حتى في تدبير الجرائم ، ووضع خططها ، وتقدير خطواتها ، لنا أسلوبنا ولهم أسلوبهم نحن المصريين . . وهم الأوربيين .
في جمهورنا بساطة ، فكانت في خطط المجرمين في بلادنا سذاجة . .
وفي جمهورهم يقظة ، فكانت في خطط مجرميهم جرأة ، وقطانة ، وحسن سبك . .
تقدمت إلي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها تهمتها أنها اشتركت مع أخري - مجهولة - في الاستيلاء على مصوغات من محل صائغ معلوم تربو قيمها على خمسين جنيها ، وكان ذلك بطريق النصب والاحتيال . فلما سألتها عن تهمتها قالت :
- نحن نقيم في حي سيدنا الحسين ، وخرج والدي إلي عمله في الصباح كعادته وبقيت وحدي مع أمي في المنزل . وكانت امي حاملا في شهرها التاسع ، فأحست في ذلك الصباح انها توشك ان تضع ، فبعثت بي في طلب (المولدة )التي ستتولي استقبال الطفل ، ولأشتري لها من السوق بعض حاجاتها . خرجت والنقود في يدي ، ورأسي محشود بخواطر البهجة والسرور أن سيبعث الله إلي بأخت أو أخ صغير . فلقتنني في الطريق سيدة تلتف في ملاية ، ولكن عليها سيما اليسار . وكانت جميلة الوجه ، على الرغم من ان لونها كان يميل إلي السمرة ، حتى
ليحسبها من يراها أنها من أهل أسوان أو ما وراءها . وإنا كما تراني حضرتك سمراء اللون ايضا ، ويكاد من اني يحسبني من ( البرابرة ) . فأقبلت على هذه السيدة وسألتني من وجهتي بكلام لين بشوش . فأنست إليها ، ورضيت أن أجيبها قائلة : إني في طريق إلي ( المولدة ) ادعوها ، لان أي توشك ان تضع ، فسألتني عن امي ، فعرفتها بها ، فرأيتها تنهال وتقول :
- أحقا أنت أبنة فلانة ؟ أحقا هذا هو يوم الوضع ؟ إن أعرف أمك ، وهي حبيبتي وصديقتي منذ زمان ، ولها على حق في هذا اليوم السعيد أن أقدم لها شيئا على سبيل الهدية ، ولقد أحببتك انت ايضا ، وسأجعل هديتي لأمك أن اشتري لك ثوبا من الحرير ، فهيا معي إلي محل . . لأقوم نحو أمك العزيزة بهذا الواجب المحبوب . ما كان احسن عشرتها معي ، وما اوفي ودادكم أنتم يا أهل أسوان ؛
ففلت لها : يا سيدتي نحن من القاهرة ، ولسنا من أسوان .
قالت : كونوا من أهل أي بلد تشاءون ، فأنتم أحبابي وأعزائي ، وقلبي دائما يهفوا إليكم ، وبتلفت دائما نحو أيام عشرتنا الماضية ، حين كنت أقيم أنا وأمك معا قبل زواجها من أبيك ، تعالى يا بنيتي تعالى . .
قالت الفتاة : وأشرفنا على حي الصاغة ، فقالت إلى السيدة :
- ميلي بنا هنا يا صغيرتي اشتر لنفسي حليتين من الذهب ، قبل ان يذهب لشراء الثوب . فدخلت معها شارع الصاغة وأنا مأخوذة بسحرها وحلو حديثها ، فعطفت على محل صائغ كبير هناك ، وطلبت إليه أن يعرض عليها ما عنده من الاساور الرفيعة ، فقدم لها من
ذلك شيئا كثيرا ، فظلت تقلب فيه وتختار منه حتى انتهت إلي ما شاءت أن تشتريه . وجاء دور وزن هذا المصاغ ، وتقدير ثمنة، فأراد التاحر ان يقوم بوزنه ، ولكنها اعترضت ، وطلبت ان يكون الوزن خارج المحل لتطمئن إلى صحته ونزاهته ، فصحبها عامل كبير من عمال المحل إلي حيث ( الوزان ) المنشود ، وأمرتني أنا أن أبقىi بالمحل ريثما تعود ، فبقيت وانصرفت هي مع العامل . فلم
يلبثا إلا قليلا ، ثم رأيتهما يعودان وقد احتدت هي في الكلام مع العامل ، ثم مع صاحب المحل ، لأن العامل الذي رافقها إلى الوزان كان يتبادل معه اشارات لا تطمئن هي إلي اثرها في عملية الوزن ؛ ولذلك فإنها نصر علي ان تذهب وحدها عند وزان آخر لتأمن هذا التواطؤ الملحوظ بين عمال المحل وبين من جاورهم من(الوزانين )، وافهمها
صاحب المحل بأنه ليس من المعقول ان يتركها وحدها بالمصاغ ، وطلب إليها أن تدفع ثمنة بحسب وزنه الحالي ، ثم تذهب ، حيث تشاء ، فإذا ثبت لها بعد ذلك ان هناك خلافا في الوزن ، كان لها أن تتقاضى من فرق الثمن ما تشاء . ولكن الرجل ما كاد ينتهي من كلامه حتى ثارت عليه السيدة ثورة أذهلته وهي تقول له :
- أنت لا تريد أن تأتمنني على ذهبك ، فكيف تريدني أن آمنك على نقودي ! ومن أنا حتي تشك في أمرى؟ وهل بلغت الخيانة بإنسان ان يذهب ببضاعة الناس على هذه الصورة التي تتوهمها ؟
ثم فتحت له حقيبة يدها وأخرجت منها لفافة كبيرة من الأوراق المالية ذات الألوان البنفسجية والحمراء ، وضربتها له فوق منضدته وهي تقول :
- إلي بهذه النقود استطيع أن اشتري كل ما في محلك من ذهب . فكيف تسول لك نفسك ان لا تأمني على ثلاثة أزواج من الأساور او أربعة ، وهذه اختي
ستظل في انتظاري حتي أعود
وظلت السيدة تهدر علي هذه الصورة وهي تبتعد عن المحل رويدا رويدا ، بعد أن بدأت تري علائم الخجل والتراجع ترتسم على وجه الصائغ ، حتى ليكاد يعتذر لها عما بدر من كلامه الأول . وبقيت أنا مشدوعة تحت تأثير هذه الأمور التي تجري أمامي ، وشعرت بصغر شأني مع هذه السيدة الكريمة الثربة الودود التي تأبي إلا أن تسميني أختها وأنا لا اليق أن أكون خادما لها !
