الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 468الرجوع إلى "الثقافة"

صور قضائية :, عندما يغضب القاضى

Share

كتبت فى عدد الأسبوع الماضى من مجلة الثقافة كلمة تحت عنوان " عندما يشتم المتهم قاضيه" ورويت فيها قصة وقعت لى وأنا قاض بإحدى محاكم القاهرة . وذكرت أن متسولا ضريرا تعدى على وأنا فى مجلسى بأفذع عبارات السب عقب نطقى بالحكم فى قضيته ، وأن الحراس وضعوا يدهم على فمه وحملوه حملا إلى خارج قاعة الجلسة ليكفونى شره ، وأن القانون يخول القاضى أن يحكم فى مثل هذه الحالات بحبس المعتدى مدة قد تصل إلى سنة كاملة . وذلك لضمان الاحترام الواجب فى حق القاضى الجالس ، وكفالة هيبته . سيما وأن أحكامه بطبيعتها لابد أن تمس الناس فى أموالهم وفي حرياتهم . فإنه إن جلس كقاض مدنى كان لابد لكل حكم يصدر منه أن يحرم واحدا من الطرفين المتنازعين من ماله الذى يدعيه لنفسه . وذلك لأن الدعوى المدنية قوامها نزاع على مال يدعيه (المدعى) لنفسه ، ويزعم أن (المدعي عليه) ينازعه فيه . فإن قضى به القاضى المدعى كان معنى ذلك حرمان المدعى عليه من حقه الذى يدعيه فى هذا المال ، وإن رفض دعوى المدعى كان معنى ذلك إخراج هذا المال من يده لصالح غريمه . وعلي كلا الحلين لا يخرج الخصمان إلا وفى نفس واحد منهما ضغن على القاضى . أما إن جلس القاضى ليقضى فى جرائم الناس فإن موجدة هؤلاء الناس عليه تكون أشد وأعظم . لأن أحكامه تمس حرياتهم . وقد تبلغ أحيانا من الجسامة بحيث تمس حياتهم نفسها . ومن أجل ذلك أحاطه المشرع بهذا السياج . ووضع فى يده هذا السلاح ليدفع به من نفسه - وعن مجلسه .

فلما ذكرت فى كلمتى السابقة أنى تجاهلت ما وقع من

ذلك الضرير التعس وأنى تظاهرت بعدم الاستماع له . ورفضت أن يؤتى إلى به لأحاكمه على ما فرط منه . بدا لى من حديث بعض من اطلع على هذا انقال أنى تسامحت فيما لم يكن ينبغى التسامح فيه - وأن بمسلكى هذا قد أسأت إلى غيرى من الزملاء ، فيطمع فيهم الذين فى قلوبهم مرض . ويتطاولون على مقامهم . وقد نسى الذين حدثونى هذا الحديث أنى لم أضع تشريعا جديدا يحرم القاضى من حق الدفاع عن نفسه . فالقانون باق والسلاح فى يد القضاة مشهور . ومن شاء أن يجرب حظه معهم فليتقدم ، وعليه إجرامه . على أنى من جانبى لم أعلن عن نفسى أن هذه خطتى التى اخترتها . والتى أرى أن ألتزمها فى كل حادث من هذا القبيل . فلكل مقام مقال كما يقولون . ورب غضبة يغضبها الرجل لكرامته تكون هى القاضية على ما له من كرامة . والحلم أين كان سيد الأخلاق عند عامة الناس ؛ فهو عند القاضى ضرورة خلقية لا غنى له عنها . ولكل إنسان أن يغضب . ولكنى أرى أن القاضى إذا تسرب الغضب إلى أعصابه وجب عليه أن يقوم من مجلسه حتى يهدأ ، لأنه حاكم يعطى ويمنع ، ولا يؤمن مع غضبه صواب العطاء ولا صحة المنع . وليس أجدر بالاحترام عندى من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .

