الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 110الرجوع إلى "الثقافة"

صور فضائية :, شهادة شاهد، من مذكرات قاض لم تنشر

Share

٥ ينابر سنة ٩٢٠ . انتهت الجلسة اليوم حوالى الساعة الثانية بعد الظهر . فخرجت منها محطم الأعصاب ، لا أريد إلا أن أستلقى على كرسى فى "غرفة المداولة" مسترخيا حتى أسترد بعض نشاطى ، فأنهض عائدا إلى منزلى لأستأنف فيه الجهاد مع القضايا الأخرى التى لم نكف فيها النظرة السطحية ، ولا المناقشة العادية ، والتى لا بد فيها من تقليب الأوراق وفحصها ودراسة مستنداتها . ولكنى ما دخلت قاعة المداولة حتي وجدت فيها صديقى (ع) ينتظرنى على بعض عادته لنقطع طريقنا معا إلى منازلنا المتجاورة . فاستأنست به ، وشرعت أسرى عن نفس بحديثه الفكه . ولم أمض فى ذلك إلا قليلا حتى دخل علينا أحد كتاب المحكمة ومعه "ملف" أشمث ليخبرنى بأن هذه القضية محالة علينا من محكمة . . . كى نسمع فيها شهادة شاهد لم يستطع السفر إلى مقر تلك المحكمة لضعف صحته . وأن الشاهد حاضر خارج القاعة يريد الإدلاء بهذه الشهادة ، وأنه كان ينتظر انتهاء الجلسة منذ الصباح ، وأنه شيخ كبير يؤذيه أن يعود مرة أخرى إن لم يتيسر سماع أقواله اليوم .

فلم يمهلنى صاحبى حتى أقول كلمتى فى هذا الطلب . بل اعترض الكاتب محتجا على هذه المهمة التى جاء من أجلها ، منبها إلى أن وقت العمل قد انتهى ، وإلى أن القاضى من حقه أن يكف عن العمل متى انتهى موعده حتى ولو بقى بعض هذا العمل غير منجز . . . ثم أشار له نحوى بيده وهو يقول :

وهل بقى فى هذا الهيكل المتخاذل ما يستطيع معه

أن يفهم للشاهد إذا شهد أو يستمع له إذا قال ؟ : انصرف هنا يا هذا مأجورا غير مأزور . فان المعدة الخالية آخر ما يصلح للقضاء والفتيا ! .

فاستمهلت صديقى ، واقترحت أن نسمع لهذا الشاهد فلعل فى شهادته ما يدخل على نفوسنا شيئا من التسلية . ونبهته إلى أن المطلوب منا هو الاستماع فقط ، فلا هى الفتيا ولا هو القضاء !

فقال لى : إنك مكابر ! إنك لن تقوى على المناقشة . ولن تفطن إلى النقط الحساسة التى ينبغى أن تحضر فيها الكلام . ألم تسمع فى الأقوال المأثورة أنه لا رأى لحاقن ولا لحازق ! فإذا كان الخف الضيق يذهب بالرأى السليم . وإذا كان البول المحبوس يقضى على الفكرة النيرة ، فما بالك بالعدة الخالية التى تغرد طيورها . . أستغفر الله ، بل التى تنعق غربائها ، وتهر كلابها ، وتعوى ذئابها ! ؛ قم بنا إلى الغداء ، وليحضر الشاهد فى الغد أو لتعد له أنت بعد الظهر إذا شئت ! .

ولم يكد يفرغ صاحبي من "مرافعته" حتى لاح بالباب شيخ كبير السن ، وضىء الوجه ، يستأذن فى الدخول . فابتسمت إلى صاحبي وقلت :

- لقد وضعنا الشيخ أمام الأمر الواقع فدعنا نتقبله ، وسيكون جزاؤك عندى أن تتغدى معى متى فرغنا من سماع أقواله ! .

فقال : أما بهذا الشرط فأنا أرضى الانتظار ! دونك الشيخ فخذ شهادته . . . . ولكن لا تثقل عليه بكثرة السؤال .

