كان الغلام في نحو الثالثة عشرة من عمره ، قصير العنق حتى ليكاد يحسب الناظر إليه أن رأسه ركز تركيزا بين منكبيه ، أفطس اأانف ، واسع المنخرين ، كثيف شعر الحاجبين مقرونهما ، غليظ الشفتين ، واسع الفم ، تنطق نظرات عينيه كما لو كانتا ترميان إلى هدفين اثنين لا إلى هدف واحد ، وذلك من عدم استقرار مقلتيه وشدة قلقهما ، كأنما يحس صاحبهما بأن من ورائه طالبا يطلبه .
وكانت مهمة هذا الغلام أن يؤدي الشهادة على " متهم " في جناية .
وكانت الجناية أن هذا " المتهم " أعد وكراً لإيواء هذا الغلام وأمثاله ، يدربهم فيه على السرقة والنشل ، ثم يطلقهم وراء الفرائس التي يختارها لهم ، فيجمعون له من المال والعروض الأخرى ما تصل إليه أيديهم .
ودعي الغلام للشهادة فقال : إن المتهم أغراه بالمال على أن
ينضم لعصابته ؛ وإنه كان ينفق عليه وعلى زملائه الذين معه عن سعة ، فيطعمهم أطيب الطعام ، ويدخلهم دور السينما ، ويمتعهم متاعا حسنا ؛ وإنه نجح بذلك في إغرائهم على ترك دور أعمالهم ، وعلى هجر ذويهم للسير في ركابه ،
والعيش في رحابه . ولكنه لم يكن يكتفي منهم بما يجمعون له من مال ، بل كان يستبيح لنفسه أحياناً عِرض من شاء منهم . وإنهم ظلوا يعيشون معه في هذه الحمأة إلى أن ضج أهلهم بالشكوى من تغيب أبنائهم . فكان ذلك سبباً في لفت نظر البوليس إلى المتهم وكشف أمره .
ولم يشأ المتهم أن يوكل محاميا للدفاع عنه ، فندبت له المحكمة من يقوم بمهمة هذا الدفاع ، فإن هذا هو النظام المتبع أمام محاكم الجنابات حتى لا تمر قضية منهم بين المحكمة دون أن يقوم بدراستها شخص إخصائي في القوانين وتطبيقها ، يكفل للمتهم أن تعرض قضيته في أصدق صورة ، ويحيطه بكل ما تخوله القوانين من ضمانات . وكان المحامي موفقا كل التوفيق في رسم خطة دفاعه .
فإنه وجد أنه لا دليل على صدق الاتهام إلا ما قرره ذلك الغلام . وكان الغلام قد عرض على الطبيب الشرعي لفحصه والتحقق من صحة مزاعمه التي رمى بها هذا المتهم ،
فقرر الطبيب أنه لا يوجد بالصبي ما يشير إلى حدوث أي اتصال جنسى به ، وأنه ما زال على فطرته الأولى التى فطره الله عليها سليما معافى لم يطمثه إنس ولا جان . فرأى المحامي اللبق أن يدخل من هذا الباب ليدفع هذا الجانب من شهادة الشاهد بالكذب . حتى إذا تم له ذلك تحول إلى جانبها الآخر فزعزع عقيدة قضانه فيه ، إذ أنه متى ثبت كذبه في شق من روايته كان خليقا أن يكون غير مصدق في شقها الآخر .
ولكي يضفي المحامي على دفاعه لونا جديدا من ألوان الطلاوة وليزيد في تدعيمه وتقويته ، أمسك بيد الغلام الشاهد وأخذ يعرضه أمام المحكمة على أنه لا يصلح لأداء
الشهادة ، ولا يجوز أن تكون اقواله محل ثقة وتصديق ، لأنه هو نفسه نموذج من نماذج المجرمين الذين وصفهم لمبروزو ؛ فهذا أنفه ، وهاتان شفتاه ، وتانك عيناه ، وذانك حاجباه ، إلى آخر ما فصلناه في صدر هذا الكلام
وكانت هذه الإشارة من ذلك المحامي اللبق هي التي دفعتني إلى كتابة هذه الكلمة . فإن لمبروزو لم يعد اليوم مع الأسف ممن يستشهد بآرائهم في مسائل الإجرام والمجرمين ، كما أن التحدث عن نماذجه التي وصفها في شرح نظريته لم يبق له مجال بعد الكشوف العلمية الحديثة التي نسخت أحكام تلك النظرية ، والتي شهد بعضها لمبروزو نفسه قبل وفاته في سنة ١٩٠٩ م . ولشرح ذلك أرى أن أقول كلمة عما كانت عليه الحال قبل وفاة لمبروزو ، ثم كلمة ثانية عما صنعه لمبروزو ، وأخيراً كلمة ثالثة عما صار عليه الحال بعد لمبروزو .
