الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 217الرجوع إلى "الثقافة"

صور فضائية :، مآزق . . . !

Share

كان أهل العصور القديمة ينظرون إلى الجريمة علي أنها أثر من آثار إرادة الإنسان الحرة  , ولذلك كانوا يحملون الجاني كل نتائج جريمته ، ويلقون عليه كل تبعاتها ، فاتسمت عقوباتـهم بالصرامة والقسوة ، حتى لقد كان القانون يكتفى بتقرير الحد الأدنى للعقوبة ، ويترك للقاضى أن يرتفع بها إلي حيث يشاء ؛ وكان الميل إلي الانتقام من الجان يملي علي القاضي حكمه في كثير من الأحيان .

ثم تدرج المجتمع بالجريمة وعقابـها فجعل يقيس العقوية بمقياس الضرر الذي أصاب المجتمع من جرائها ، ولم يعد يحاسب الجاني علي نيته كما كان يصنع فيما مضي بل اكتفى بأن ينزل به من العقاب ما يكافأ مع فعلته الخاصة التى اقترفها ؛ ولكنه سوى أيضاً بين المجرمين في العقوبة ، فمن ارتكب جريمة ناله عقابها بصرف النظر عن ظروفه الخاصة ، فالصغير أمام القانون كالكبير ، والبالغ عنده كالقاصر ؛ وتعفف المشرع عن فكرة الانتقام من الجاني ، وزعم أنه حين ينزل به العقوبة لا يريد إلا أن يردعه ، ويوفر العبرة لغيره ممن تحدثهم أنفسهم بمقارفة الجرائم .

ثم خطا المجتمع خطوة أخري ، فخرج عن ذلك النظام الآلي الذي سبق وضعه لقياس الجريمة وتقدير العقاب واعترف بمبدأ الظروف المحققة ، وأعطي القاضي سلطة تقديرها ، وأخرج القصر وذوي العاهات العقلية عن زمرة المسئولين عن أعمالهم الجنائية.

ثم جاء لمبروزو صاحب نظرية ( الارتداد الوراثي ) التي

تقول بأن النزعات الإجرامية يمكن ارجاعها إلي ارتداد الإنسان وانعكاسه إلى نماذج وحشية بدائية ، وأن سبب الجريمة يرجع إلى ظواهر جسمانية في شخص المجرم نفسه ، وأن المجرم ما هو إلا شخص لم يشمله التطور البشري كما شمل غيره  , ، فهو صورة بيولوجية متلكئة من الإنسان الهمجي الأول : ولذلك حاول لمبروز أن يضع قائمة بأوصاف جسدية قال إنها متي توفرت في شخص بعينه كان ذلك دليلا على أنه من المجرمين ولسنا نري حاجة إلي إثبات هذه الأوصاف هنا حتي لا نزيد في وساوس القراء في هذه الأيام البيضاء !. ومع ذلك فإن النظريات الحديثة في علم الإجرام لا تؤيد ما ذهب إليه لمبروز في نظريته .

وجاء من بعد لمبروز علماء آخرون لم يكتفوا بالنظر إلي السمات  " الأنثروبولوجية " في جسم المجرم لمعرفته والتمييز بينه وبين أفراد المجتمع ، بل وسعوا أفق بحثهم حتى شمل كل العوامل الخارجية الأخرى ، فهم لم يروا الجريمة من نتاج شخصية المجرم وحدها ، ومن نتاج ما اتسم به جسده من سمات ، ولكنهم رأوها وليدة ما يحيط بالإنسان من العوامل الخارجية .

فالمحيط الجغرافى والمناخ ، ودرجة الحرارة ، وخصوبة الأرض ، هي من العوامل التي لها أثرها في تكوين المجرم . والظروف السياسية والاقتصادية ، والإنتاج الصناعي والزراعي وكثافة السكان ، وظروف الهجرة ، كل أولئك أيضا له شأنه في السلوك الإجرامى ، بل لقد ذهب بعضهم إلى أن ضغط الهواء وتشبع الجو بالرطوبة مما يؤثر أيضا في هذا السلوك . وانتهوا إلي القول بأن الإنسان لا "يولد " مجرما كما أراد لمبروز ان يصوره , ولكنه " يجعل " مجرما بحكم هذه العوامل المحيطة به .