واستدنيت الشيخ منى ، وجلس الكاتب تجاهى ، واطلعت على القضية لأرى فى أى شىء يراد سؤال الشاهد ، فوجدت الدعوى تتلخص فى أن هذا الشيخ من اهالى القاهرة ، وأنه زوج ابنته لأحد تجار الريف ، وأنه كانت  له زوجة . وكان لهذه الزوجة مصاغ كثير . فمرضت وانتقلت إلى أحد المستوصفات . فأودعت مصاغها  عند كريمتها . ثم ماتت هى فى هذا المستوصف ، وبقى المصاغ مع  ابنتها فى الريف . ثم توفيت الابنة عن ولدين صغيرين . فسافر الشيخ ليتسلم جثمان ابنته ، وليسترد مصاغ زوجته . فاعترف الزوج بجثة زوجته ، ولكنه أنكر المصاغ - وتبين أن المطلوب هو سماع اقوال الشهود الذين يعلمون أن مصاغ الأم كان محفوظا مع ابنتها ، وأن هذه سافرت إلى الريف عند زوجها . . . . .

ورأيت أن أبدأ بسماع أقوال الشيخ ، فقال : - كنت موظفا بالحكومة . ولكنى الآن بالمعاش . وكان عملى يقتضينى أن أنتقل من بلد إلى بلد . فكنت فى بدء امرى أستصحب زوجتى وأولادى إلى كل بلد أنتقل إليه . ولكن الأولاد كبروا . ودخلوا المدارس . وأصبح من المتعذر على أن أجد لهم المدارس الموافقة فى البلاد التى أسافر إليها . فاكتريت لهم منزلا فى القاهرة ليستقروا فيه مع أمهم . واكتفيت أنا بأن أتردد عليهم كل شهر مرة أو مرتين . ثم أعود إلى مقر عملى فأقيم فيه . وكان الله يبارك  لى فى مرتبى فلم أكن أنفق فيه أنا وأسرتى أكثر من نصفه . وكنت أحفظ الباقى مع زوجتى ، ولم تكن هى تثق بالصارف ولم أكن أنا أرغب فى استغلال مالى فى الأرض لسوء معاملة الفلاحين ، ولا فى الأسهم ونحوها لعدم خبرتى فى هذه الشئون . فاتفق رأينا على أن نشترى بكل ما ندخره من المال مصاغا يظل محتفظا بقيمته عند الحاجة إلى بيعه . وتتحلى به زوجتى وبناتى كلما دعا إلى ذلك داع - واجتمع لنا من ذلك شىء كثير كنا نضمه فى حقيبتين إحداهما صغيرة الحجم سوداء اللون والثانية أكبر من

أختها حجما ، ولكنها ذات لون بنى - وارتفع سعر الذهب وعز تداوله ، فجعلنا نتصيد الجنيهات الذهبية نشتريها حينما وجدناها . فاجتمع لنا منها مبلغ طائل أيضا كنا نحفظه فى الحقيبتين مع الصوغات . وفى سنة - ١٩ كانت إحدى كريماتى قد أتمت دراستها الابتدائية . ودخلت الامتحان ونجحت فيه ، وكان ترتيبها الأولى بين الناجحات . وكأنما لفت ذلك أنظار الناس إليها وإلينا ، وأنا ممن يؤمنون بشر الحاسد إذا حسد . وقد تحققت مخاوفى ، فان ابنتى هذه أصيبت عقب الامتحان مباشرة بحمى شديدة أوشكت أن تموت بسببها ، ولكن الله سلم . فنجت من الخطر بعد مرض طويل تركها فى غاية من الضعف والهزال . وكان ابنى الأكبر قد نال شهادة التخرج من مدرسة الحقوق فى ذلك العام . فاقترح علينا أن نقضى الصيف خارج القاهرة فى ثغر من ثغور مصر التى يرتادها المصطافون ، لعل ذلك أن يساعد أخته على استرداد صحتها . ويعوض باقى أفراد الأسرة عن بعض ما كابدوه فى الشهور الأخيرة . وعلى الرغم من أنى لم أكن أرتاح إلى ارتياد هذه المصايف بنفسى . ولا أرضى لأسرتى أن ترتادها أيضا ، فانى رأيت فى الملابسات التى أحاطت بحياتى ذلك العام ما جعلنى أرحب باقتراح ابنى ، وأعددنا عدتنا للرحيل ثم سافرنا . ووقع اختيارنا على مدينة . . . . فنزلناها فى مكان معتكف بعيد عن ضوضاء (البلاجات) ومفاسدها . واستقام أمرنا على ذلك زمانا تحسنت فيه صحة ابنتى وشعرنا جميعا بتأثير اختلاف الهواء فى صحتنا ومزاجنا . وحمدنا الله على ما وفقنا إليه فى هذا الصيف . وشكرنا لابنى اقتراحه الذى كان سببا فى هذا التوفيق .

