الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

صور من التاريخ الاسلامي، أبو ذر الغفاري

Share

العربي القديم من أبسط الناس طبيعة، وأوضحهم سريرة،  وأصرحهم لسانا، وأشدهم استمساكا بما يراه الحق، وأعظمهم حمية،  أن يجري عليه ذل أو ضيم. ثم هو من اكثر الناس قناعة، وأرضاهم من حطام الدنيا بالكفاف.

ذلك الخلق، الذي قد لا ترضى عن بعض نواحيه النظريات  الأخلاقية الحديثة، يرجع الى البيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأ  العربى فى حجرها، صيغ على مثالها. فالبادية محدودة الحاجة،  ونظام القبيلة الاجتماعى إنما هو نظام الأسرة مكبرا. وكم للناس من  فضائل هي وليدة بيئتهم، وان شئت فقل: كم من فضائل الناس ما هو  مرزوق غير مجلوب، وموهوب غير مكسوب!.

ولقد جاء الدين الإسلامى مطبوعا فى جملته بالطابع العربى،  موسوما بسمته، قد سلك الى الحقيقتين الدينية والاجتماعية أقرب  السبل، وعبر عنهما أوجز تعبيره وأبلغه، فهو من ناحية يأمر بالتوحيد  المحض، ومن ناحية أخرى يأمر بالتسوية بين الناس فى الحقوق العامة،  وبالأخذ من الدنيا بحساب.

ولكن شاء الله أن ينبعث العرب من جزيرتهم غزاة فاتحين،  وان يحووا مواريث أمم التبس عليها أمر الحقيقتين المذكورتين،  فلم يلبث العرب أن تأثروا بتلك الأمم وانتقلت اليها أدواؤها وأصابهم  ما أصابها من لبس واضطراب. فأما الحقيقة الدينية السهلة فقد  صيرها غلاة الفقهاء والمتكلمين، وأهل الأهواء والنحل، أمرا صعبا  مستصعبا، له ظاهر وباطن، وقريب وبعيد.

ليس من موضوعنا أن نفيض فيما طرأ على الحقيقة الدينية فى صدر  الاسلام، ولكن موضوعنا مقصور على ما عرى الحقيقة الاجتماعية  فنقول ان هذه أيضا قد ضل عنها رجال السياسة ضلالا بعيدا.  فأفسدوا بذلك النفس العربية الساذجة، وأبدلوها بالزهد ف الدنيا  شغفا بها، وتهالكا عليها. نعم ان أبا بكر وعمر أنفقا لجهدا غير  يسير فى سد ذرائع هذا الخطر، وبدءا فى ذلك بأنفسهما. فكانا  مضرب المثل فى القناعة والزهد وخشونة العيش. وحاول ثانيهما أن  يحمل الناس على القصد والاعتدال فلم يقسم بينهم الأرض المفتوحة  عنوة، ثم زاد لمنع قريشا من الخروج الى البلدان المفتوحة الا بأذن  والى أجل. فلما شكوه خطبهم خطبة قال فيها تلك المقالة التى تفيض

قوة وتصميما. . . . . ألا وان قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله  معونات من دون عبادة، ألا فأما وابن الخطاب حى فلا! إنى قائم  دون شعب الحرة فآخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا فى النار،  فلما ذهب عمر لسبيله وولى عثمان تنفست قريش وسرى عنها، وأقبلت  تستغل لين ذى النورين وحياءه الجم، فانطلقت الى الأمصار تقتنى  المال الوافر والعقار الواسع والاقطاعات المترامية على ضفاف دجلة  والفرات والنيل، وتتملك أرضا هي بحكم نظام عمر وقف على عامة  المسلمين يشركون جميعا فى غلته. فأثرت قريش وربلت، وصارت  الى رفاغة عيش لهم تلم لها من قبل بخيال. يحدثنا أبو الحسن المسعودى  فيقول: "وفى أيام عثمان اقتنى جماعة من أصحابه الضياع والدور،  منهم الزبير بن العوام، بنى داره بالبصرة وهى المعروفة فى هذا الوقت . . . . . وابتنى أيضا دورا بمصر والكوفة والإسكندرية وما علم من  دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول الى هذه الغاية. وبلغ مال الزبير بعد  وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وألف  أمة وخطا بحيث ذكرنا من الأمصار. وكذلك طلحة بن عبيد الله  التيمى، ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت المعروفة بالكباسة  بدار الطلختين وكانت غالته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل  أكثر من ذلك (!) وبناحية سراة (؟) أكثر مما ذكرنا، وشيد داره  بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج؛ وكذلك عبد الرحمن بن  عوف الزهرى، ابقنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس  وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ريع ثمن  ماله أربعة وثمانين ألفا. وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت  حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤس غير  ما خلف من الموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. وابتنى المقداد  داره بالمدينة فى الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل  أعلاها شرفات، وجعلها مجصصة الظاهر والباطن. ومات يعلى بن  أمية وخلف خمسمائة ألف دينار وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك"  ثم يقول المسعودي "وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيمن  تملك من الأموال فى أيامه، ولم يكن مثل ذلك فى أيام عمر بن  الخطاب، بل كانت جادة واضحة وطريق بينة"

