافيين والرحالين المسلمين . قال المسعودى : (( ومدينة برغر على ساحل بحر ما نطش ، وهو بحر متصل بخليج القسطنطينية وأرى أنهم فى الإقليم السابع ؛ وهم نوع من الترك . والقوافل متصلة منهم إلى بلاد خوارزم وأرض خراسان ومن بلاد خوارزم إليهم ؛ إلا أن ذلك بين بوادى غيرهم من الترك )) . ولكن المسعودى خلط هؤلاء البغار ببلغار البلقان حين قال : (( إن ملك البرغر يغزو بلاد القسطنطينية )) ، وحين قال : (( والبرغر أمة عظيمة فى البأس يتقاد إليها من جاورها ولا تمتنع القسطنطينية منهم إلا بأسوار )) .
كما أخطأ المسعودى حين قال : إن مدينة البرغر على بحر مانطش ، أى البحر الأسود وقد استدرك عليه هذا الخطأ ياقوت فى معجم البلدان . وتابع البكرى المسعودى فى هذا الخلط .
وقال ابن رستة : (( وبلكار متاخمة لبلاد برداس . وهم نزول على حافة النهر الذى يصب فى بحر الخزر والذى
يسمى إتيل ، وهم بين الخزر والصقالية . وملكهم يسمى ألمس ، وهو ينتحل الإسلام ، وأرضوهم غياض ومشاجر ملتفة .. ... ... والخزر تتاجرهم وتابعهم . وكذلك الروسية إليهم يصبرون بتجاراتهم ... وهم قوم لهم زرع وحراثة يزرعون كل الحبوب من الحنطة والشعير والدخن وغير ذلك . وأ كثرهم ينتحلون دين الإسلام ، وفى محالهم مساجد ومكاتب ولهم مؤذنون وأئمة . . وإذا جاءتهم سفن المسلمين للتجارة أخذوا منهم العشر . وملابسهم شبيهة بملابس المسلمين ولهم مقابر مثل مقابر المسلمين الخ... ))
وقال أبو عبد الله الغرناطى : (( لسان الخزر والبلغار واحدة ولكن لسان البرطاس والروس مغابرة )) .
_٣_ وكانت مدينة بلغار حاضرة المملكة شرقى نهر إتيل (الفلجا ) على نصف فرسخ منه حيث الدرجة خمسة وخمسون من العرض الشمالى والدرجة ست وستون من الطول الشرقى .
وقال ياقوت : (( بلغار مدينة الصقالية ضاربة فى الشمال ، شديدة البرد لا يكاد يقلع الثلج عن أرضهم صيفا ولا شتاء ، وقلما يرى أهلها أرضا ناشفة . وبناؤهم بالخشب وحده بأن يركبوا أعوادا فوق عود ويسمروها بأوتاد من خشب أيضا محكمة . والفواكه والخيرات بأرضهم لا تنجب . وبين إتيل مدينة الخزر ( وهى حاجطرخان أو استراخان ) وبلغار على طريق المفاوز نحو شهر ، ويصعد إليها فى نهر إتل نحو شهرين ، وفى الحدود نحو عشرين يوما .
ويقول أبو الفداء : (( إن مدينة بلار - ويقال لها بالعربية بلغار - بلدة فى نهاية العمارة الشمالية . وهى قريبة من شط إتل من البر الشمالى الشرقى . وهى وسراى فى بر واحد ؛ وبينهما فوق عشرين مرحلة . وهى فى وطأة من الأرض ، والجبال منها على أقل من يوم )) .
ولا تزل آثار مدينة بلغار ظاهرة : بقايا مساجد وقصور ، ورسوم خنادق ونحوها ، وتدل الكتابة التى على بعض القبور هناك أنها ترجع إلى القرنين السابع والثامن بعد الهجرة .
وقد زار هذه الآثار الشيخ محمود الداغستانى المتوفى فى مدينة حاجطر خان (استراخان ) فأنشأ أبياتا بالتركية منها :
شهر بلغاره كوكل شويله أو لبدر مشتا
همه بلغار كورينو ركوز مزه ياقين براق
شهر بلغار كوكل قيلمه برابر أصلا
مصر وشام ويمن وشهر خراسان وعراق
(( إن القلب يشتاق إلى مدينة بلغار شوة بقربها إلى أعيننا . أيها القلب لا تسو بمدينة بلغار مصر والشام وخراسان والعراق )) .