وفى ذات صباح جاءنى ابنى هذا باقتراح جديد وهو أن نقضى النهار فى ضاحية . . . القريبة من هذا الثغر . فان الناس يقولون إنها تستحق الزيارة فجمال موقعها وطيب هوائها . فلم أعترض . ورأيت أن أدخل على نفسه هذا السرور البرىء . فقمنا من فورنا وقصدنا إلى ذلك المكان

نحن الاثنين بعد أن هيأنا طعامنا الذى سنتناوله هناك وقت الغداء . وجلسنا على الشاطئ نتلهى بمنظر البحر ومنظر المستحمين فيه حتى كان وقت الظهيرة . فخلا المكان إلا منا ومن رجل إنجليزى كان يجلس بعيدا عنا مع زوجه بملابس الاستحمام . فاستأذننى ولدى ليقوم فيستحم قبل الغداء . فلم أشأ أن أعارضه لا سيما وأنا أرى البحر عاديا غير هائج ولا ثائر . فاستأجر ثوبا من ثياب البحر ونزل أمامى . وظل يرتع ويلعب ساعة كان الهواء فى خلالها قد اشتد نوعا ما فضرب سطح البحر فارتفع موجه وثقل ماؤه . وتطلعت فإذا الولد بعيد عن الشاطئ . ولكنه كان يسبح ليعود إلى . فظللت أرقبه لحظة تبينت فى خلالها أنه لم يكن يتقدم كثيرا ، فان الماء والهواء كانا يغالبانه . ووقفت ألوح له بمنديلى ويشير هو إلى بيده مطمئنا . ولكن طال بنا ذلك . وبدأت أحس فى حركاته أثر الأعياء . فجريت على طول الشاطئ أبحث عن أحد من حراس البحر أستنجده فلم أظفر بأحد . فعدت إلى حيث تركت ابنى فوجدته قد بدأ يستسلم للموج . ولم أكن أحسن السباحة ولم يكن لى عليها جلد ، فوقفت أصيح به وأناديه وأشجعه حتى التفت إلى الانجليزي وزوجته . وشعرا بما فيه ابنى من الخطر . فأسرعا نحوى ونزلا معا إلى البحر يريدان نجدته ولكنهما ما كادا يتوسطان المسافة حتى خارت قوى المرأة فعاد بها زوجها بكل مشقة : بعد أن أوشك أن يغرق معها .

وكانت الريح قد بلغت أشدها فى خلال ذلك . واختفى ابنى عن نظرى بين أمواج البحر الصاخبة .

وبدأ الناس يقبلون من هنا وهناك ويقفون على قصتى وقصة ابنى . ولكن معظمهم كانوا يحوقلون وينصرفون . ولم يجرؤ أحد على نزول البحر فى ذلك الوقت لشدة ثورته وعنف أمواجه . . . .

وبعد نحو ثلاث ساعات قذفت الأمواج بالجثة إلى الشاطئ . فاستقبلتها وسط رثاء الحاضرين لحالى ، وجاء

رجال البوليس ومنعونى من نقل الجثمان حتى يحضر الطبيب لتوقيع الكشف عليه ، وتقرير سبب الوفاة ثم التصريح بدفنه . فلبثت أنتظر . . . وطال بى الانتظار ، وأخيرا تقدم إلى أحد الموجودون ، وأسر فى أذنى قائلا :

- يا عم ! سوف يطول انتظارك على غير جدوى إن لم تبعث إلى الطبيب بأجرة انتقاله . فاستفسرت منه عن قدر ذلك ، وعمن يصلح لأداء هذه الرسالة فأرشدنى إلى عمدة المكان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ]أستأذن القارئ فى قطع الحديث عند هذه النقطة . فان من كلام الناس ما إن جاز الاستماع إليه . فإن نقله لا يجوز [ .

