هذا قصر عبد الرحمن الناصر بقرطبة ، يعمل فى بنائه آلاف العمال ، ويستجلب له من كل مدينة أحسن ما فيها ؛ فالرخام الأبيض من المسرية ، والرخام المجزع من رئة ، والوردى والأخضر من تونس ، والحوض المنقوش المذهب من القسطنطينية ؛ وهذه نقوش تنقش ، وتماثيل وصور على صور الانسان تنصب فى أماكنها ؛ وهذه هى الأبواب تصنع من العاج والآبنوس المرصع بالذهب ؛ وهذه هى الأعمدة تقام من الرخام الملون والبلور الصافى ؛ وهذا هو مجلس الخليفة يحلى بقرامد الذهب والفضة ملونة ألوانا بديعة ، وينشأ فى وسطه حوض عظيم يملأ بالزئبق ، فإذا دخلت الشمس سطعت على تلك الأبواب وهذا الحوض وهذه الأعمدة ، فيكون من ذلك أشعة تخطف الأبصار وتأخذ القلوب ؛ وهذه الحدائق تنسق ، ويؤتى لها بأغرب الأشجار وأجمل الأزهار .
وهذه القناة الغريبة الصنعة يجرى فيها الماء من جبل قرطبة إلى القصر فيلعب فيه لعبه البديعة ؛ فهذه بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة مطلى بالذهب ، وعيناه جوهرتان براقتان ، يجوز الماء فى مؤخرته فيمجه فى البركة من فيه ، ثم تسقى من مجاجه جنان هذا القصر ، وما فضل عنه صب فى النهر .
وامتلأ القصر بالطيور تغرد ، والأزهار تتفتح ، والفتيات تمرح ، وصبيان الصقالبة يروحون ويجيئون ، وتم فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .
ويأتى أمير المؤمنين الناصر فيزور القصر ويعجب به ، ويمتلئ فرحا وسرورا ، ويلهج لسانه بالشكر لله على ما أولى
وأنعم ، ويصعد إلى السطح الممرد فيشرف منه على الرياض الزاهية والمياء المتدفقة ، والمجالس وقبابها الذهبية ، وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وحسن المنظر ، بين مرمر مسنون ، وذهب مصفى ، وعمد كأنها أفرغت فى القوالب ، ونقوش كالرياض ، وبرك عظيمة ، وحياض وتماثيل عجيبة ؛ ويعجب من قدرة الانسان الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة ، ومادتها اللهلهلة ؛ وهو أشد عجبا من صنع الله للمادة ، وصنع الله للانسان .
ولكن [ ودائما تأتى " لكن " ، فهى نذير الشؤم والنقص ، ولم يخل شئ فى الدنيا من نقص فلم يخل شئ من " لكن " ] .
ولكن أبعد " الناصر " النظر فرأى على مداه مستشفى للمرضى يزدحم فيه أصحاب العاهات : هذا قد عصبت عينه ، وهذا قد ربطت ذراعه ، وهذا قد كسرت رجله ، وهذه محفة تحمل طريحا ، وهذا طبيب يداوى والعليل يتلوى ، إلى آخر هذا المنظر .
ألم " الناصر" من هذا القبح وسط هذا الجمال ، ومن مظهر الضعف بجانب مظهر القوة ! وعد هذا نشازا فى الأغنية الجميلة ، وبيتا مرذولا فى القصيدة الرائعة ، وشجرة يابسة فى الحديقة الناضرة ، وعمودا مرضوضا فى البناء الفخم ، وعودا ذابلا فى طاقة من الزهور .
لا . لا . لا يكون ذلك . إنى أحب الانسجام فى كل شئ ، والمواءمة فى كل نغمة ؛ والانسجام فى جلائل الأمور وصغائرها . إن هذا المنظر يذكرنى بالضعف وأنا أحب القوة ، ويشعرنى بالفناء وأنا أحب البقاء ، ويصور الحياة فى أبشع صورها وأنا أحبها فى أزهى صورها .