والمسألة بالقياس إلى ليست على كل حال مسألة بحث نظرى أو جدل فلسفى فى أى المسلكين خير وأيهما شر . وهذا الأمر تفصيل . .

فقد كنت وكيلا للنيابة فى مستهل حياتى القضائية ، وكان أول عمل أسند إلى هو أن أحضر الجلسات ، ولم يكن لى دور أقوم به فى هذه الجلسات إلا أن أبقى فى مكانى أستمع لما يدور من مناقشات القاضى ومرافعات المحامين ، حتى إذا أعلن القاضى انتهاء الجلسة ، وقام من مكانه ،

انصرفت فى أعقابه لا على ولا لى ، وكان القضاة يتغيرون ويتبدلون ، وكان لكل واحد منهم طريقته الخاصة فى إدارة جلسته . فمنهم صاحب الجد الذى لم يتبسم فى الجلسة قط . لأنه يرى أن هذا أليق بالقاضى وأصون لوقاره ؛ ومنهم من كان ينبسط فى مجلسه حتى ليمازح المتقاضين ويضحك كما يشاء حتى لتبدو نواجذه؛ ومنهم من كان رزينا هادئا ، يثور الخصمان فى حضرته وتكاد تدرك لثورتهما جدران القاعة ، وتتوتر أعصاب الحاضرين جميعا لما يشهدون من مساجلات حامية وتجاذب حاد ، وهو على كرسيه قابع كأنه قطمة من الجبل ، محتفظ بكل هدوئه وصبره ليتدخل آخر الأمر بين الحصمين المشتبكين فيفصل بينهما كيف يشاء ؛ ومنهم من كان كثير الصياح ، خفيف الحركة يظل يصرخ فى وجه الناس لأتفه الأسباب ، ويقرع بيديه خشب منصته حتى ليحول بهذه الحركات العصبية بين أسماع الناس وبين ما يحاول أن يقول ؛ كل ذلك وأنا فى مكانى من الجلسة أسمع وأرى ، وألاحظ على وجوه الناس مقدار تأثرهم بمسلك كل واحد من هؤلاء القضاة ، وأعرف فى نظراتهم مبلغ رضاهم أو استنكارهم ، وأتخذ لنفسى طريقها على هدى ما أتينه ، وأرسم لها خطتها المستقبلية على ضوء ما ألاحظه .

وظلت على هذه الحالة حتى كان يوم لا أظن أنى سوف أنساه .

كان اليوم يوم خميس . وكانت الجلسة جلسة الجنح فى ثغر من ثغورنا المصرية ، وكان القاضي - رحمه الله - رجلا حاد الطبع ، سريع الغضب ، إذا انزلق لسان المحامى أمامه إلى سرد واقعة على صورة غير صورتها الثابتة فى اوراق الدعوى لم يحمل ذلك منه على محمل السهو أو النسيان أو الخطأ . ولكنه - ويا للعجب - كان يرى فى ذلك استهانة من المحامى بعقليته ، ومحاولة منه لاستغفاله .  فكان لا يملك نفسه تحت هذا التأثير أن

تهيج ، ولا يملك لسانه ان ينهدر ويثور ، وهو يحكم مجلسه وما يتمتع به من السلطات أعلى من غيره صوتا ، وأقوى مكانة ، وأفسح طريقا؛ فيصول ويحول فى ميدان ليس به فى واقع الأمر منازل غيره ولا مبارز ؛ وكان بطريقته هذه يعمل على حبس الكلام فى أفواه الناس ، حتى لا يشتبكوا معه فى نقاش ولا يدخلوا معه فى معركة هم فيها الخاسرون أبدا . ولم يكن يدرى أنه بهذه الطريقة أيضا يسد الأبواب فى وجه نفسه ، ويصبح فى وضع لا يأمن معه المثار فى حكمه .

