الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع والعشرونالرجوع إلى "الرسالة"

صفى الدين الحلى

Share

-٣-

(تتمة)

كانت مصر إذ رحل إليها الشاعر فى عهد زاهر مثمر من أكثر  نواحى الحياة، فهبط إليها كما يهبط الطائر الصادى على الروض الندى  اليانع؛ ينهل من موارده فى شوق ويتنقل على دوحاته فى طرب،  ثم ينثنى عنه وقد ارتوى إلى وطنه شاديا مترنما!

فقد أصبحت بعد إن شل المغول عرش بنى العباس وأسدلوا  على بغداد الستار، مركز الثقافة الإسلامية الأكبر وموئلها الحصين،  تنهض فيها جامعة الأزهر والمدارس الأخرى بأعباء الرسالة  العظمى للعلم والأدب، وتشترك سلاطينها بأيد عاملة نشيطة فى  تعضيد هذه الحركة وتغذية روحها بعوامل القوة؛ بما تحدثه من  المدارس وما تغدقه فى كرم على العلماء والأدباء من هبات وصلات.  وكان عصر السلطان الناصر بن قلاوون من خير عهود  دولة السلاطين الأولى؛ إذ كان السلطان نفسه - كما يقول السير  وليم موير - (مثقفاً ثقافة عالية، درس علوم الفقه والقانون ونال  شهادة فيها فكان يحب العلم والعلماء ويشاركهم فى كل أمر يفيضون  فيه) وكثيرا ما يكون الملوك المثقفون نعمة على رسل الثقافة لما  يملكون من حسن التقدير لأعمالهم، وصدق الشعور بحلاوة ثمراتهم،

وقد روى عنه أنه أقطع أبا الفداء المؤرخ الشهير ولاية حماة تقديرا  لمكانه وجزاء لما قدمه إليه من معونة فى بعض الحروب. وفى عهده  كانت مصر تنعم بشىء من راحة الظافر بعد أن شلت حركات المغول  وأنقذت الشرق العربى من بين براثنهم المسمومة، وبعد أن طاردت  حملة الصليب المستكلبين فى هدم الإسلام والشرق، وقذفت بهم فى  قوة إلى البحر! ولكنها مع ذلك لم تكن تغفو عن حراسة هذا  الملك وقطع أذناب العدو كلما امتدت اليه، وهو ملك شاسع مترام  يمتد ما بين الفرات والحجاز وآسيا الصغرى وجنوب النوبة، ولما  كانت إذ ذاك لا تزال طريق التجارة والرحلة بين أوربا والشرق  قبل أن يكشف رأس الرجاء الصالح، وعرفت مصر كيف تستغل  هذا المورد الثرى أحسن استغلال، وكانت تجبى إليها ثمرات تلك  (العاهلية) الكبرى، فقد حازت من المجد المالى ما يمكنها من مواصلة  السير فى طريق مجدها العلمى والحربى.

لذلك لا نعجب أن نرى القاهرة حينذاك تموج بوفود رجال  العلم والأدب فتحسن وفادتهم، وأن نسمع صفى الدين وقد أقبل  إليها فانتظم زمنا فى حاشية الملك الناصر يصوغ آيات المدح  لمصر ومليكها، ويعود إلى وطنه فيلهج بأجمل الذكريات  لما لقى فيها من روعة الكرم وحسن الضيافة. وقد اتصل أثناء  أقامته فى مصر بحلقاتها الأدبية التى كان يمثل زعامتها الكتابية  (علاء الدين بن الأثير) رئيس ديوان الإنشاء، وزعامتها  الشعرية (جمال الدين بن نباتة) الأديب الشهير، وتوثقت بينهم  جميعا روابط الصداقة والأخلاص، فلم يفتأ بعد رحيله يتراسل  معهم فى مساجلات أدبية ممتعة تعبر عن عواطف الشوق ويعترف  فى احداها بزعامة ابن نباتة لجميع الشعراء

والآن نستعرض إحدى قصائده التى تجمع بعض هذه الأمور،  وقد قالها يوم احتفال مصر بيوم الخليج وابتدأها بوصف الربيع  فى مصر:

خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان

وتتنوجت هام الغصون وضرجت ... خد الرياض شقائق النعمان

وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوان

والظل يسرق فى الخمائل خطوه ... والغصن يخطر خطرة النشوان

وكأنما الأغصان سوق رواقص ... قد قيدت بسلاسل الريحان

واستمر هكذا فى أوصافه الجميلة التى يعبر بها عما أودعته طبيعة   مصر الفاتنة فى نفسه حتى قال:

إني وقد صفت المياه وزخرفت ... جنات مصر وأشرق الهرمان؟

واخضر واديها وحدق زهره ... ونيل فيه ككوثر بحنان

وبه الجواري المنشآت كأنها ... أعلام بيد أو فروع قنان

نهضت بأجنحة القلوع كأنها ... عند المسير تهم بالطيران

والماء يسرع فى التدفق كلما ... عجلت عليه يد النسيم الوانى

وأخذ بعد ذلك يصف السلطان بقوة والفصاحة والسيادة  على جميع الملوك، وليس الملوك فى الحقيقة إلا مظاهر للأمم من  أكثر الوجوه، فإذا كانوا أقوياء أو كرماء فما ذلك إلا فيض  أممهم ومنحة رعاياهم، وإذن فكل مدح للملك إنما يتجه إلى الأمة  التى أكسبته أسباب المدح ووهبته ما يتيه به من أثواب المجد. ونود

أن نشير هنا إلى أن مصر لم تكن تنظر إلى سلاطينها الذين كانوا فى  الأصل مماليك إلا بعين التجلة؛ لأنها كانت إذ ذاك تفهم معنى  الوطنية كما يقرره الإسلام، دينها الذى تعتز به، وهو دين ديمقراطى  حر يأمر أهله ألا يأنفوا من الحاكم المسلم العادل ولو كان عبداً حبشياً.  وكذلك لم يكن هؤلاء السلاطين فى نظر مصر إلا جنداً مسلمين  تربوا فى أرضها ودافعوا طويلا عن مجدها ثم ارتقوا باستيلائهم  على شؤونها الحربية إلى عرش الملك، فرضيت بهم وعهدت إليهم  بتمثيل قوتها فى السياسة والعلم والحرب، فمثلوها أحسن تمثيل،  ثم لما فرغ دورهم أرخت عليهم السدول وبقيت مصر هى  مصر الخالدة.

ومما قاله صفى الدين فى أحدهم وهو الناصر المذكور:

لا عيب فى نعماه إلا أنها ... يسلو الغريب بما عن الأوطان

شاهدته فشهدت لقمان الحجا ... ونظرت كسرى العدل فى الإيوان

وشهدت منه فصاحة وسماحة ... أعدى بفيضهما يدي ولسانى

ملك إذا اكتحل الملوك بنوره ... خروا لهيبته إلى الأذقان

وقال:

أبقى قلاوون الفخار لولده ... إرثا وفازوا بالثناء مكاسبا

قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا

عشقوا الحروب تيمنا بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا

وكأنما ظنوا السيوف سوالفا ... واللدن قدا والقسى حواجبا

يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا

أصلحت بين السلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوداد أقاربا

وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم إن صلن كن قواضبا

كان لصفى الدين قدرة فائقة فى رسم المناظر الأخاذة بدقة الفنى  وتأثر الشاعر، وذلك لما وهبه من ميزتين عظيمتين: إحداهما  دقة النظر وصدق المشاهدة، والأخرى قوة الابتكار والتخيل. فقد  كان يدرك بالأولى جزئيات الأمور ونواحى المناظر التى تخفى على  غير الموهوب، ثم يتولى خياله ما أدركه فيحكم نسجه ويضفى عليه  ألوانه، ويزيد فوقه نقوشه، فإذا بوصفه قطعة فنية رائعة تثير  الإعجاب.

قام الشاعر برحلات عدة كما ذكرنا قبل، فى صحاري العرب  والشام ومصر، وانتظم أزمنة طويلة فى حواشى الملوك الذين  كان لهم غرام وشغف بالنزه الخلوية فى أودية حماة والحلة وماردين  فكان ذلك داعيا لشدة قربه من الطبيعة ومذكيا حبه لها، ولما كان  بفطرته يملك نفسا شاعرة فقد استجاب دعوة الجمال وأخذ يرصد  الطيور حائمة فى الجو، والوحوش هائمة فى الصحراء، والحيوان  الأليف والسائم ينقش صورها جميعا فى شعره نقش المصور الماهر،  وفى ديوانه أمثلة كثيرة لكل هذه الأوصاف.

ومن مظاهر أوصافه الدقيقة أيضا وصفه للخمر ومجالس الندامى،  فان الصفى كان رجلا طروبا متهافتا على موارد اللهو والسرور، يشرب  من لذائذه الكؤوس الدهاق: يعاقر الخمر ويعشق النساء والولدان  ويختال بين الرياض، ويتجول فى الصحراء؛ غير آبه لما حرم من اللذة  أو حل، وذلك لأنه اتخذ لنفسه مذهبا خاصا فى فهم أحكام الدين  يطاوع هواه كل المطاوعة، وقد عبر عن هذا المذهب بقوله:

فارتكب اجمل الذنوب لنفع ... واعتقد فى ارتكابه التحريما

ثم تب وأسأل الإله تجده ... لذنوب الورى غفورا رحيما!