ولكن المرضى عضو من أعضائنا يجب العناية بهم ، والحنو عليهم ، والاحسان إليهم ، والتوفيق ممكن بين ما أطلبه من الانسجام فى النظر والمواءمة فى النغم ، وبين
ما أشعر به من واجب المرضى وحسن رعايتهم ؛ فلينقلوا إلى مكان آخر بعيد عن قصرنا ، حيث يجدون فيه راحتهم ، وحيث نجد فى بعدهم راحتنا .
يبدو الأمر بسيطا سهلا ، ولكن [ تظهر " لكن " مرة ثانية ] .
فهذا المستشفى وقف ، ولا بد أن يؤخذ فى استبدال الأوقاف رأى رجال الشرع .
وكانت الأندلس قد شعرت بنقص نظام القضاء فى الشرق ، إذ لم يكن هناك قانون رسمى يعمل على وفقه القضاة ، ويعرفه المتخاصمون والقضاة قبل الحكم ، بل كان القاضى يقضى حسب اجتهاده فى حدود مذهبه ؛ وقد أدى هذا إلى إصدار أحكام مختلفة فى قضايا متشابهة ! فتداركا لهذا ألفوا جماعة سموها " جماعة الشورى " , يعين أعضاؤها بمرسوم من أمير المؤمنين ، ومن اختصاصها النظر فى مشكلات المسائل ، ومسائل الأوقاف ، والاشراف على أعمال القضاة وتوليتهم وعزلهم ، والاشراف على أعمال رجال الدولة فيما يتصل بالشؤون الدينية .
إذا ، كان لابد فى أمر المستشفى أن يعرض على جماعة الشورى ! فبعث الناصر بأحد وزرائه إلى رئيسها ، وهو قاضى قرطبة ابن بقى ، وشكا إليه أمر المستشفى ، وأنه يؤذى أمير المؤمنين الناصر , برؤية المرضى إذا أطل من علالى القصر ، وأنه على أتم استعداد أن يعوضهم عنه ما يساوى أضعاف ثمنه ، أرضا فسيحة غالية من أملاكه فى ضاحية قرطبة هى " منية عجب " .
قال " ابن بقى " : الرأى عندى أن هذا لا يجوز ، وأن ليس لى فيه حيلة ؛ فالوقف يجب أن تكون له حرمته ، وأولى من يحترمه السلطان .
الوزير - يحسن إذا أن تعقد مجلس الشورى وتعرض عليهم الأمر ورغبة السلطان ، فلعلهم أن يجدوا فى ذلك رخصة . ***
هذا المجلس مجتمع ، وها هم العلماء يقلبون الأمر على وجوهه ، فلا يرون فى فقه الإمام مالك الذى يتقلدونه مخرجا ، فيقررون رفض الطلب ، وها هو ابن بقى يعرض على القصر رأى المجلس بالرفض .
يغضب السلطان أشد غضب وأعنفه ، ويأمر بإحضار مجلس الشورى فى القصر ، ومواجهة الوزراء لهم بالتعنيف والزجر ؛ فينطلق أحد الوزراء معنفا قائلا : إنكم تستحلون أموال الناس ، وتأخذون الرشا ، وتلتمسون الروايات الضيفة تبعا لشهواتكم ؛ وقد أمرنى أمير المؤمنين أن أطلعكم على عيوبكم ، وأسفه أحلامكم فى موقفكم ؛ فهو مطلع على شروركم وخيانتكم ، قد احتاج إليكم مرة فى دهره ، فى أمر من أموره ، فلم يتسع نظركم لإجابته ، فليكشفن ستركم ، وليناصحن الإسلام فيكم - وأطال فى مثل هذا .
قال أحد الأعضاء : عفوا عفوا - أيها الوزير - لقد أخطأنا فى رأينا ، وتبنا عما جنينا .