وتعاقبت النظريات ، وظلت البحوث تهيم على وجهها في هذه الميادين المختلفة المتشعبة حتى ظهر سيجموند فرويد - وهو منشئ المدرسة الحديثة في البحوث النفسية - وقد فسر الجريمة بأنها سلوك شاذ ؛ ثم فسر هذا السلوك الشاذ بأنه أثر من آثار "عقدة " مكبوتة في " اللاشعور " وقال إن "التحليل النفسي " يساعد على معالجة الأمراض التي تنجم عنها . ولست أري الآن أن أسترسل في الكلام عن هذا " اللاشعور" وعن " العقد " وعن " التحليل النفسي " وأنا أرجو أن أجعلها موضوعا لكلمة قريبة إن شاء الله . وإنما  الذي حدا بي إلي هذا الاسترسال الطويل هو أن أصل بالقارئ إلي حقيقة "الجريمة " ومبلغ فهم الأجيال المتعاقبة لها ، ومدى جهدهم في الوصول إلي حل لمشكلتها ؛ وذلك لكي يفهم عنى ما سأقصه عليه من الأمثال التي كنت وعدته بها في مقالي السابق ، الذي نشرته بعنوان " القاضي وضميره " فإن كثيراً من الناس ما يزالون يحيطون نظام المحاكمات الحالية بهالة من التقديس تصدهم عن التفكير في حقيقة نفعه ، ومدي جدواه ، وتجعلهم يعتقدون خطأ أن الجريمة والعقاب هي من مزدوجات هذا الكون ، كقولهم السماء والأرض " ، و  "الرجل والمرأة " و الليل والنهار " ، في حين أن هذا " العقاب " الذي ألحق بــ.... " الجريمة " ما هو إلا ابتكار عتيق من مبتكرات القرون الأولي ، التي آن لها أن تهذب ، وأن تساير النظريات العلمية الحديثة . وتقول هذه النظريات الحديثة إن المجرم إنما هو نتاج وراثته البيولوجية ، وإن جريمته هي وليدة ما مر به من تجارب منذ طفولته الأولى حتى الساعة التي قارف فيها جريمته . فمن شاء أن يبحث عن الحقيقة في أمر مجرم من المجرمين فليس سبيل ذلك  "محاضر التحقيق" و " رجال المباحث " و "أعضاء النيابة " ولكن سبيله" تحليل نفسه " ودراسة ماضيه ، والوقوف على عقده . ومن شاء بعد ذلك إصلاح

هذا المجرم فليس سبيله إلي ذلك المحاكم والسجون ، ولكن سبيله الطبيب العقلي ، وعالم النفس ، والإخصائي الاجتماعي ؛ فقد بدأ العلم يحطم أصنام التقاليد التي تسود أنظمة المحاكمات والإجراءات الحالية . ولسوف يأتي ذلك اليوم الذي يلتفت الناس فيه خلفهم فيرون آباءهم وهم يحاولون معالجة الجريمة بمعاقبة المجرم فيحسون بما نحس نحن به اليوم ، حين ندير أعيننا في صفحات الماضي فنري  آلات التعذيب ، وتلك القوانين التي كانت تعاقب الفرس بالإعدام إذا رفست طفلا فقضت عليه !

هذه مقدمة أعترف بأنها جاوزت الحد في طولها ، وأشعر أني اثقلت بها علي القارئ في بحث قد لا يعنيه أن يحمل أثقاله ، وهو إنما يقرأ هذه الكلمات ليجد فيها ما اعتاد أن يحده من صور لا تخلو من تسلية أو من عظة ، فهأنا أعود إليه بما يريد ، وأعتذر إليه عما فرط . .

تقدم إلي المحكمة ذات مرة " موظف " تهمته أنه سرق ساعة زميل له . وكانت ظروفه أنه يعيش مع زميله هذا في منزل واحد ، فهو يؤاكله ويشاربه ، ويزاملة في عمله وفي راحته . وكان الزميلان يقيمان في مدينة السويس . وكان صاحبنا - المتهم - يتردد علي القاهرة من حين إلي حين لقضاء يوم أو بعض يوم ؛ فزين له الشيطان ذات يوم أن يستولي على ساعة زميله الذهبية التي طالما بهرته ، وأن يدسها في جيبه ثم يسافر إلي القاهرة . وفطن صاحب الساعة إلي فقدها حين التمسها عقب خروج صاحبه فلم يجدها ، فقام من فوره إلي البوليس وأبلغه ما فعل زميله فأثبت البوليس أوصاف الزميل ، وما عليه من ملابس ، ثم بعث بأشارة تليفونية إلي محطة " كوبري الليمون " لترقب وصول القطار ،