مهما يكن من المبالغة فى هذا النص، فهو لاريب يشير الى حال  كانت لابد مثيرة لمعارضة جادة غير هازلة، فالعهد بصاحب الشريعة  الإسلامية والشيخين كان لا يزال قريبا، ومبادئ الإسلام الديمقراطية  لم تنمح حد من الأذهان، وقد وجد نوعان من المعارضة لهذه الحال:  نوع يسند الى العنف والقوة المادية، وكان بالأمصار الكبرى، حيث  الجند الذين شادوا الدولة بسيوفهم والذين أصبحوا يرون قريشا  استأثرت بحقهم فى الفىء، وبلسان هؤلاء يقول شاعر من أهل  الكوفة: -

يلينا من قريش كل عام  أمير محدث أو مستشار لنا نار نحرفها فنخشي  وليس لهم فلا يخشون نار

ومن هذا القبيل معارضة أهل المدينة. ولكنها كانت ذات  صوت خافت ممجمج لأن المدينة لم تعد محل القوة المادية فى الدولة  العربية فقد خلفها فى ذلك الأمصار المذكورة. والحق أن الأوس  والخزرج قد أدوا الواجب الذى من أجله لقبوا (بالأنصار) ثم أخذ  نجم مجدهم السياسى فى الأفول. وأما النوع الآخر من المعارضة  فكان يستند الى الدليل الشرعي والى مبدأ الحق والعدالة. وهذا  كان يحمل لواءه عاليا رجل قوال اللسان، ثبت الجنان، صريح فى  الحق كل الصراحة: ذلك أبو ذر الغفارى.

كانت غفار من القبائل الضاربة حول المدينة، وكانت فى الجاهلية  تحترف قطع الطريق واعتراض القوافل التى تمر من أرضها وهى حرفة  لم يكن بها بأس فى عرف ذلك الزمان، فنشأ أبو ذر نشأة أعرابية،  واتصف بما يتصف به الأعراب عادة من صدق اللهجة وصراحة  القول، ومرن على حياة البادية بما فيها من خشونة وسذاجة. ويقال  أنه بقوة عقله وصفاء ذهنه أدرك ما عليه قومه من فساد العقيدة،  فأطرح الأوثان ووحد الإله وذلك قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه  وسلم بثلاث سنين. فلما نبئ عليه السلام وبلغت أبا ذر دعوته،  وجد مشاكلة قوية بين هذه الدعوة وبين ما كانت نفسه اطمأنت  إليه من قبل، فرحل إليه من فوره، وما هو إلا أن لقيه وسمع منه  القرآن حتى أسلم وكان خامس خمسة هم كل الجماعة الإسلامية آنذاك.  ولقد أبى إلا أن يجهر فى مكة بدينه الجديد فتعمدته قريش بالأذى ثم  ذكرت أنه من قوم تمر عيرها من أرضهم، فكفت عنه.

عاد أبو ذر بعد ذلك الى البادية فدعا قومه الى الإسلام فأسلم  بعضهم، ثم أسلم سائرهم عندما هاجر الرسول الى المدينة، وبذلك  أصبحت غفار من القبائل التى ظاهرت الرسول فى محاربته قريشا.  وقد لبث أبو ذر فى قومه الى أن تمت الهجرة وانقضت أيام بدر وأحد  والخندق ثم قدم المدينة وخرج مع الرسول فى غزوة تبوك ولزم  صحبته الى أن توفى عليه السلام فكان بذلك من أكبر رواة  الحديث.

