الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 645الرجوع إلى "الثقافة"

صفحات مطوية من تاريخنا :, على قهوة أنطون....

Share

. . وليس في مصر علي ما أحسب من يذكر شيئا عن قهوة أنظون ، أو يروى خبرا عن تاريخها وأعلامها ، أو يدرى أين كانت ومتى كانت ؟ على أنها كانت رواق المفكرين من طلائع الإصلاح ودعاة النهوض ، وبين جدرانها وضعت مبادئ الثورة الفكرية لتحرير الشرق من الاستعباد العقلي ، ورسمت الخطط لإنقاذ مصر من الاستعباد السياسي ، وتألف الحزب الوطن الحر ، وهو أول حزب سياسي وطي تام في مصر . .

ذلك تاريخ إلي ثمانين عاما أو تزيد ، إلى عهد الخديوي إسماعيل ، إذ أوغل التدخل الأجنبي في غثون مصر ، وصارت مالية البلاد نهبا للسماسرة الأجانب ، وأثقل الدين كاهل الخزانة الحكومية ، وأخذ العسر المالي بخناق الأهالي على اختلاف طبقاتهم ومرائيهم ، وبدا المستقبل مظلما أمام المشفقين على مصير البلاد وكيان الأمة . . ففي تلك الآونة المرتبكة المضطربة ، وفد على مصر شيخ ثائر للحريات المهضومة والطبقات المظلومة ، ساخط على أولئك الحاكمين من أبناء الشرق ، الغافلين عن الهاوية التي يحفرها الممول الأجنبي تحت أقدامهم ، ذلك الشيخ هو السيد جمال الدين الأفغاني الزعيم المصلح والفيلسوف الديني الحر ، ذلك الشيخ الذي وقف حياته لإيقاظ الشرق من مبانه ، والذي وضع في أرضه بذور الثورة الفكرية والوطنية فنمت وأينعت . وما نزال نجني ثمارها إلى اليوم .

وفد السيد جمال الدين الأفغاني علي مصر في تلك الأيام ، فالتزم الإقامة في بيت كان يسكنه في حارة اليهود ، وفي هذا البيت كان يتردد عليه تلاميذه ومريدوه ، والمعجبون بجراءته ، في الحق . والمتعلقون بآرائه في الدين والإصلاح ؛ فكان يقضي وقته معهم في القراءة والدرس ، وهم يكثرون كل يوم من حوله عددا ، ويزيدون عليه إقبالا ، وكأنهم وجدوا

فيه المخلص المنتظر ، والزعيم الذي هيأنه الأقدار لأبناء مصر في تلك الآونة الحالكة المضطربة التي لا يدري أحد ما وراءها ولا بأي مصير سيطلع غدها

وزادت الأحوال في مصر سوءا علي سوء ، وزاد المتذمرون والساخطون عددا وإقبالا على ذلك الزعيم التأثر في وجه النفوذ الأجنبي المتغلغل في شئون البلاد ، الناقم على الفوضى المتمكنة في وسائل الحكم وأساليب الحاكمين ، ولم يكن الأفغاني مصريا في جنسيته أو نشأته . ولكنه كان يري أن كل بلد إسلامي وطنه . وان بلاد المسلمين وطن لكل مسلم مهما تختلف الحدود والتخوم ، ومن ثم كانت غيرته على المسائل الوطنية وشئون الإصلاح في مصر ، وقد دفعته هذه الغيرة إلى الرغبة في توسيع الدائرة لدعوة التي كان يدعو إليها في الإصلاح والنهوض ، وأثر ان يخرج من نطاق البيت المحدود إلي نطاق الشارع الفسيح حيث يستطيع أن يبث أفكاره وأراءه إلي أبناء الأمة على اختلاف طبقاتهم ! فكان الرجل يقضي نهاره في الدرس والقراءة لتلاميذه ومريدية في البيت ، حتى إذا ما جاء المساء خرج يتوكأ على عصاه ليأخذ مجلسه في قهوة أنطون . .

وكانت قهوة أنطون قهوة خشبية ، بسيطة المنظر والرواه ، كل ما يميزها عدة أشجار كبيرة ترتفع في ساحتها ، وكان موضعها فى المكان الذي تشمله عمارة بنك الكريدى ليونية الآن ، وفي تلك القهوة كان يجلس الأفغاني جلسة طويلة قد تمتد إلي منتصف الليل ، وكان يأخذ مكانه في الصدر ، ويلتف من حوله الجالسون على هيئة نصف دائرة ، ثم يأخذ في الحديث معهم في السياسة وتغلغل النفوذ الأجنبي في شئون البلاد ، والفروض التي ركبتها وهددتها بالخراب والدمار ، واتساع الشقة وفقد الثقة بين الحاكمين والمحكومين . وكان الأفغاني في حديثه هذا غيورا يتدفق

كالسيل قوة وحماسة ، وكان صريحا لا يخاف أحدا ولا يرهب مخلوقا مهما يكن جاهه وبطشه ، وكان جلساؤه واتباعه في تلك الحلقة من رجال الفكر والرأي ؛ فمنهم صفيه ومريده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، وسليم نقلا باشا مؤسس جريدة الأهرام ، وعبد السلام المويلحى باشا عضو النواب على عهد إسماعيل ، وابراهيم المويلحي بك الأديب الكبير ، ومحمود سامى البارودي باشا الشاعر المشهور وأحد زعماء الثورة العرابية البارزين ، والسيد عبد الله النديم خطيب الثورة وداعيها ، فكانت ندوة عامرة بالرجال والشخصيات ، وجلسة حافلة بالآراء والأفكار .