وضبط المتهم والساعة المسروقة . ولم يكد يصل صاحبنا إلى محطة كوبري الليمون عقب ذلك بقليل حتي وجد في استقباله موكباً مشرفاً من رجال البوليس لولا أنهم جاءوا للقبض عليه ، والذهاب به إلي القسم . . وهناك أخرج الساعة من جيبه ، واعترف بأنه أخذها من غير علم صاحبها ولا إذنه . .

والقضية في وضعها هذا آية من آيات بساطة المظهر ، أفليس المتهم قد ضبط " متلبساً بجريمته " ومعه الساعة التي سرقها ، ثم هو قد اعترف فعلا بما جنت يداه ؟ ! بلى ، إنه لكذلك ! فلم يبق إذن إلا ما فرضه القانون من عقاب ...

ولكن دون ذلك وتلغي العقول . .

فهذا رجل له مكانته ، وأمامه مستقبله ، وخلفه أسرته ، . إن لم يكن أبناؤه وبناته فأمه وأبوه . وأين تكون الشبهات التي تدرأ بها الحدود إن لم تكن في مثل هذا المقام ؟ !

وجري بين القاضي والمتهم الحوار الآتي :

- هل لو كنت استأذنت صديقك في استعارة الساعة كان قد أباها عليك ؟

جــ - أغلب ظنى أنه لم يكن يرفض

ســـ- فلماذا لم تفعل ؟

جــ- لقد تركته نائما ، وخرجت لأدرك القطار

ســ- ألم يخطر ببالك أن تترك له كلمة يعرف منها ما حدث ؟

وهنا توقف المتهم لحظة لمح خلالها باب الخلاص ينفرج أمامه ، فاقتحمه قائلا :

جــ- أذكر أني كلفت صاحبا لنا صادفته في المحطة أن يبلغ صديقي أني أخذت ساعته .

ســــــ - هل تستطيع أن تأتي بصاحبك هذا في الجلسة

القادمة ليدلي بشهادته ؟

ج - لو أجلت المحكمة القضية لأتيت به .

وتأجلت القضية . وجاء المتهم بشاهده . وقرر الشاهد أنه حقيقة قابل " المتهم " في المحطة ، وأنه حمله هذه الرسالة إلي صاحبه . ولكنه نسي أن يبلغها إليه .

وعند ذلك تقدم " المجني عليه " وقرر أنه هو أيضا يعتقد أن زميله لم يأخذ الساعة إلا على سبيل العارية ، وأنه يري أنه كان متسرعا في تبليغ البوليس ؛ وأنه على كل حال قد استرد ساعته ولم يعد له ما يشتكي منه .

واستدارت القضية في يد القاضي ، وانتهت إلي حيث أرادها أن تنتهي إليه ، وانتفت المسئولية ، واتضحت البراءة ، فصدر بها حكم المحكمة .

إن هذا المثال لا يخلو من شوائب ، ولست أحبذ مسلك القاضي فيه كل التحبيذ ، إذا أنا اتخذت معاييري من الأوضاع الحالية القائمة . ولكنه هو لابد أن تكون له فلسفته ، وربما كان من الأوفق أن نستمع قليلا لمنطقه لنحكم له أو عليه . فهو يقول إننا لو سلمنا جدلا بأن مصلحة المجتمع هي في تعقب الجناة وإنزال العقاب بهم حسبما فرضه القانون ، فأين مصلحة المجتمع أو أي فرد منه في القضاء على مثل هذا الموظف ؟ إن عقوبة السارق لا يمكن أن تكون إلا الحبس . وحكم الموظف السارق أنه يفصل من عمله قبل أن يدخل السجن ، وإنه بعد خروجه من السجن لا يعود إلي هذا العمل ، وقَل أن تتاح له فرصة العمل الشريف مرة أخري ، إذ يرمي نفسه وقد دمغته أيام السجن بطابع " أرباب السوابق " فأصبح من المنبوذين . أفكل هذه الويلات تنصب على من يهفو هفوة تكفي فيها النظرة الشزراء لتقويم معوجها ! إن قبول هذه النتيجة والعمل على هذا الأساس انتكاس اجتماعي يجب

ان يتنزه عنه كل مجتمع يحترم نفسه ... وهكذا يتمهد أمامنا السبيل لعرض المثل الآخر الذي اعددناه لهذه الكلمة .