وكذلك زارها سنة ١٣٢٥ ه محمد الرمزى مؤلف (( تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار فى وقائع قزان وبلغار وملوك التتار )) . وتمثل فيها بأبيات عربية منها :
إن كنت مثلى للأحبة فاقدا أو فى فؤادك لوعة وغرام
قف فى ديار الطاعنين ونادها يا دار ما فعلت بك الأيام
_٤_ وأما دخول البلغار فى الإسلام فقد روى أنه كان أيام المأمون العباسى والواثق ، ولا يبعد أن يكون الإسلام عرف بينهم فى ذلك الزمان ؛ ولكن أكثر المؤرخين يؤرخون إسلامهم فى عهد الخليفة المقتدر . وسندهم أن هؤلاء القوم أرسلوا وفدا إلى بغداد سائلين الخليفة أن يرسل إليهم من يعلمهم الإسلام ؛ فأرسل ابن فضلان فى جماعة . وكتب هذا الرسول رسالة وصف رحلته منذ فارق بغداد إلى أن عاد إليها . ويؤخذ من هذه الرسالة أن الملك الذى استقبل رسول الخليفة كان أول ملك مسلم فى بلغار . وهذه نبذ من رسالة ابن فضلان منقولة عن معجم البلدان ، قال ابن فضلان : (( ولما وصل كتاب ألمس بن سلكى بلكوار ملك الصقالية إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله العباسى وسأله فيها أن يبعث إليه من يفقهه فى الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبنى له مسجدا ، وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة فى جميع بلده وأقطار مملكته ، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له أجيب إلى ذلك ... ثم يقول ابن
فصلان : (( فرحلنا من مدينة السلام لإحدى عشرة ليلة حلت من صفر سنة ٣٠٩ )) (وذلك ٢١ يونية سنة ٩٢١ )
يقول باقوت : ثم ذكر ما مر به فى الطريق إلى خوارزم ، ثم منها إلى بلاد الصقالية مما يطول شرحه ثم ينقل قول ابن فضلان :
(( ولما كنا من ملك الصقالية ، وهو الذى قصدنا له ، على مسيرة يوم وليلة وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده ، وإخوته وأولاده ؛ فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجادرس وساروا معنا . فلما صرنا منه على فرسخين تلقاء هو نفسه . فلما رآنا نزل وخر ساجدا لله شكرا ، وكان فى كمه دراهم فنثرها علينا . ونصب لنا قبايا فنزلناها . وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتى عشرة خلت من الحرم سنة ٣٤٠ ه )) ( وذلك ١٢ مايو سنة ٩٢٢ ) .
يتبين من هذا أن رسول الخليفة قطع المسافة من بغداد إلى مدينة بلغار فى سنة شمسية إلا عشرين يوما . ويتبين كذلك أنه سار إلى خوارزم فى طريقه . ويقول هو إنه قطع المسافة من الجرجانية مدينة خوارزم إلى غابته فى سبعين يوما. ويقول المستشرق الروسى بارتولد : (( نستدل من عدد الأيام التى أمضاها الوفد فى رحلته أنه أتى من خوارزم إلى المجرى الأدنى لنهر إتل ( قلجا ) ، ثم دخل منه إلى بلاد البلغار مخترفا أرض الخزر والبرطاس )) .
يقول ابن فضلان : (( فأقمنا إلى يوم الأربعاء فى القباب التى ضربت لنا حتى اجتمع ملوك أرضه وخواصه ليسمعوا قراءة الكتاب . فلما كان يوم الخميس نشرنا المطرزين اللذين كانا معنا ( يظهر أنهما لواءان ) . وأسرجنا الدابة بالسرج الموجهة إليه ، وألبسناه السواد وعممناه ، وأخرجت كتاب الخليفة فقرأته وهو قائم على قدميه ، ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس ، وهو قائم أيضا وكان بدينا ، ونثر أصحابه علينا الدراهم وأخرنا الهدايا وعرضنا عليه ؛ ثم خلعنا على امرأته وكانت جالسة بجانبه . وهذه سنتهم ودأبهم .
ثم وجه إلينا فحضرنا قبته ، وعنده الملوك عن يمينه .
وأمرنا أن نجلس على يساره ، وأولاده جلوس بين يديه ، وهو وحده على سرير مغشى بالديباح الرومى . قدما بالمائده فقدمت إليه وعليها لحم مشوى . فأبتدأ الملك وأخذ سكينا وقطع لقمة فأكلها وثانية وثالثة . ثم قطع قطعة فدفعها إلى سوسن الرسول (رسوله إلى الخليفة ) ؛ فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يديه - وكذلك رسمهم ، لا يمد أحد يده إلى أكل حتى يتناوله الملك ، فإذا تناولها جاءته مائدة - ثم قطع قطعة وناولها الملك الذى عن يمينه فجاءته مائدة . ثم ناول الملك الثانى فجاءته المائدة . وكذلك حتى قدم إلى كل واحد من الذين بين يديه مائدة . و أ كل كل واحد منا من مائدته لا يشاركه فيها أحد ، ولا يتناول من مائدة غيره شيئا . فإذا فرغ من الأكل حمل كل واحد منا ما بقى من مائدته إلى منزله . فلما فرغنا دعا بشراب العسل ، وهم يسمونه السجو ، فشرب وشربنا )) .
وهناك ينتهى ابن فضلان من وصف رحلته الطويلة المفيدة من بغداد إلى بلغار ، ووصف استقبال الملك وخواصه إياه .
( يتبع )