في هذه الندوة التي تركزت في قهوة أنطون دعا الأفغانى المصريين دعوة صريحة جريئة إلى الثورة العقلية والثورة الوطنية ، وكان يهيب بهم جهارا أن ينفضوا قبل فوات الآوان ، وأن يأخذوا في تحرير أنفسهم قبل أن تطبق الأغلال على أعناقهم ، ويأخذ الكرب بخناقهم ، وكان يقول لهم : " هبوا من غفلتكم ، واصحوا من سكرتكم ونفضوا عنكم غبار الغباوة والخمول ، وعيشوا كباقى الأمم أحرارا سعداء ، أو موتوا مأجورين شهداء ، إن الاستبعاد يشق جلودكم بمبضع نهمه ، ويهيض عظامكر بأداة عسفه . وانتم كالصخرة الملقاة في الفلاة ، لا حس لكم ولا صوت ، انظروا أعرام مصر ، وهياكل منفيس ، وآثار طيبة ، ومشاهد سيوه ، وحصون دمياط ، تجدوها شاهدة بمنعه آبائكم ، وعزة أجدادكم ، فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم .

بهذا الأسلوب الخطابي كان الأفغاني يستنهض الهمم ، ويستفز العواطف ، على أنه كان من ناحية اخري يرسم مع جلسائه وأصفيائه الخطط الإيجابية لإنقاذ الموقف وتدارك الأمر ؛ ففي تلك الندوة التي أقامها الأفغاني على قهوة أنطون تم تأسيس الحزب الوطني الحر ، وتم وضع برنامجه الإصلاحي والسياسي ، وكان شعاره ( مصر للمصريين ) وهو شعار اتخذه المصريون لهم مبدأ في شتى مراحل الجهاد ، وكانوا يهتفون به أيام الثورة المصرية ؛ بل لقد تألفت من أتباع الأفغاني وجلسائه في تلك الندوة عدة جمعيات وطنية سرية لمناهضة سياسة إسماعيل باشا وسياسة نوبار باشا رئيس

نظاره ولمقاومة النفوذ الأجنبي مقاومة عملية لا تقف عند حدود الكلام .

ولقد دعا الأفغاني إلي عزل الخديوي إسماعيل جهرة ، وناصره أتباعه في هذا ، وتم الأمر بعزل إسماعيل فعلا ، وتولية الخديوي توفيق ، وكان الأفغاني يعلق آمالا كبيرة لخير البلاد علي شباب هذا الأمير ، ويراه معقد الرجاء في انتشال البلاد من الوهدة التى تردت فيها ، وكان الخديوي توفيق من جانبه يقدر الأفغانى قدره ، ويعرف له مكانته ولكن سرعان ما دبت الوحشة بين الرجلين ، وتوجس الخديوي توفيق من ثورة الأفغاني وتطرفه ، ورأت انجلترا من جانبها أن في بقاء الأفغاني في مصر خطرا علي مطامعها ومآربها في افتراس البلاد ، فسعت سعيها حتى أخذ عنوة ونفي من مصر إلي غير رجعة .

أبعد الأفغاني عن مصر ، ولكنه خلف أتباعه ومريديه يأخذون مجلسهم كل ليلة على قهوة أنطون ؛ فيتذاكرون آراءه فيما بينهم ، ويتدراسون خططه وتدبيراته .

وفي ذلك المكان وضعوا مبادئ الثورة العرابية ، وهي الثورة التى كان بها ما كان من الآثر في تاريخ مصر ، بل في تاريخ الشرق .

قال الدكتور شبلي شمبل فيما كتبه في مذكراته عن جمال الدين الأفغاني : " كان جمال الدين فيلسوفا من الفلاسفة المشائين أو بالحري الرواقبين ، ورواقه كان رواق القهوة التى يجنب قهوة البورصة القديمة ، ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحبوا ذكره بينهم في ذلك المكان . ." ولكن الأحداث التي مرت ، مصر والشرق كانت أقوي وأعنف من أن تترك في أذهان أولئك التلاميذ مجالا للتفكير في إحياء ذكره وذكر رواقه في قهوة أنطون ، وحرت الأيام على كل هذا ذيل النسيان ، فليس هناك من يذكر شيئا عن قهوة أنطون ، أو يروي خبرا عن تاريخها وأعلامها وأمجادها ، أو يعرف أبن كانت ، ومتى كانت ، وماذا كانت .

اشترك في نشرتنا البريدية