الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 606الرجوع إلى "الثقافة"

صور خاطفة لشخصيات لامعة، لديل كارنيجى

Share

- ٦ -

ماركونى

منذ بضعة أعوام هيأ لى حسن الحظ فرصة مقابلة رجل كان له أثر خطير على حياتك . . فقد طرأ بفضله تغير كبير على عالمنا هذا الذى نعيش فيه . ومكن لنا أن نرسل رسالة حول العالم فى سبع الثانية . ومكننا من الجلوس فى البيت وإدارة لولب فى جهاز لاسلكى للاستماع إلى الملك وهو يتكلم فى قصر باكنجهام أو الاستماع إلى أشهر الفرق الموسيقية وهى تعزف أنغام الدانوب الأزرق الساحرة .

وجميعنا ينظر إلي ماركونى كإيطالى الأصل . والواقع أن أباه كان إيطاليا ، أما أمه فهى إيرلندية عاشت فى لندن . وقد أكسبه دمه الإيرلندى شعره ، الخفيف وعينه الزرقاوين ؛ والحق أن هيئته إنجليزية أكثر منها إيطالية . . وهو يتكلم الإنجليزية بطلاقة مع لكنة لندنية حقيقة ، ويلبس عوينة من طراز بريطانى على عينه اليسرى وقد فقد للأسف عينه اليمنى فى حادث سيارة وقع منذ عشرين عاما .

وعندما جلست لأتحدث إلى هذا الرجل المتواضع ذى الكلام الرقيق والمظهر البسيط كان من الصعب على أن أصدق أنى حيال واحد من أعظم الرجال على وجه الأرض . وفى أثناء طفولتى عندما كنت أقيم فى ميسورى قرأت عن عالم كبير فى إيطاليا قد اخترع جهازا تلغرافيا لاسلكيا وفى عام ١٩٢٠ ذهبت مع لويل توماس للغداء فى مطعم بلندن حيث كان من السهل الاستماع إلى اختراع جديد هو الراديو . والآن ها هو ذا الرجل الذى قام بهذه المعجزات يجلس أمامى وجها لوجه . . ليخيل إلى أننى فى حلم .

وسألته عن المرة الأولى التى شغف فيها بالسعى وراء اكتشاف الراديو ، فأجابنى بأن شغفه هذا يرجع إلى أيام شبابه عندما أراد أن يقوم بعمل يمكنه من السفر حول العالم . وأخبرنى أنه سافر مرارا مع أمه من موطنه فى إيطاليا إلى أهلها فى لندن . وأثناء اختراقهما لفرنسا جلس إلى نافذة القطار يستعرض الجبال وقد كساها الجليد ، والأنهار الثلجية والقصور الفخمة التى توحى بالخيال . فنشأ لديه فى طفولته عاطفة قوية وحب عارم نحو السفر والسياحة . وأخبرنى أنه دائما كان يشعر - أثناء تجاربه فى الموجات الكهربائية والأجهزة اللاسلكية - برغبة شديدة فى السفر إلى بلاد بعيدة مخترقا البحار والمحيطات ؟ وقال إنه لا يستطيع العمل فى معمل صغير مقفل ، وإنه يقوم بمعظم تجاربه على ظهر يخته الذى جهزه بكل المعدات والأجهزة الضرورية للمعامل . . وقال إنه عبر المحيط الأطلنطى سبعا وثمانين مرة .

وقد اعتاد ماركونى عندما كان صبيا أن يتبادل الرسائل اللاسلكية خلال غرف بيته . واستطاع بعد مدة أن يرسل الرسائل على بعد ميلين . وقد سر كثيرا لهذا الاكتشاف . أما أبوه فقد ساءه أن يضيع ابنه وقته على هذا النحو . . ولكن ماركونى استطاع أن يبيع بعض مخترعاته - بعد عدة سنين - إلى الحكومة الإنجليزية بخمسين ألف جنية ، فذهل أبوه لذلك .

