لم تشهد شمس اليوم الواحد والعشرين من المحرم سنة ٨٩٧ هـ حينما أطلت على غرناطة ، تلك المدينة الضاحكة للحياة ، الساكنة إلى النعيم ، السابحة فى جو من النغم العذب والعطر الأريج ؛ بل رأت مدينة واجمة حيرى ، قد أقفرت من الرجال ، إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار ، هى بقية ذلك الجيش الذى دانت له أسبانيا كلها ، وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا .. قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام فى هذا القطر الممرع ، تذود عن بيوت الله ، ومقابر الأجداد ...
ولقد جازت غرناطة أياماً سوداً عوابس ، ورأت مصائب ثقالا متتابعات ، ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التى قضتها ممهدة مذعورة ، تنظر حواليها فلا تبصر إلا مدنا خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها ، وقد كانت أرض العروبة وكانت ديار الإسلام ، وأمة استذلت واستعبدت ، وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان ؛ وبقيت هى وحدها تحمى الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين ، وتعمل وحدها أوزار الماضى وما كان فيه من تخاذل وأثرة وانقسام ؛ وتؤدى وحدها الدين دين الجهاد الذى كان فى أعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين ، فنامت عنه مدن الأندلس وشغلتها خيالات الإمارة وألقاب مملكة فى غير موضعها ...
وجعلت تنظر غرناطة إلى القصر البهى العظيم ، وهو آخر هاتيك القصور التى شغل رواؤها الأمراء وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى ، فكانت مقابر لأمجادهم . طفقت تنظر إليه فلا ترى من بناة الحمراء إلا الرجل الضعيف -
المرأة الملتحية التى اسمها أبو عبدالله الصغير - وأمه الشريفة الأبية ؛ الرجل الذى خلق فى جسم امرأة : عائشة ! فحولت وجهها عن القصر إلى جهة السور تسأل : هل عاد موسى ؟ ولقد كان " موسى " أمل هذا الشعب وإليه مفزعه ،
وعليه بعد الله اعتماده ، بدا له فى ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادى للضال الآيس ، لقد طلع فجأة من الظلام ، ظلام الدهماء ، فإذا هو يلمع فى لحظة واحدة التماع البدر المنير - وكذلك يقذف هذا الشعب العربى بالأبطال كلما حاقت الشدائد وادلهمت الخطوب - وإذا هو أمل أمة ، وإذا هو ملء السمع والبصر ، وملء السهل والجبل ، وإذا هو بطل المعركة المكفهرة ؛ دعا إلى القتال شعبا كَلَّ من القتال ، فلباه على كلاله هذا الشعب الذى علمه محمد كيف يلبى كلما دعى إلى التضحية والجهاد ، لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب ، وسباع عرين ، ووقف بهؤلاء الأسود فى وجه السيل الأسباني الطامي ، وما زال ثابتا ولكن أسوده قد سقطوا صرعى فى ميادين الشرف .
خرج موسى منذ إحدى عشرة ساعة يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين ، إما النصر وإما الشهادة ،
ويرد العدو الذى أبقى عليه حلم المسلمين فلبث منزويا فى مغارات البرنس (البيرنه) ذليلا خائفا ، حتى إذا رأى الضعف قد حمله الانقسام إلى المسلمين ، قوى بضعفهم ،
واشتد بلينهم ، وانتزع منهم الأرض قرية قرية ، وبلدا بلدا ، حتى أقبل بطردهم من آخر منزل لهم فى الأندلس ، من غرطانة .
وعلت غرناطة فترة الجزع ، من خوفها على (موسى) ، لقد جعلته قائدها ، وسلمته الدفة ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع إلى الشاطىء الآمن ، فإذا عجز موسى عن نجائها لم ينجها أحد من بعده ... وقد كان
موسى آخر خيط من خيوط الرجاء ، وآخر شماعة من هذه الشمس التى سطعت فملأت الأرض نورا وهدى ثم أدركها المغيب ، فإذا انقطع هذا الخيط عم ظلام الياس وانتشر ...
وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق ، ثم توالى على نظمه (شعراء ...) البطولة ، عبد الرحمن وعبد الرحمن وعبد الرحمن ، الغافقى والداخل والناصر ، فحمله الأبطال المساعير إلى الأقاصى والأدانى ، وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا ، وبطاح إيطاليا ، مع ضعف وتخافت ولم يبق منه إلا هذا المقطع ، فإذا انقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات .. وقد كان موسى آخر سطر فى سفر الحق والبطولة والمجد ، ذلك الذى كتبه العرب المسلمون فى ثمانمائة سنة ، فمحاه الأسبان فى سنوات ، ولم يبق إلا هذا السطر ،
فإذا طمس ذهب السفر وباد ... وقد كان موسى آخر نفس من أنفاس الحياة فى الأندلس المسلمة ، فإذا وقف هذا النفس الواحد ، وسكن هذا الدماء الباقى ، صارت الأندلس المسلمة أثرا بعد عين ، وصارت ذكرى عزيرة فى نفس كل مسلم ، وأمانة فى عنقه إلى يوم القيامة ...