وتمادى فى هذا المذهب حتى احل الخمر صراحة فقال:  

نهى الله عن شرب المدام لأنها ... محرمة إلا على من له علم

وذاك بقدر الشاربين وعقلهم ... ففى معشر حل وفي معشر حرم

ولو شاء تحريما على كل معشر ... لقال رسول الله لا يغرس الكرم!

ولو صدق هذا المنطق المموه لكان العلم رخصة مؤذنة لأهله  أن يرتكبوا كل لذة أثيمة، ولأنه قد مارسها فعلا واغتبق من كؤوسها  واصطبح، عرف كيف يتغزل فى محاسنها ويصف آثارها بمهارة تشهد  له بالقدرة الفنية. ومما قاله:

سلاف تميت العقل فى حال شربها ... وتنعش منها الروح والجسم والقلبا

محجبة وسط الدنان ونورها ... يمزق من لألاء غرتها الحجبا

إذا مسها وقع المزاج تألمت ... وأزبد منها الثغر وامتلأت رعبا

وأعجب من بكر لها الماء والد ... وترجع أنى رام تقبيلها غضبى

هي الشمس إلا أنها فى شروقها ... إذا مزجت فى كأسها اطلعت شهبا

يعض عليها التائبون بنانهم ... ويندب كل منهم عقله ندبا

وعلى كل فلا يتردد المرء بعد أن يقرا أوصاف الحلى أن يحكم  له بأن مرتبته فى الصف الأول من شعراء الوصف فى الأدب العربى  أما الغزل فقد كبا فيه جواده وخانه ذكاؤه إذ العقل لا يغنى

وحده فى هذا الميدان، وإنما مرد الأمر إلى القلب الخفاق والعاطفة  المشبوبة، وشاعرنا لم يكن من فئة المحبين الذين يؤمنون باتصال  الوجدان ويظلون فى نجواهم باكين من هول الذكرى وألم الهجر  وإنما كان رجلا حسيا يعترف حقا باللذائذ المادية ليس غير.

لهذا كان غزله قسمين متباينين، أولهما الغزل النسائى المألوف،  والثانى غزل الولدان أو ما يسمونه بالغزل المذكر، ونأسف إذ  نقول إن النوع الثاني كان أرق وأصفى وأدل على الصدق من الأول،  ولكنا لاندهش كثيرا إذا ذكرنا مبادئه الخلقية التى وصفناها قبل؛  ويلوح لنا أن هذا الانحلال الخلقى لم يكن قاصرا عليه وحده وإنما  كان ظاهرة عامة للولاة والأمراء الذين يستقلون فى أطراف المملكة  ببعض المناطق؛ لان وفرة المال وتحقق أسباب النعيم مع قلة  الشواغل الادارية، كانت تغريهم بالعكوف على الملاهى والتمادى فى  الإباحة. أما غزله الأول ففيه جفاف وتكلف وترى عليه سمات

التقليد واضحة ومما قاله فى مذهبه:  

خليانى من فترة النسوان ... وانعشانى بنشطة الغلمان!

ليس يصبو لربة الخال قلبى ... بل برب الأقراط جن جنانى!

تلك هى الأغراض البارزة التى تستحق الدراسة فى شعر صفى الدين،  أما الأغراض الاخرى فهى لا تخرج عن السبل التى طرقتها إخوتها،  وجملة القول فيها أن الزهد والألغاز ليسا إلا مثلين من التقليد  والتكلف، لأن الرجل كما عرفنا كان متهتكا مسرفا، وإنما أراد أن  يعارض قصائد ابن الفارض وأمثاله من المتصوفة المخلصين، ولأن  نوع الألغاز أبعد ما يكون عن معنى الشعر. وهو، وإن أجاد فى  الرثاء حقا، وأبدع فى تصوير فجائع الموت!، نستطيع أن ندرك  إجادته فيما درسنا من مدحه، لأن معناهما واحد وإن اختلفا فى  مناسبة كل منهما مع الحياة أو الموت. غير انه أتى فى باب الحكمة  بكثير من التجارب الصادقة  التى يعززها العقل والواقع واكثر ما تدور حول الصداقة وآداب الاجتماع، فلم يبقى إذن غير المجون وهى  ما نستميح القارئ أن يعفينا منه صونا لحياء القلم وحرصا على وقار  (الرسالة) .

(وبعد) فهذه شخصية كبيرة تجمع بين الوسامة والدمامة،  ولكنها فى جملتها جديرة بالخلود، على أنها آية بينة تقرر إن الأدب  العربى قد ظل بعد موت بغداد يتنسم الحياة قويا ناضرا ،

دار العلوم

اشترك في نشرتنا البريدية