فانبرى له شيخ شديد المنة قوى العارضة ، يسمى " ابن حبونه " , وقال : عم تتوب يا شيخ السوء ؟ نحن برآء إلى الله من مقامك ؛ والتفت إلى الوزير وقال : بئس ما بلغت ، وليس فينا وصف مما ذكرت . إنا أعلام الهدى وسرج الظلام ، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق ، وتنفذ الأحكام ؛ فان كان من يتصف بما وصفت فأنتم . إن كان قد نطق أمير المؤمنين حقا بما نطقت فكان أولى أن تنصحه فى قوله وألا تفشى سره ؛ فان كنت ولا بد مبلغا فجاملنا ، ولا تقابلنا بما استقبلتنا . نحن على يقين أن أمير المؤمنين سيراجع بصيرته ويعاود رأيه . ولو كان الأمر ما قال فينا لبطل كل ما صنعه ؛ فهو لم يثبت له كتاب حرب ولا سلم ، ولا بيع ولا شراء ، ولا صدقة ولا حبس ( وقف ) ولا هبة ولا عتق
إلا بنا وبشهادتنا ؛ هذا ما عندنا والسلام . ووقف وتبعه الأعضاء ، وخرجوا جميعا من القصر غاضبين . وشاع الخبر فى الناس ، فغضبوا لهم أسفوا لإهانتهم ، وأصبحت الحادثة حديث الناس ومجال التعليق . وعاود الناصر فكره ، ورأى فيما حدث خطورته ، فاعتذر إليهم وترضاهم وأكرمهم ، واعتذر عما فعل الوزير معهم .
ولكن بقى " المستشفى " غصة له . وزاد الأمر سوءا أن لم تصبح المسألة مسألة مستشفى فحسب ، بل أكبر من ذلك هزيمته وعلم الناس بها ، وهو المحارب الذى لم يعتد الهزيمة فى الحروب .
ظهر فى الميدان " أبو لبابة " رجل واسع العلم واسع الذمة ، قوى العقل ضعيف الخلق ، ماهر فى التأليف ، ماهر فى التأويل ، يؤلف كتاب " المنتخبة " فى الفقه فيقول المالكية إنه قل أن يكون له نظير ؛ وهو مع هذا شره فى المال ، ضعيف الايمان بالعدل ، ولى قضاء " البيرة " فأساء السيرة حتى ضج الناس منه فعزل ؛ وكان عضوا فى مجلس الشورى ، فأخذ عليه أنه يفتى للمال ، ويتأول للمطمع ، فعزله الناصر منه وألزمه بيته ، ومنعه أن يفتى أحدا .
وجد " أبو لبابة " الفرصة سانحة ، فكتب إلى الناصر يذكر له أنه محق فى وجهة نظره ، وأن مجلس الشورى متزمت متعنت ، ولو كان هو عضوا من أعضائه لاستطاع إقناعهم واستخراج الرأى الموافق منهم .
أعاده " الناصر " لمجلس الشورى ، وجمع المجلس ثانية منه ومنهم . فأما الأعضاء فأصروا ، وأما هو فعارضهم ، وكان مما قال : إنى أعلم أن قول مالك كما تقولون ، ولكن ما الذى يمنعنا أن نأخذ فى هذا الأمر بقول أبى حنيفة ، وهو يرى عدم لزوم الوقف ، وحاجة أمير المؤمنين إلى
ذلك ماسة ؟ ناشدتكم الله : ألم تنزل بأحدكم ملمة تركتم فيها قول مالك وأخذتم بقول غيره ؟ فلم تترخصون لأنفسكم ولا تترخصون لأمير المؤمنين ، ولا ضرر فى هذا إذ يعرض مكانا أنفع وأرضا أغلى ؟ فسكتوا .
ثم طلب من رئيس المجلس أن يرفع الأمر إلى أمير المؤمنين ، ويذكر له رأيه ورأيهم ، وحجته وحجتهم ؛ فجاء الأمر بالأخذ برأى أبى لبابة ، وأزيل المستشفى ، وكان بعد قليل فى " منية عجب " ؛ وكان أبو لبابة موضع الحظوة إلى أن مات .
ثم ذهب القصر بزينته وزخرفه ونعيمه ، وذهب المستشفى ومرضاه ، وبقى حديث أبى لبابة فى أفواه العلماء : هذا يصب عليه سخطه لأنه قضى بالغرض ، ورأى رأيه لشخصه ، وهذا يرى أنه واسع الأفق مرن الرأى ، وهذا يؤرخ بحادثته القضاء ، وكيف كان ، وإلى أين صار .