وكان الصائغ قد أرسل في أثر السيدة عقب انصرافها بقليل عاملا آخر من عماله أوصاه أن يعرف الوزان الذي ستقصد إليه ، فانطلق الفتي وبقيت أنا انتظر . .
ومضي على انتظاري وقت بدأت اقلق معه على أمي ، كما بدأ الصائغ يقلق على ذهبه ، فأقبل على يسألني من أختي وأين ذهبت ، فقلت له مستفهمة :
- تريد هذه السيدة التي اشترت الأساور ؟ فقال : أو ليست أختك ؟
قلت : كلا . إنها صادفتني في الطريق واستصحبتي إلي هنا .
قال : ولكنك سمعتها وهي تقول عنك إنك أختها وأنها ستتركك هنا في انتظار عودتها
قلت : وأي باعث كان يبعثني في مثل هذا المقام على أن أعترض على هذه التسمية التي اعتبرت صدورها على سبيل التدليل منها والتشريف لي . ..؟
وبينا نحن في هذا اللجاج إذ أقبل فتي المحل وهو يبكي ويقول إن شخصا كان يجري في الطريق فاصطدم فوقع الاثنان على الأرض ، ولما نهض أمسك به هذا الشخص وضربه ، ولكن المارة تدخلوا بينهما وحالوا دون تعدى ذلك الآخر عليه . فما كاد يفيق لنفسه عقب ذلك حتى كانت السيدة قد اختفت عن ناظره ، وحاول
عبثا ان يهتدي إليها عند كل الوزانين المجاورين . ولما يئس من العثور عليها آثر أن يعود ليخطر صاحب المحل
وانكشفت الحقيقة ، وظهر أن هذه السيدة لم تكن إلا محتالة لعبت بي أولا ، فسخرتني في تمثيل دور لم أكن أفقه لة معنى في الرواية التي أخرجتها ؛ ثم اميت بالتاجر نفسه حين أطلعته على ما في حقيبة يدها من النقود . وحين ثارت عليه تلك الثورة التي أضعفته أمامها وأخجلته . ثم حين " رهنتني عنده على أني اختها . واخيرا حين رصدت لعامل المحل الذي خرج يتعقبها ذلك الشريك الحديث الذي اصطدم به واوقعه على الأرض ، ثم تشاجر معه ، فعاقه - من حيث لا يعلم - عن حراسة مال سيده...
هذه حقيقة ما جري لي مع هذه السيدة ، وقد اتهموني بالاشتراك معها في الاستيلاء على مال الصائغ ، مع أني شريكة الصائغ نفسه في الخديعة ، وفي الوقوع تحت تأثير هذه السيدة
ويري القارئ إن هذه القصة ليست إلا صورة من عشرات أمثالها تقع كل يوم وتعرض على المحاكم قضاياها ، وتنشر الصحف تفصيلاتها ، ومع ذلك فان الإنسان لا يعدم بين الناس من يتخدع بهذا الاسلوب الساذج من الاحتيال المكرر المعتاد
وقد أذكرتني هذه الحادثة محادثة أخري كنت قد قرأت عنها قبل وقوع هذه الحرب . ولكن هذه الواقعة الثانية وقعت في فرنسا ، وكان " المخرج " في هذه المرة فرنسيا ، ولذلك كان الفرق بين روايته ورواية السيدة السمراء بقدر ما بين باريس وأسوان من الفروق
قصد هذا السيد إلي أفخم فنادق باريس فنزل فيه ثم أرسل إلي أكبر تاجر من تجار الجواهر في المدينة فاستدعاه
ثم طلب إليه أن يقدم له أكبر ماسة عنده على شرط أن لا يكون لها نظير في السوق ، لانه يريد ان يهديها إلي سيدة ترغب في اقتناء حلية تتفرد بها بين زميلاتها . فذهب الرجل ثم عاد ومعه وكيل محله ليماونه في حراسة الماسة ، وليشد أزره في المساومة على ثمنها . ولكن السيد الوجيه لم يكن في حاجة إلي شئ من كل هذه الحيطة ، فانه حين رأي الماسة النادرة اعجب بها
إعجاب الرجل الخبير بقيمة الجواهر العارف بأقدارها الحقيقية ، وسأل عن ثمنها ، فاشتط التاجر في الطلب ، وبالغ في التقدير ، ولكن السيد لم يعترض على الثمن المطلوب ، وقال : إن هذه الماسة جوهرة حقيقية تساوي هذا الثمن ، وأخرج حافظة نقوده فدفع الثمن فورا إلي التاجر الذي خرج يتعثر من فرط ذهوله إزاء إتمام هذه الصفقة الكبيرة بهذه البساطةالمتناهية.