فقبل لمبروزو كانت الفكرة السائدة في أمر الجريمة والمجرم ، وفي الأسباب التي تؤدي إلى ارتكاب الجريمة ، والمسئولية التى يجب أن يتحملها المجرم من ارتكابه لهذه الجريمة - كانت الفكرة في ذلك كله تقوم على أساس أن الإنسان " حر الإرادة " وأن خلقه وسلوكه من صنع يده وحده . فهو إذا ارتكب جريمة يكون قد ارتكبها لأنه أرادها . ويحق عليه العقاب بسبب هذا العمل الإرادي الذي قارفه . ومن أثر ذلك أن العقاب كان يرتبط بالجريمة وحدها ولا ينظر في شأنه إلا شخص المجرم ؛
فنوع الجريمة هو الذي يحدد عقوبتها . فإذا كانت جريمة الضرب مثلا عقوبتها الغرامة ، فإن كل من ارتكب جريمة ضرب يحكم عليه بالغرامة سواء أكان الضارب طفلاً صغيرا أم شابا مميزا أم شخصا معتوها أو مجنونا ، وسواء كان الضرب عدوانا صريحا أم كان لدفع عدوان
صريح ؛ لأن نظر الشارع في ذلك العهد لم يكن يتجه قط إلى شخص المجرم وظروفه .
ومما تسهل ملاحظته أن هذه صورة من صور تفكير الأطفال . فإن الطفل إذا دفعه زميله مثلا فأوقعه على الأرض يكون أول عمل له بعد أن يقوم على قدميه أن يركل هذا الزميل أو يلطمه . وهو يسلك نفس المسلك ويدفع نفس العقاب لو أنه كان يستند الى باب مثلا فاندفع الباب فجأة بفعل الهواء وأوقعه على الأرض ، فإن أول ما يفعله في هذا المقام أيضاً أن يركل الباب بقدمه أو يلكمه بيده ، ثم ينسحب من مكانه راضيا عن نفسه وعن عمله أتم الرضاء .
وكان أهل تلك القرون الأولى يرون أنه مادام الفعل المعين يستوجب فى ذاته عقوبة معينة بصرف النظر عن فاعله ، فإن المنطق يسوغ أن محاكم الكلاب والخنازير ونحوها أمام المحاكم على ما يقع منها " من الجرائم " . ولم يكن من المستغرب فى تلك العهود أن تقدم الحيوانات إلى المحاكم بما جنت أيديها - أو أظلافها وأنيابها - فيحكم القضاة بحبس بقرة مثلا لأنها رعت زراعة الجار ، ويحكمون بحبس كلب لأنه عض أحد عابرى السبيل .
ومما تجدر الإشارة إليه أن طابع العقوبة فى ذلك العصر كان طابع الانتقام ، حتى إن القانون لم يكن ينص إلا على الحد الأدنى للعقوبة ، ثم يترك الأمر للقاضى فيرتفع بحدها الأعلى إلى حيث ترضى فيه غريزة الانتقام .
ثم تطورت الأمور ، واختلفت وجهات النظر ، وظهر روسو وتقدم بنظرية " العقد الاجتماعى " التى تنادي بأن المجتمع قام على أساس شبه تفاهم بين أفراده ، على أن يرعى كل واحد حقوق صاحبه ، وأن الفرد الذى تحدثه نفسه بالخروج على أحكام هذا العقد فيطمع فى مال جاره مثلا يعتبر خروجه هذا جريمة ضد المجتمع يجب أن تقمع
بالعقاب ؛ ويكون مقياس العقوبة فى هذه الحالة تلك الدرجة التى أوذى بها الجمهور ومبلغ ما أصاب المجتمع من ضرر . ولم يكن يوضع فى الميزان شىء من معايير شخصية المجرم نفسه أو نيته أو الباعث له على ارتكاب جريمته . وكان هدف العقوبة فى هذه المرحلة الروع والتحذير .