. . . وأردت أن أقوم بغسل ابنى قبل نقله من مكانه . فجاءنى حامل الماء يساومنى على خمسة قروش للصفيحة الواحدة من الماء العذب . فقلت فى نفسى : سبحان الله ! وهل انتزعت المروءة حتى من نفس هذا (الحملى) البسيط فجرفه النيار مع الآخرين ؟ اذهب يا بنى وجئنى بما أريد من الماء أعطك ما تشاء من النقود !       وانتهيت من عملية الغسل بنفسى - فإنى أعلم أن ثواب ذلك عند الله عظيم - ثم سلمت ثوب البحر لصاحبه - وأقسم لقد طالبنى بأجرته لأن ابنى لم يكن قد دفعها سلفا - وألبست ابنى ثيابه ، وطلبت سيارة فجاءونى بها ، فركبتها ووضعت ولدى بجوارى . وكان الليل قد أرخى سدوله منذ ساعات . فأعطيت السائق عنوان منزلى فى المدينة وطلبت إليه أن يعود بنا إليه .

ووصلنا حوالى منتصف الليل ، فلم أجد أحدا فى المنزل وعلمت من الجيران أن زوجتى ساورها الشك فى أمرنا فظلت تتنقل منذ أقبل الليل من النافذة إلى الشرفة ثم من الشرفة إلى النافذة حتى نفذ صبرها . فأصرت على النزول للبحث عنا ، واستأجرت سيارة لتطوف بها على أقسام

البوليس ، فطلبت إلى السائق الذى كنت فى سيارته أن يذهب فى أثرها لنعود بها . وجعلنا ندور خلفها من قسم إلى قسم حتى اهتدينا إليها . وعدنا جميعا حوالى الساعة الثالثة صباحا إلى المنزل . ولست أريد أن أذكر لك مقدار ما أخذه منا السائق . فان كل شئ كان هينا بجوار ما كنا فيه من الهم والحزن .

ولم تشرق شمس اليوم التالى إلا وقد فرغنا من إعداد كل عدتنا للعودة إلى القاهرة . فبلغناها مع الظهر ، وشرعنا فى إقامة المأتم ، ولم تنقض أيام حتى كانت زوجتى طريحة الفراش من كثرة ما احتملت من ألوان العذاب فى الشهرين الأخيرين . .

وتفرغت لتطبيبها أنا وبناتى حتى استحال علينا أخيرا أن نقوم بما يجب نحوها ، واستدعت حالتها أن تنقل إلى المستوصف فنقلناها . وظلت هناك أربعين يوما أجريت لها فى أثنائها عمليتان جراحيتان ، وكان يتردد عليها فى المدة الأخيرة طبيب معروف يزورها فى اليوم مرتين ويتقاضى عن كل زيارة جنيهين ، ولم يجد فى علتها شئ من كل ذلك ، فأسلمت روحها فى نهاية اليوم الأربعين . . . . . وهكذا أصبت فى عام واحد بفقد ولدى وفقد زوجتى .

وكانت ابنتى مخطوبة قبل أن تتوفى أمها . فجاءنى خطيبها يستنجزنى فى إتمام العقد ، فاشترطت عليه ألا تنتقل ابنتى من القاهرة إذا كان يريد زواجها ، لأنها هى التى ستتولى فتح بيتى بعد أمها . فرضى بهذا الشرط ، وقبل أن يثبته المأذون فى وثيقة الزواج نفسها . وعقدنا العقد على هذا الأساس . فكان هو يقيم فى منزل أياما ثم يعود إلى بلدته التى يمارس فيها تجارته ، وكنت أنا أيضا أقضى فى القاهرة بضعة أيام فى كل شهر ثم أقضى بقية الشهر فى محل عملى ، وكانت ابنتى الكبرى هى التى تتولى شئون إخوتها وتحافظ على أموالى ومصوغات أمها .