وقد وردت أحاديث تشير الى أخلاق أبى ذر فيروى أن النبى  سمعه يقول لآخر "يا بن الأمة" فقال عليه السلام "ما ذهبت عنك  أعرابيتك بعد" وتخلفت بأبي ذر راحلته عن الجيش فى غزوة تبوك  فتركها أدرك الجيش ماشيا وحده فقال الرسول ". . . يمشي وحده  ويموت وحده ويبعث وحده"، وورد فيه أيضا "ما أفلت الغبراء  ولا أظلت الخضراء من ذى لهجة أصدق من أبي ذر"

وأقام أبو ذر بعد وفاة الرسول بالمدينة، فلما كانت خلافة عمر بن  الخطاب ألحقه عمر فى العطاء بأهل بدر تشريفا لقدره وان لم يكن  منهم، فعرض له خمسة آلاف درهم فى السنة. ثم خرج الى الشام،

وغزا مع معاوية أرض الروم سنة 23 هـ وجزيرة قبرس سنة  27 هـ

فلما وقف تيار الفتوح العربية منتصف خلافة عثمان أقام أبو ذر  بالشام فرأى ما آل اليه المسلمون من الحال التي سبق وصفها. رأى  رجال الدولة تسمى الفىء مال الله توصلا بهذه التسمية الخادعة الى  الاستئثار به أو التصرف فيه كما يشاءون. ورأى المجتمع قد استحال  فريقين متباينين: أغنياء مترفين وفقراء معدمين، فأثارت تلك  الحال حفيظة أبى ذر وهو الذى شهد دورة الفلك كاملة، ورأى العرب  فى جاهليتهم وما صاروا اليه فى خلافة عثمان، فنصب نفسه لمكافحة  تلك الحال مهما جر عليه ذلك. فأعلن برنامجه فى الاصلاح. فأما  الفيء فيجب أن يسمى (مال المسلمين) لا (مال الله) وأما الأغنياء  فيجب أن يرد فضل أموالهم على الفقراء، وذهب أبو ذر الى أن  المسلم "لا ينبغي له أن يكون فى ملكه أكثر من قوت يومه وليلته  أو شيء ينفقه فى سبيل الله أو يعده لكريم" أخذ ذلك من ظاهر  قوله تعالى "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل  الله فبشرهم بعذاب أليم" وبذلك البرنامج أصبح أبو ذر داعية اشتراكيا  صريحا. وقد شاعت دعوته فى فقراء الناس ومجاويحهم فثاروا  بالأغنياء وطالبوهم أن يشركوهم فى أموالهم، فتوجه الأغنياء  بالشكوى الى أمير الشام لذلك العهد: معاوية بن أبى سفيان.

أحب معاوية قبل كل شىء أن يختبر صدق أبى ذر فيما يدعو إليه،  فبعث اليه فى جنح الليل بألف دينار ولما كان الصبح أرسل اليه  يستردها بحيلة احتالها فوجد أبا ذر قد فرقها كلها، فعلم معاوية أن  الرجل يفعل ما يقول. فأقبل يجادله فيما يدعو اليه وعلى سبيل  الترضية له قبل أن يسمي الفىء (مال المسلمين) بدلا من (مال الله) ولكن  أبا ذر أصر على أن ينزل الأغنياء عن فضل أموالهم للفقراء، وعبثا حاول  معاوية أن يقنعه بأن الآية التى يستدل بها إنما نزلت فى أهل الكتاب  وحدهم. وأعيا معاوية أمر أبي ذر فجنح الى أخذه بالشدة فنهى الناس  عن مجالسته وتهدده بالقتل فلما لم يجد كل ذلك رفع أمره الى عثمان  فأمره بأشخاصه اليه، فأشخصه اليه على شر حال.