أما إصلاح حال المجرم ومعالجة مواطن الانحراف فيه فلم تكن تدخل فى حساب المشرعين فى ذلك الزمان ، ولذلك اكتفوا بإيجاب أن تكون العقوبة سريعة ، علنية ، متناسبة مع درجة جسامة الجريمة ، لا يراعى فيها الانتقام من المجرم بقدر ما يراعى تخويف من تحدثه نفسه بالعودة إلى مفارقة مثل عمله .
فأنت ترى أن " شخصية المجرم " ظلت على الرغم من هذه التحسينات الظاهرة المحسوسة بعيدة عن أن تستلفت نظر المشرعين او ان تحظى بشىء من اهتمامهم وتقديرهم . ولكن كان من المبادىء التى كسبها أهل هذا العهد أن العقوبة أصبح يتولى تقديرها القانون فى حديها الأعلى والأدنى ؛ فلم تبقى للقاضى تلك الحرية الأولى التى كانت تطلق بدء فى توقيع ما يشاء من العقوبات الانتقامية الصارمة ، وأصبح ملزما بأن يصدر أحكامه فى نطاق هذه الحدود .
ثم سار العالم خطوة أخرى إلى الأمام . وظهر فى سنة ١٨٥٩ كتاب " أصل الأنواع " لداروين ، فكان له أعظم الأثر فى توجيه علم الإجرام وجهة جديدة . لأنه لفت الأنظار إلى أهمية الناحية ( الأنثروبولوجية ) فى تكوين الإنسان ، وإلى المميزات الخلقية التى يمتاز بها كل فريق من الكائنات . وكان فى إبطاليا فى ذلك الوقت طبيب اسمه Cesare Lombroso (1836 - 1909 ) كان يعمل فى أوائل عهده طبيبا فى الجيش ثم طبيبا فى
السجون . وكان وهو فى الجيش يعنى بتتبع ما بين أجسام الجنود من سمات وما بين ميولهم نحو الخير والشر ، ويحاول أن يربط بين هذه السمات وهذه الميول . ثم حدث له أن التقى وهو يزاول مهنته فى السجون الإيطالية بنزيل من بين نزلائها كان يمتاز عن زملائه الآخرين بأنه شديد الاعتداد بنفسه كثير التمدح بجرائمه ، وأن نفسه كانت تطفح صلفا وغرورا . فاهتم لمبروزو بتعقب أطواره وأحواله ؛
ولما مات قام بتشريح جثته ، فلفت نظره فى الدماغ عيوب تشريحية ظاهرة . فدفعه هذا الكشف إلى الاعتقاد بأن النزعات الإجرامية قد تكون نتيجة لعثرة بعثرها التكوين الجسمانى فى شخص ما ، فينتكس بها صاحبها فى سلم المدنية درجة أو درجتين ، ويرتد إلى نموذج من نماذج البشرية الأولى حين لم يكن الإنسان قد استوفى حظه من التقدم والتهذيب . وبذلك سمى نظريته هذه بنظرية " الارتداد الوراثي " وقال عن " المجرم " إنه فرد لم يشمله التطور البشرى كما شمل غيره ، وإنه صورة بيولولوجية متلكئة من الإنسان الهمجى المتوحش .
وعلى أساس هذا الاعتقاد الذى تأثر فيه بآراء داروين وضع نظريته التى نادى فيها بأن المجرم نموذج خاص من الناس يتميز عن غيره بصفات وسمات أنثروبولوجية (1) معينة .
وفى الكلمة التالية سنتوسع إن شاء الله فى شرح هذه النظرية . ثم نعرض لما نقدها به الناقدون ، ثم نبين ما انتهى إليه علم الإجرام من النظريات الحديثة فى تعريف الجريمة ، وفى تحديد مسئولية المجرم وطريقة محاسبته على
ما اجترح .