وكانت جلستنا فى ذلك اليوم جلسة طويلة شاقة . وكانت من بين قضاياها قضية هامة قدمت النيابة فيها رجلا وامرأته على أنهما ضبطا يتجران فى المخدرات . وكنا قد بقينا فى مجلسنا منذ الصباح حتى انتصفت الساعة الثالثة بعد الظهر . فرأى القاضى - أفول رحمه الله - أن يرفع جلسته بعد أن اعلن انه سيعيدها فى الساعة الخامسة مساء .

وعدنا بعد الظهر متعبين مكدودين . وفرغ القاضى من نظر قضاياه ، ولم تبق إلا قضية المخدرات التى أشرت إليها . وكان قد رأى - لأهمية القضية - أن يتفرغ لها فى آخر جلسته . وكان لهذين الزوجين قصة ؛ فالزوج كان لصا معروفا فى المدينة - معروفا لى على الأقل ولغيرى من وكلاء النيابة الذين كانوا يعملون معى - وكان لا يكاد يخرج من السجن حتى نراه بين يدى رجال الشرطة مقبوضا عليه ، فنعيده إلى السجن من جديد . وكانت سرقاته كلها من التاجر ، فهو (حرامى دكا كين ) - كما كانوا يسمونه - ومن عجيب أمر هؤلاء اللصوص أنهم "يتخصصون " كما قد " يتخصص " أصحاب المهن الشريفة ؛ فالنشال الذى يلتمس فرائسه فى زحام المركبات والطرق لا شأن له عادة الأقفال ومفاتيحها المصطنعة و وكسر

الأبواب وما إلى ذلك . و " لصوص الحمير " فى الريف لا يسرقون الغلال ؛ ولست انسى أن لصا تقدم إلى بتهمة أنه سرق دجاجة ، فلما طلبت ( سوابقه ) وجدت أن ثمانى " سوابق " ولما تصفحتها وجدت سبعا منها فى سرقة دجاج . أما الثامنة فكانت " دخول منزل بقصد ارتكاب جريمة فيه " . أى أنه ضبط بداخل المنزل ولم يستطع أن يبرر وجوده فيه . ولكنى أيقنت بينى وبين نفسى أن فناء هذا المنزل لا بد أن تكون به ( عشة ) للدجاج !

ونعود إلى صاحبنا موضوع قضية المخدرات . فانه استطاع آخر الأمر أن يقع على فتاة من أجمل فتيات المدينة فتزوجها . ولا أدرى كيف رضيت به بعلا . وهو ( حرامى الدكا كين ) الذى لم يكن يقضى شهرا حرا إلا ليقضى شهرين فى السجن . على أن الفتى أراد أن يثبت أنه كفء . لجمال عروسه ؛ وكان لا بد لهذه الكفاءة من المال الوفير ، فنظر فرأى أن ( دخله ) من سرقة التاجر لا يكفى لتعمير بيت الزوجية الجديد ؛ ولذلك اتجه إلى ( المخدرات ) يعمل على مساعدة مهربيها ، ويشاركهم فى الاتجار بها . ومن المعروف عن هذه التجارة أنها أقصر طريق إلى الثراء العريض لولا ما يحف بها من المكاره . ولم تكن هذه المكاره مما يخيف الزوج الشاب . فأقبل على عمله الجرىء وأقبلت عليه الدنيا . وعاش شهورا مع عروسه ألبسها فيها الحرير وحلاها بالذهب . ولكن وقعت الواقعة يوما - كما كان لا بد لها أن تقع - فاقتحم عليه الشرطة داره ، وضبطوه هو وعروسه وهما يشتغلان بتعبئة ( الهيروين ) فى ( تذا كره ) . فكبلاهما وخرجا من الدار وقد وقع " الأسد " فى شبا كهم كالمعتاد ، ولكنه فى هذه المرة كانت إلى جانبه ( لبوته ) ! .

