أكنت سائرا ضحوة يوم في شارع " قصر العيني " فصادفت امرءا يعبر الطريق ، وهو يسارق الخطا ، هين المشية ، خاشع البصر ، يتلفت في مراقبة وحذار ، كأنما يستخفي عن أعين الناس ؟ .
لو تاح لك أن تصادف امرءا هذه صفته ، لجري في خاطرك على الفور أنك تري رجلاً من أولئك الذين ننعتهم بطيبة النفس ، وصفاء النية ، والكف عن الضرب في غمرات الحياة ، ولحدثتك نفسك بأن هذا الرجل يستوحش من الدنيا ، كأنه بين أهلها غريب ؛
ولعلك لا تلبث أن نجد الرجل قد أثار بين جوانحك عاطفة من التوسم له ، والتعرف به ، فإذا انت متأئر خطاه ، تريد استطلاع أمره ، يحدوك إلى ذلك ما تلمح من سمت غير مألوف .
وما هي إلا أن تري الرجل قد عرج على دار " المجمع اللغوي " وأخذ يتسامي علي سلمة ، متلقياً ممن حوله تحايا الاستقبال ، وهو يردها بأحسن منها في وداعة
محببة تجلوها ابتسامة خفرة ، وإنك لتجده يسخو بهذه التحية لمستقبليه من الكبراء وغير الكبراء بدرجة سواء .
ويستهويك ما نشهد من أمر الرجل ، فتتابعه في مسيره ، حتى يسلمك إلى قاعة مديدة تغص بمنضدة مبسوطة قد ترصصت عليها كتل من الأسفار ، ما أشبهها بحماجم أثرية ضخام .
وثمة تري صاحبك قد أوغل في القاعة ، حتى إذا بلغ منها مكاناً قصياً ، اتخذ مجلسه في سكينة وركون ، كأنه يخشى أن يشعر بمقدمه أحد ، وما أسرع أن يمد يمينه إلى سفر من هذه الأسفار ، فيقلب من صفحاته لحظات ، ثم يمسك عنه ، وقد تكمش في مجلسه وأطرق ، حتى لتقول أغفي
وتعمر جوانب القاعة بالقصاد ، ويكتمل الجمع ، فيتجاذب الرفاق أطراف النقاش ، وتدور بينهم معركة الرأي حامية الوطيس ، وصاحبك على حاله ، لا تنبس له شفة ،
ولا يطرف له جفن ، فتحسب أنه ساه عما حوله ، لا يجري شئ منه بباله ، فتتركه وشأنه ، ويشغلك التحاور والجدال ، وفيما أنت كذلك إذ يداعب سمعك صوت يختلج مترفقاً يحاول أن يجد له طريقاً في ملتطم ذلك الزحام ، فإذا تبينت القائل عرفت أنه صاحبك المنطوي على غفوته ، فتأذن له وانت عليه مشفق ، فيروعك أنه قد استبطن الصميم من البحث ، وانه يجمع لك في فقرات ما تشعث من أطراف الرأي ، ولا يعتم أن ينتهي بك إلى حكم تأنس إليه النفوس ، وتضيق به فسحة الخلاف .
وتظل مسحور السمع بهذه المساجلات الطريفة التي تصطرع فيها عقول ، وتسطع بدائه . غافلاً عن استشارة تلك الساعة العتيقة التي تبرز على حائط القاعة ، وما أنت لو استشرتها بمستفيد ضبطاً لوقتك ، فإنما هي ساعة مجمعية كأنما أعليت في مكانها لتستهزيء بدورة الفلك ، وتسخر من حساب الزمن !
ولتجدن المناقشات قد تناوحت يمنة ويسرة ، ولربما اشتد اشتباكها واحتد ، وأنت معقود العين بصاحبك ، تقفو مشاركاته فيما يتراءى من وجهات النظر ، فإذا بشخصيته لتوضح لك شيئا بعد شئ ، وكأنك تجتلي كتاباً شائقاً جد شائق ، كلما قلبت من صفحاته ازددت به من تعلق . وطمحت منه إلى جديد ! .
إنه في شتي مناقشاته ومناقلاته لا يفارق سمه ، فهو أبداً هادئ القسمات ، رقيق الإشارة ، اريحي الروح ، يتميز بذلك الصوت المختلج الحي . . ولكنك تستبين من وراء ذلك كله إيماناً منه بفكرته ، وثباتاً في تعزيزها ، ولياقة في الدعوة إليها .
وإذا بهذا الرجل الذي رأيته أول ما رأيته منكمشأ مستوحشاً ، فحسبته ممن لا حظ لهم في معترك الحياة - قد تفتق إهابه عن زعامة بصيرة قادرة تنتهج لها طريقاً لا عوج فيه .
وتعجب لصاحبك ، وقد استحر نقاشه وجعل يطار ح رفاقه مصطلحات العلم في صلايتها وخشونتها ، إذ تراء وقد دس بين هذه الصخور والجنادل - في الفينة بعد الفينة - منحة فكهة ، أو مزحة طريفة ، لا تلبث أن تشيع في جو المجلس نسمة من الطرب والمراح . فتعلم أن صاحبك على وثاقة علمه ، وأصالة وقاره ، يجيد ما يجسده " ابن البلد " من خفة وظرف وإيناس ، فهو يحسن أن يستخرج من اللفظة الجافية " لابن سيده " أو القاعدة المعقدة " لسيبويه " نكتة ضاحكة ، أو دعابة لطيفة ، تحيل تلك الجنادل والصخور رياضا حالية بالنضرة والازدهار . .
ولا يكاد ينتهي بك المجلس الأول في صحبة الرجل ، حتى يغربك ما استبان لك من أمره بأن تطلب المزيد . .