وانقضي علي ذلك شهر . .
وعاد السيد فأرسل في طلب التاجر مرة اخري ، فأقبل عليه فرحا مستبشرا ، فهي نفسه بصفقة جديدة على غرار الصفقة الأولى ، فأفضي إليه بأنه حين قدم الماسة إلي السيدة التي طلبتها راقتها إلي حد كبير ، وهذا لها أن تتخذ منها قرطا . ولذلك فانه يريد ماسة أخري تكون في حجم الماسة الاولي وفي مثل شكلها ليتسنى عمل القرط المطلوب ، فأجاب التاجر بأن تلك الماسة كانت ماسة فريدة في السوق ، وأنه لا يعرف أن لها شبيها أو نظيرا في كل أسواق فرنسا ، فأشار عليه السيد بأن يصدر نشرة إلي البلاد المجاورة كبلجيكا وهولندا وانجلترا وإيطاليا ، لعل تاجرا آخر يكون عنده ما يشبهها ؛
وفوضه في شراء الماسة الجديدة - إن وجدت - بأي ثمن ، لأنه لا يهمه علو الثمن بقدر ما يهمه العثور علي الماسة المنشودة . تخرج التاجر على أن ينفذ مشيئة السيد وبعث بالنشرة التي حدد فيها وزن الماسة ومقاسها وصورتها ، وافسح الطريق امام من تكون عنده مثل هذه الماسة ليطلب في ثمنها ما يشاء
ولم يمض على ذلك وقت طويل حتي جاءته من هولندا رسالة تفيد أن أحد تجارها يملك شقيقة الماسية المطلوبة بكافة أوصافها وخواصها . ولكنه طلب ضعف الثمن الذي كان التاجر الباريسي قد باع ، الماسة الأولى ، فطار الرجل من الفرح ، وأسرع إلى هولندا بنفسه ، فدفع الثمن واستولي على الماسة ، وهو واثق من أنه إن كان قد دفع الضعف في سبيل الحصول عليها ، فانه سيتقاضى من صاحبه الضعفين
وعاد إلى باريس ، وقصد إلى السيد المنتظر في فندقه وعرض عليه الماسة الجديدة...
ولكن السيد في هذه المرة خبيب أمله ، فانه أفضي إليه بأن السيدة عدلت عن الشراء . .
ولم يكن للتاجر عليه من سبيل!...
فان كل ما حدث بينهما لم يكن يعدو شروعا في عقد صفقة عدل عنها المشتري في اللحظة الأخيرة دون أن يكون قد تقيد في سبيل عقدها بأي قيد
ويسأل الانسان نفسه بعد ذلك : وأين الاحتيال في هذا الحادث ؟
والجواب على ذلك قريب . . فان الماسة الثانية لم تكن إلا نفس الماسة الأولى . . وكان السيد هو الذي تولى بنفسه إيداعها عند شريك له في هولندا ، ثم دبر كل هذا التدبير ، ليستولي على الفرق بين الثمنين . ..
ويلاحظ القارئ أن هذا النصب الفرنسي يمتاز من النصب المصري في أمر آخر . هو اختلاف كلمة رجال القانون في الحكم على هذا العمل الغريب . وهل هو جريمة يعاقب عليها القانون ، ما دام من الثابت أن السيد المحتال كان سيئ النية في كل تصرفاته ، وأنه إنما استولي
على مال التاجر باستعمال هذه الأساليب الصورية التي لا جد فيها إلا أن يصل إلى يديه آخر الأمر فريق الثمنين أم أن هذه التصرفات لا تزيد على أن تكون غشا مدنيا مما لا يقع تحت طائلة العقاب ، ما دام أن المسألة كلها تدور على البيع والشراء في سوق دولية حرة كان للتاجر كل الخيار في أن يتعامل فيها أو لا يتعامل .
وإلي أن يتم الاتفاق على تكييف هذا العمل االتكييف الثابت النهائي ، تبقى الفرصة واسعة أمام هذا السيد وأمثاله ينعمون فيها بثمرة تفكيرهم البارع الجرئ .