أصيبت " راهبة " ممن يمارسن التدريس في إحدي مدارس الراهبات بمرض دعا إلى نقلها لأحد المستشفيات العامة ؛ وهناك طالت إقامتها حتى لقد نشأت بينها وبين خدم المستشفى ونزلائه صداقات جعلتها تستشعر أنها تقيم في منزلها الخاص بين أهلها وعشرائها . وكان نظام المستشفى يقضي بأن يلبس المرضى من ملابسه الخاصة ! وكانت ملابسه هذه من السذاجة والخشونة بحيث تعافها نفوس الرجال بل أجسام النساء  . ولاحظت السيدة " الراهبة " أن أغطية المخدات تمتاز بنعومتها وطراوتـها واتساعها ، فسولت لها نفسها أن تتخذ من هذه الأغطية قميصاً أو قميصين تنام فيهما . وأمكنتها الفرصة من صنع القميصين فصنعتهما ، واحتفظت لنفسها بهما وهي تخفيها عن أعين عمال المستشفى . ولكنها لم تلبث أن انكشف أمرها ، وضبط القميصان في حوزتـها ، وعرف المستشفى قماشه ، ووضع يده على من استولي عليه بغير حق . و" الميرى " لا يعرف المصانعة ،  و "اللوائح " و" المنشورات " و"النصوص " هي الأصنام المعبودة في هذه الهيا كل المقدسة . والمرونة قد تحمل على محمل التواطؤ- وهي مع التسامح الشديد لا تنزل في التقدير عن مرتبة الإهمال والتفريط .

فقام " التمرجى " بواجبه ، وبلغ " المعاون " وقام المعاون بتبليغ " الطبيب صاحب النوبة " وأبلغ الطبيب الرئيس ؛ وأمر الرئيس بإبلاغ الأمر إلي البوليس ، وانتهت القضية أخيرا إلي يد القاضي . . .

وحل موعد المحاكمة . وجيء بالراهبة في مسوحها السوداء , ومن حول وجهها ذلك الخمار الأبيض الناصع .

ونظر إليها القاضي فلم ير فيها ذلك الشيخ المخوف الذي يخشاه المجتمع علي سلامة نفسه ، ونظر إلي السجن الذي ينتظرها ، فلم ير فيه ذلك المكان اللائق بمن جعل شعاره الخروج من الدنيا وزخرفها ، والفناء في الله وتضحية النفس في سبيل راحة الغير .

وكان أول ما صدم تفكير القاضي عند النظر في هذه القضية أنه هو " المظلوم " الوحيد فيها ! فإن المشرع رسم حدود العقوبة في أمثال هذا المقام وانصرف .

ووضع المستشفي نظامه على هذا الأساس الإداري واطمأن .

واستجابت الراهبة لنزوة كان عليها أن تقاومها فلم تفعل .

وضبط العمال الحادث فقاموا بتبليغه إلي " جهات الاختصاص " ونفضوا منه أيديهم .

وبقي القاضي أخيراً ليري القانون مصلتا فوق رأسه ، وليشهد المتهم ماثلا أمامه ، وليقوم بواجبه في تطبيق الأول علي الثاني . ولكن هيهات !

إن مثل هذا العمل الآلي لا يمكن أن يكون من عمل القضاء ، وإن القاضي الذي لا يري واجبه إلا في هذه الصورة الهندسية يجب عليه أن يقوم من مقامه ؛ وإن فجعة المجتمع في مثله العليا ، وأفراده المحترمين . لاخطر ألف مرة من فجعته في فقد كيسين من أكياس هذا المستنفي ، الذي لم ينشأ إلا للترفيه عن المرضي وتنفيس كربة المكروبين منهم ....

ولم يكن بد من حكم البراءة ، فنطقت به المحكمة . وأخذت في نسج  " أسبابها" على المنوال الذي ترتضيه نظم العدل الحالية ، في انتظار ما يأتي به الله من فرج قريب ، يعطي أمثال هذه الحالات ما تستحقه من العلاج ، ويجنب القاضي ما يعترض عمله من أمثال هذه " المآزق "

اشترك في نشرتنا البريدية