وقد سألت السيناتور ماركونى عما فعله عندما قبض الخمسين ألف جنيه ، فأجابنى بأنه خرج واشترى دراجة له وعاد إلى العمل ثانية كما هى العادة . فلذة العمل عنده تفوق كل ما يستطيع أن يجلبه له المال من لذائذ

وأدرك ماركونى عام ١٩٠١ أن حلمه العظيم على وشك أن يتحقق ، فأسرع وعبر الأطلنطى موقنا بأنه يستطيع أن يتلقى الرسائل فى أمريكا من محطة الإرسال فى انجلترا .

وفى نيوفوندلاند أرسل ماركونى طائرة كطائرات الأطفال فى الهواء وجعلها تمثل " الإيريال ولما كانت الطائرة رقيقة الصنع ذات غطاء حريرى فقد حطمها الهواء . فأرسل بالونا بدل الطائرة ، غير أن الريح عادت فحطمت البالون وألقته فى عرض المحيط . فصنع طائرة أخرى قوية متينة وأطلقها فى الهواء ، وأمضى حابسا أنفاسه ساعات طويلة ، وانتظر أن يتلقى العلامات التى توقع صدورها من محطة الإرسال فى كورتوول . . ولكنه لم يتلق شيئا ، ولم يسمع صوتا . فأصابته خيبة الأمل والحزن الشديد ، واعتقد أن تجربته قد خابت نهائيا . وأن حلمه الكبير قد تبدد

وفجأة سمع دقة خفيفة . ثم دقة أخرى . . ثم دقة ثالثة . . أجل . . إنه الإرسال . إنها الإشارة التى اتفقوا عليها . . إنها الدقات الثلاث التى تقوم مقام حرف S عند عمال البرق . واهتز ماركونى من السرور ، وأدرك أن اكتشافه حدث كبير فى التاريخ ، واشتاق إلى إعلان الخبر إلى الناس . ولكنه تردد . . فقد خشى ألا يصدقوه . فمكث ثمانيا وأربعين ساعة مغلقا السر على نفسه ، وأخيرا استجمع الشجاعة وأرسل بالخبر إلى لندن ، فأثار هذا اضطرابا كبيرا ، ونشرت الصحف والقارات الخمس تفاصيل القصة

وقامت الدوائر العلمية لهذا النبأ وقعدت . فها هو ذا الإنسان ينتصر مرة أخرى على الوقت والمسافة ، وها هو العالم على باب عهد جديد . . لقد ظهرت الأجهزة اللاسلكية ، فكان هذا إيذانا بتغير فى حياتك وفى حياتى .

فكم كان عمر ماركونى عند ما توصل إلى هذا الاكتشاف ؟ سبعة وعشرين عاما . وقد وصلت إليه حينذاك رسائل كثيرة يشكو فيها أصحابها ، إذ تخيلوا أن الموجات الكهربائية تجتاز فى سيرها أجسامهم ، فتحطمت لذلك أعصابهم ، ولم يعد باستطاعتهم النوم .

وهدد الكثير من هؤلاء ماركونى بالقتل . . وأخبره أحدهم - وهو ألمانى - بأنه قادم إليه فى لندن ليقتله ، فسلم ماركونى الخطاب إلى بوليس سكتلنديارد ، واحتاطت الحكومة حتى لا يدخل هذا الألمانى الجزيرة البريطانية .

وسألت السيناتور ماركونى عن المدة التى تكفى حتى يصبح لديك ولدى فى بيوتنا أجهزة دقيقة منتظمة من التليفيزيون . فأجابنى بأن فى استطاعة العلم أن يحقق ذلك فى مدى عشرة أعوام أو أقل

وقد مرت العشرة أعوام - كما تعلم - غير أننا جميعا ندرك أن سنى الحرب قد منعت العلم دون الوصول إلى هذه الغاية .

اشترك في نشرتنا البريدية