وجاء زوجها إلى يوما يستأذننى فى أن تسافر معه ولو أسبوعا واحدا . لأن أهله وأهل بلدته يعيرونه بأن زوجته لم تزره فى موطنه ، فلم أر بأسا فى ذلك ، وسافرت ابنتى معه ، ورأيت أن تأخذ معها الحقيبتين (إياهما) لكى تكونا فى مأمن معها ما دام المنزل سيخلو منى ومنها فى بحر هذا الأسبوع ، وانقضت الزيارة على خير حال ، وعادت ابنتى إلى القاهرة ، وعاد زوجها إلى ما كان عليه من الاقامة فى القاهرة حينا وفى بلدته أحيانا ، إلى أن وضعت زوجته ابنها الأول ، وإلى أن حملت مرة أخرى واقترب ميعاد وضعها . . .

وهنا عاد الزوج يلح على مرة أخرى فى أن تذهب معه زوجته لزيارة بلدته مرة ثانية بدعوى أن الحمل يقتضى الحركة والرياضة وتبديل الهواء . فكاشفته بأنى أخاف أن يكون فى هذه الحركة ما يؤذى الحمل أو الحامل ، ولكنه تغلب على مخاوفى ، وظل يحسن لى هذه الرحلة حتى وافقته عليها أخيرا . وسافر الزوجان - والحقيبتان كالعادة فى حاشية ابنتى - وانقضى الأسبوع ولم يعودا ، ولكن وصلنى من ابنتى خطاب تقول فيه إنها مسرورة من الإقامة فى الريف ، وإنها تود أن تطيل إقامتها فيه أسبوعا آخر . فلم أر فى ذلك بأسا ، وفى نهاية الأسبوع الثانى جاءنى خطاب آخر تقول لى فيه إن الوضع قد أوشك أن يتم وإنها تخشى العودة فتفاجأ فى الطريق ما لا يحمد عقباه ، فسلمت أمرى إلى الله ، ورضيت لها أن تضع فى منزل زوجها . وأرسلت إليها الهدايا المناسبة لهذا المقام ، وبعد قليل جاءنى من زوجها خطاب يبشرنى فيه بأن زوجته وضعت غلاما ثانيا فحمدت الله على نعمته . وبدأ تحمسى لفكرة رجوع ابنتى إلى القاهرة يضعف شيئا فشيئا ، إلى أن بلغ مقامها عند زوجها ما يقرب من شهرين ، انقطعت عنى فيهما أخبارها ، فأوفدت أحد أبنائى إليها لزيارتها والاستفسار عن حالتها . فجاءنى منه فى اليوم التالى لسفره

ما يفيد أن أخته مريضة منذ زمان ، وأنها دخلت فى مرحلة الخطر . فأسرعت إليها فإذا هى كما وصفها أخوها فاستدعيت لها طبيبا من القاهرة فوصف لها دواء كثيرا ، وأمر بضرورة وجود ممرضة إلى جوارها لتقوم على خدمتها . فأرسلنا فى إحضار ممرضتين تتكفل إحداهما بخدمة النهار وتقوم الثانية بخدمة الليل ، ولم يفتنى أن أسأل ابنتى لما خلوت إليها عن الحقيبتين . فظلت تثنى عليهما ، وقالت إنهما محفوظتان تحت سريرها الذى تنام عليه فرفعت طرف الملاءة فرأيتهما واطمأنت نفسى عليهما ، ولبثت معها يومين ، ثم اضطررت للعودة إلى القاهرة فتركت أخاها معها ورجعت . . .

وشاءت الأقدار أن تنتزع منى ضحية ثالثة . فلم تمض على عودتى أيام قلائل حتى جاءتنى برقية من ابنى ينعى فيها أخته . فأسرعت إليهما لأقوم على شئون الجنازة ولأعود بإبنتى إلى القاهرة .