ولم أر الفتى ثائرا هائجا فى قفص الاتهام كما رأيته فى ذلك اليوم . فقد كان فى كل مرة من المرات السابقة يدخل

علينا مستسلما ويخرج من عندنا راضيا . وكانت المسألة بالقياس إليه كأنها قد دخلت فى دور ( الروتين ) . فهو يسرق لأن هذه مهنته التى يعيش منها . ثم يساق إلينا لنحبسه فلا يمتعض لأنه يرى أن تلك مهنتنا التى نعيش منها أيضا . أما بعد زواجه ، وبعد تغير حياته باجتماع الشمل بينه وبين عروسه . فيبدو أن الأمور قد تغير وجهها عنده . فإنه كان ضيقا بنا أشد الضيق ، فما علينا أشد النقمة . وظهر أثر كل ذلك أثناء مناقشات قاضينا معه . فانه كابره . وهوش عليه ، وتحداه . ولم يكن القاضى فى حاجة إلى كل ذلك ليخرج عن طوره ؛ فاحمر له وأخذ صوته فى الارتفاع والتهدج . وشرع محامى المتهمين يدافع عنهما ، فتصدى له القاضى وأكثر من مقاطعته ، وكان ذلك مدعاة لتدخل المتهم واشتراكه مع " المحكمة و الدفاع " فى النقاش وزجره القاضى ولكنه لم يزدجر . فتوعده القاضى بتغليظ العقوبة - هذا والدفاع لم يغته بعد من مهمته - وكان ذلك بدوره عاملا جديدا زاد فى كهرية الجو . وأحس كل من فى القاعة أن عاصفة توشك أن تنفجر فيها ولم يكن يملك أحد أن يصنع شيئا لتهدئة الحالة ؛ فالقاضى فى ثورة . والمتهم أمامه فى ثورة أعنف منها ، والمحامى لم يكن من اللباقة والكياسة بحيث يعمل على الحد من قوة هذا الاصطدام المنتظر . أو على مصانعة القاضى ليعيد إليه هدوءه فيأمن بذلك شر غضبه . ولكنه اندفع اندفاعا خاطئا لنصرة موكليه وإثبات حقوقهما وما أعده القانون لهما من ضمانات أثناء محاكمتهما . فاضطر القاضى إلى أن يصبر عليه قليلا ربما ينتهى من مرافعته ؛ فلما فرغ ، نطق فى مواجهته بالحكم على المتهمين ، وقد رفع فيه عقوبة الزوج إلى حدها الأقصى، وزاد فى بلاء الموقف أنه كان ينطق بحكمه فى نبرات قوية يشد عليها شدا ، وهو يقذف بها فى وجه المتهم كما يفعل المنتصر المنشفى بخصمه المغلوب ، وطار لهذه الصدمة ما كان

باقيا فى رأس المتهم من عقل . وكأنما قد خسر بهذا الحكم كل شئ ، وكانما لم يعد أمامه ما يستحق أن يبقى من أجله على نفسه . فحاول أن يتسور قفص الإتهام ليصل من ورائه إلى القاضي . ولكن الحراس حالوا بينه وبين ما يريد ، فترك للسانه العنان . وأطلقه فى عرض القاضى وفي شرفه وفي حسبه وفي نسبه ؛ وبدلا من أن يرتد إلى القاضى هدوؤه لمواجهة هذه الثورة الجامحة ، تلقاها بثورة مثلها ، فجعل - كلما سكت المتهم برهة يتنفس فيها - يوجه هو إليه تهمة " تعديه على هيئة المحكمة " ويضيف مدة جديدة إلى فترة الحبس المحكوم بها أولا حتى بلغت جملة العقوبات التى وقعها عن " التعدى " وحده عدة سنوات ! !

منذ ذلك اليوم نفرت نفسى من صورة القاضى ( الحانق ) وآليت أن لا أ كونه .

ومنذ ذلك اليوم أيضا عرفت أن السلاح ليست قيمته فى حدة نصله . ولكنها فى طريقة استعماله !

حسن جلال

اشترك في نشرتنا البريدية