إذا جاز لنا أن نوجز وصف " أحمد أمين " في كلمة ، قلنا : إنه " بناء " ! .
ولقد ملكت هواه نزعة البناء والتشيد ، وأولع بها أيما ولوع ، فوقف عليها فكره وجهده ، تارة يزاول ويمارس ، وطوراً يشرف ويرعي ، وحيناً يحضن ويدعو . . .
وخير ما يمتاز به هذا " البناء " في نزعته ، أنه اجتماعي عصري . وانه واقعي عملي ، إذا علمنت له فكرة رسمها في ذهنه أدق رسم ، وجعل لها خطة محكمة ، وقدر لها كل ما عساه يكون من أقدار ، ولا يكاد يمد يده لبضع الحجر الأساسي لهذه الفكرة ، حتى يكون قد استوثق من الأمر غاية الاستيثاق ، وأحاطه بما يكفل له الرسوخ والشموخ ، فإذا البنيان تعلو دعائمه ، وإذا هو حسن للفرائخ والعقول .
وعبقرية هذا " البناء " العظيم تتمثل في أنه يجعل لنزعته طابعاً من التجديد ، لا مغالاة فيه ولا انسلاخ . فهو إذا شيد التمس لأساس بنيانه عتادا من كنوز الشرق
وأمجاده ، ولكنه يقيم على هذا الأساس طرازا تتوافر له كل مزايا التحضر العصري والعمران الحديث .
وهذا " البناء " العظيم يرى دائما من وراء سعيه إلى هدف مقصود ، ذلك ان له رسالة اصلاحية واضحة ، يبتغي بها تجديد العقلية العربية ، وإمدادها بما يعينها على ملاحقة الزمان في سيره الحثيث . .
حول محور هذه الرسالة الإصلاحية يدور فكر الرجل ، ولا يمل أن يدور . وكأن هذا المحور مغزل يستمد منه الخيوط لينسج منها أعماله ومساعيه ونفحات قلمه .
اقرأ كتابه " فجر الإسلام " وصنوه " ظهر الإسلام " ، تجده يؤرخ الحياة العقلية للمسلمين في مواضى الحقب ، ولكنك تستطيع أن تلح خلف مظاهر البحث والدرس لوامع تلك الروح الأصيلة ، روح الدعوة إلى الإصلاح . والتوجيه إليه ، إذ هو يجلو لك منهاج الفكر العربي في تطوره وسمو ، ويميط الغبار عن معلله ، ويريك الضوء من مصابيحه !
ولم يكن عجباً أن يشغف الرجل بدراسة القادة الأعلام الذين هم طليعة النهضة في الشرق الجديد . وإن كتابه " زعماء الإسلام في العصر الحديث " ليكشف لك أن الرجل يعنى أكبر ما يعني في تاريخ أولئك القادة الأعلام وتصوير حياتهم بإبراز ما كان لهم من جهود في سبيل النهوض بالعقلية الشرقية وفي نشر رسالة التجديد !
وإليك كتابه " فيض الخاطر " ، لكأنه " فلم " سينمائي تتوالى فيه الصور والشاهد ، " فلم " تتطبع عليه استجابة ذلك " البناء " الداعي إلي الإصلام لكل ما يلابسه في الحياة والمجتمع . وإنها لصور شائقة ، ومشاهد رائعة ، تأنس فيها قبسة من الفن في العرض والتعبير ، حتى لتدهش إذ تتجلى لك في شخصية هذا العالم الدارس صبغة الأديب الفنان
وانت لو تصفحت مختلف الجوانب من شخصية " أحمد أمين " لطالعت عينك صورة قاض تتوضح فيه
نزعة القضاء بأوفى ما فيها من خلال الدقة والوزن والنظام ، وأكرم ما فيها من خصال النزاهة والعدالة ويقظة الضمير
إنه قاض في خاصة شأنه مع نفسه ، قاض في حديث مجلسه ، قاض في الجامعة أستاذاً وعلى مكتبه رئيس عمل ، قاض في معاملاته مع الناس بين قريب وبعيد ، قاض فيما يجري به قلمه من مباحث ودراسات وخواطر . .
وقد عرفت الأقدار نزعته القضائية في بواكيرها حين شب شبابه ، فأرادت أن يكون أحد قضاة الشرع يفصل فيما هنالك من خصومة ونزاع . . ولكنه لم يمكث في منصب القضاء طويلا ، فترك ذلك الميدان المحدود ، ليكون قاضا طليقا لا تقف به قيود المهنة عند غاية ، ولبث في دنياه ، على اختلاف مناصبه ، وتنوع مجالات نشاطه ، تملكه نزعة القضاء ، وتهيمن على فكره ما وسعها أن تهيمن .
وهذه النزعة القضائية قد وسمت حياة الرجل في مناحيها العقلية والاجتماعية بسعة الاعتدال . . فهو معتدل أبداً في تقديراته وأحكامه ، معتدل أبداً في علاقاته ووشائجه ، لا يجمح في القسوة ، ولا يتراخي في اللين / ، يحب حين يحب هوناً ما ، ويبغض إذا أبغض هوناً ما ، أنأي ما يكون عن النصب والتحزب ، آعف ما يكون للسرف والتطرف ، أميل ما يكون إلى الموادعة والحسنى !
والعجب العاجب في شخصية " أحمد أمين " أن نشأته قد اكتنفنها كل دواعي التحفظ ، من معتقدات راسخة ، وتقاليد صارمة ، وتعاليم جامدة . . ولكن فكره توهج والتمع وسط ذلك كله ، كما يتلألأ الجوهر النقي ، وخرج يلتمس الطلاقة في الأفق الرحيب . . فإذا التمسنا الآن حرية الفكر بين القادة الأعلام ، ألقيناه منار الطريق !