وانطلقت الصيحة من أعالي الأسوار أن " لقد عاد موسى " ، فتقاذفتها الألسنة وتناقلتها الآذان ، فطارت فى أرجاء المدينة ، وسارت فى جوانبها مسير البرق ، فبلغت الساحات والدروب ، وولجت الدور والمنازل ، وأوغلت خلال البيوت والسراديب ، فلم تلبث أن نفضها نفضا فألقت بأهليها إلى الآزقة والشوارع ، فإذا هى مممتلئة بالناس من كل جنس وسن ومنزلة ، وإذا هى تزخر بهذا النهر الإنسانى الذى يجرى صوب الأسوار صخابا جياشا مزيدا ،
يتحدر ويسرع مجنونا ، كأنما تدفعه قوة خفية هائلة ، احتوتها هذه الكلمات السحرية (المكهربة) الثلاث : " لقد عاد موسى " !
لقد كان يوما من تلك الأيام الغر التى تضىء الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ ، وتجىء فى الليالى كالعبقرى فى الناس ، وتضع العجائب لتكون معجزة فى الزمان ؛ ما شهدت مثله غرناطة ، ولا أبصرت مثله (إلا قليلا) عين الوجود ! يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات فى غمار غريزة النوع ، ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن ،
وانبثوا من الحاضر المقيت ليعيشوا فى الماضي الفخم ؛ فماج فى سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابها أرواحهم على أكفهم ، وقدموا بين أيديهم دماءهم التى غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز ، ونفوسهم التى عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة ، فمشت فى الأعصاب النار ، واستعد كتاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب إذا هب .
ووصل موسى ، ذلك البطل البدرى الذى أخطأ طريقه فى الزمان فلم يأت فى سنوات الهجرة الأولى ، بل جاء فى الأواخر من القرن التاسع ، ولم يطلع فى الحجاز التى كانت تبتدىء تاريخها المجيد ، بل فى الأدلس التى كانت تختتم تاريخها .
وكانت تعلوه كآبة ، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذى لو سبق به الدهر لصنع يرموكا أخرى أو قادسية ثانية ! ونظر موسى حوله ، فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره ، وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة فى بركة من الدم ، ونسوة تفتحت عنهن البيوت تفتح الأكمام عن زهراتها ،
فرأت الطرقات من لم تكن الشمس تراهن صيانة وتعففا قد برزن يسرن إلى المعركة وبزاحمن الرجال ، ولم يكن يخشين على جمالهن فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس ، فكان كل رجل أخا فيه لكل امرأة ، فأحنى رأسه . ورأى الناس فى عينى البطل دمعة تترقرق ، وفتح
فمه فحبس الناس أنفاسهم .
فإذا هو يعلن النبأ المهول ، نبأ تسليم أبى عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة !
نبأ بدأ صغيرا كما تبدأ المصائب ، فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثره وما خطره ، ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ ، ولم تفرغ إلى اليوم من وصف فواجعه وأهواله .
ونظر موسى فإذا الصرح الذى أنفق فى إقامته الدهر الأطول ، قد انهار فى دقائق ، وإذا هذه الديار التى سقيت بدم الجدود وامتزجت برفاتهم ، وقامت على أيديهم يسلمها جبان مأفون للعدو المغير ، وإذا السادة صاروا خولا والملوك عبيدا . . وجعل يفكر فى هذه الفئة التى حوله فى أكرم زهرات غرناطة وأزكاها ، هل يجنبها الموت الحاصد ويردها إلى حيث وجدت الراحة والدعة ، أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها إلى موت شريف ؟ وإنه لقى تفكيره وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذى لا يعرف ممن نظمه لهم ، فيصغى الناس ويستمع الفلك الدائر :
" لا تبكى يا أماه ، إنا ذاهبون إلى الجنة " " إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات فى سبيل الله .
إن أزهار غرناطة لن تمنع عطرها قبرا لم يمتع صاحبه بعطر الحياة .
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها .
أنت يا أرض غرناطة أمنا الثانية فضمينا إلى صدرك الدافىء الذى ضم آباءنا الشهداء .
لا تبكى يا أماه بل اضحكى واحفظى لعبنا ، سيأتى إخوتنا فيلعبون بها .
فذكريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن .
سنلتقى يا أماه ! إنك لن تؤثرى الحياة فى ظلال الأسبان على الموت تحت الراية الحجازية . ولن تضيق عنا أرض غرناطة ، ما ضاقت أرضنا بشهيد " .
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك ، فلكز فرسه ، وانطلق إلى حيث لا يدرى أحد ، كما جاء من حيث لم يدر أحد .
وكذلك ذهب آخر أبطال الأندلس ، لم يخلف قبرا له فى الأرض ، ولا سيرة واضحة فى التاريخ ، بل مر على الدنيا كأنه حلم بهيج !
رحمة الله على موسي بن أبى الغسان وعلى أولئك الأبطال .
دمشق الشام :