وانتهى كل شئ على ما ينبغى ، ثم عدت إلى الريف لآخذ الحقيبتين ، فوجدتهما فى مكانهما ، ولكنى لم أجد فيهما إلا خلخالا واحدا من الفضة ، وبعض توافه أخرى لم تكن لزوجتى ولا لابنتى ، وزعم الزوج أن هذا كل ما كان فى الحقيبتين ، وأن زوجته فتحتهما أمامه مرارا . فلم يكن يرى فيهما غير هذه الأشياء ؛ فتقززت نفسى من عمله ، وساورتنى الشكوك فى أمر مرض ابنتى ، وفى إخفائه عنا أمر هذا المرض فى حينه ، وعدت بذا كرتى إلى يوم كان يلح فى سفرها معه وهو يعلم أنها حامل ، وأنه لم يبقى لوضعها إلا أيام . فامتلأت نفسى يقينا بأنى أمام مؤامرة مدبرة لقتل ابنتى وسلب مالى . فهددت وتوعدت . وكأنما كنت أصيح وحدى فى واد غير آهل ، إذ لم يهتم الرجل فى قليل ولا كثير بشئ من تهديدى ووعيدى . قعدت

أستعطف وأستنجد ، وعرضت عليه أن نتقاسم ما فى الحقيبتين ، وأن يكون له الخيار فى أى النصفين يشاء ، ولكن شيئا من كل ذلك لم يحمل الرجل على تغيير موقفه معى . فلم أجد أمامى إلا ساحة القضاء أشكو إليها منى ، وأروى فيها قصتى . والله من وراء كل ظالم محيط ! .

وسمعت بعد ذلك أقوال بعض الضيوف الذين كانوا يترددون على الزوجة فى القاهرة فتطلعهم على ما فى الحقيبتين كما سمت أقوال الممرضتين اللتين أقامتا معها فى أيامها الأخيرة ، واللتين شهدنا بأن الفقيدة كانت فى ساعات صحوها من المرض تستحضر الحقيتين فتفتحهما وتعرض عليهما ما تحويان من التحف الذهبية والنفائس الأثرية ، وسمعت كذلك أقوال بعض التجار الذين كانوا يداينون الزوج فى مبالغ كثيرة ، والذين شهدوا بأنه سدد لهم كل ديونهم عقب وفاة زوجته بقليل .

وانتهى التحقيق على ذلك ، وقررنا إعادة القضية إلى محكمتها .

وسلمت على الشيخ مودعا . وأنا أحاول تشجيعه على ما حل به من الأرزاء وما صادفه فى أيامه الأخيرة من المحن . فما راعنى منه إلا هدوء شامل يغمر نفسه ، وثبات عجيب يتجلى فى نظراته وقسماته . ثم قوله فى تنهد عميق ؛

( كل شئ هالك إلى وجهه ! )

ومد الرجل يده مسلما فسلمت عليها ، وسرت معه إلى باب الغرفة وتركته ، وهو يتمم بينه وبين نفسه : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ! )

وعدت إلى صاحبى الذى لم أكن أدرى كيف يكون اعتذارى إليه إذا لم يعجبه غدائى بعد كل هذا التأخير . فابتدرنى بقوله :

- من كان يظن أن بين الناس من خصه الله بكل هذا القدر من الغفلة وبلادة الحس ! . . الرجل يفرق ولده بين سمعه وبصره فلا يلقى بنفسه فى الماء . ويبقى يتفاوض فى أسعار الأشياء حتى فى ثمن الماء الذى سيغسل به . وتموت زوجته فلا يذكر إلا ما تقاضاه الطبيب وما دفعه للمستوصف ، ويهبه الله مالا موفورا فلا يعرف كيف ينفقه ، ولا كيف يحتفظ به ويتركه لابنة غريرة ، وصهر نصاب فيفجعانه فيه ، ويضيعانه عليه . ثم لا تنشق مرارته ، ولا تختلج جوارحه ؟ : اللهم إن هذا صم ! . فأخذته من يده ، وخرجنا من الغرفة وأنا أقول له :

- هون عليك يا صاحبى : إن فى هذه الدنيا شيئا لا تعرفه أنت ولا أمثالك . فتعيشون وسط نعيم الدنيا منغصين ، وإذا أصابكم فيها سوء اختلجت جوارحكم وانشقت مرائركم . أما مثل شيخنا فإن الله أنعم عليه بهذا الشئ قبل أن ينعم عليه بالمال والبنين . فهان عليه كل شئ حتى المال والبنون . . . ذلك الشئ ياصاحبى الذى ينقصك أنت ، ولم ينقص الشيخ هو ( الايمان الصادق ) .

ادع الله لى ولك أن يثبت قلوبنا على الايمان به ، لنعيش فيمن أنعم الله عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين . آمين .

اشترك في نشرتنا البريدية