لم يكن أبو ذر فى المدينة بأسعد منه فى الشام فقد حاول عثمان  أن يصرفه عن دعوته، ويريه أنه لا يملك أن يجبر الناس على الزهد  وعلى أن يؤدوا غير فريضة الزكاة، وان كل الذى يملك هو أن يدعو  المسلمين الى الاجتهاد والاقتصاد. ولكن أبا ذر كان يريد برنامجه  كاملا، وولع به أهل المدينة والتفوا حوله، فرأى عثمان آخرة الأمر أن  يحصر الخطر فى أضيق دائرة ممكنة فنفى أبا ذر الى الربذة وهي مكان  فى البادية ناء عن المدينة. والظاهر أن عثمان لم يرد أكثر من إبعاد  أبي ذر عن الناس، فالروايات تقول أنه أجرى عليه رزقا يناله كل يوم  وأنه لم يمنعه الى الاختلاف الى المدينة من حين لآخر حتى لا يرتد  أعرابيا.

لم يكن أبو ذر ثائرا ولكن طالب إصلاح ارتآه. ومما يدل على  عدم نزوعه الى الثورة أنه وهو فى منفاه مر به ركب من أهل الكوفة  ممن كان منحرفا عن عثمان فطلبوا إليه أن ينصب راية يلتف حولها كل  من كان على شاكلته وشاكلتهم، فأبى ذلك بتاتا ونهاهم عنه: وأما  مذهبه فى الإصلاح فلا شك أنه ابن بجدته، فالإسلام لا يحظر الثروة  ولا الملكية، ولا يوجب على المسلم حقا فى ماله غير الزكاة، وكل  ما ينهي عنه الإسلام فى هذا الصدد إنما هو أن تجعل الثروة غرضا  مقصودا لذاته.

وعندى أن حركة أبى ذر الاشتراكية تمت بنسب قوى الى حركة  مزدك الشيوعي الذي ظهر بفارس على عهد قباذ وكسرى أنو شروان،  والذي كاد يقلب نظام المجتمع الفارسي رأسا على عقب لولا عزم  أنوشروان وحزمه. فاذا عرفنا أن اليمن خضعت لفارس قبيل  الإسلام وأن يهوديا من أهل صنعاء يعرف بابن السوداء ادعى الإسلام  فى خلافة عثمان وجعل يطوف الأمصار الإسلامية داعيا الى الثورة،  وأنه هو الذى حرك أبا ذر لما أنس فيه من الميول الاشتراكية، اذا  عرفنا ذلك كله فقد وضحت الصلة بين الحركة الشيوعية الفارسية  القديمة وبين الحركة الاشتراكية التى أوشكت أن تقع فى الدولة  الإسلامية على عهد ثالث الخلفاء الراشدين.

لبث أبو ذر فى منفاه نحو ثلاث سنين يعاني ألم الوحشة وكبر  السن وخيبة الأمل فلما أدركه الموت فى سنة 32 هـ كانت وفاته مؤثرة  ودالة على شدة ثباته على مبدئه حتى النهاية، وعلى أنه حقا قد مشي  وحده، ومات وحده، يروي ابن سعد فى طبقاته أنه عندما حضرت  الوفاة أبا ذر حارت امرأته فى أمرها لتوحدها فى تلك الفلاة "فكانت  تشد الى كثيب تقوم عليه فتنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، ثم ترجع  الى الكثيب، فبينما هى كذلك اذا هى بنفر تحذ بهم رواحلهم  كأنهم الرخم على رحالهم، فألاحت بثوبها، فاقبلوا حتى وقفوا عليها،  قالوا ما لك؟ قالت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا ومن  هو؟ قالت أبا ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السياط فى  نحورها، يستبقون اليه حتى جاءوه. فقال لهم. . . . . . . . . ولو كان  لي ثوب يسعنى كفنا لم أكفن إلا فى ثوب هو لى، أو لامرأتى ثوب  يسعنى لم أكفن إلا فى ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام الا يكفنني  رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا. فكل القوم قد  كان قارف شيئا من ذلك إلا فتى من الأنصار قال أنا أكفنك فإنى  لم اصب مما ذكرت شيئا، أكفنك فى ردائي هذا الذى على وفى ثوبين  فى عيبتي من غزل أمى حاكتهما لى. قال أنت فكفنى. . . فكان  ذلك الفتى الأنصارى هو الذى تولى تجهيزه ثم دفنوه جميعا.

وهكذا انطفأ سراج هذه الشخصية الفذة العجيبة. أنها لا شك  من تلك الشخصيات التى يقدمها الزمن عادة بين أيدي الأحداث

اشترك في نشرتنا البريدية