الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 594الرجوع إلى "الثقافة"

صور من الحياة :, ثقافات واتجاهات

Share

جماعة من الشباب المثقف ، ضمهم مجلس سامر اختلفت ألوان ثقافاتهم ، وتعددت مشاربهم واتجاهااتهم ، كانوا يتحدثون في كل فن ، ويطرقون كل موضوع ، تعرض بعضهم لعدم الاستقرار ، كما انتقد البعض أوضاع الحياة ، وفيهم من وصف الحال ، ودل على العلاج ، وربما انبري له من قارعة الحجة ، وأقنعه بدليل . كان بينهم المتدين الذي يري سبب التأخر والقلق والأخطاء في تخلينا عن ديننا ، وانحرافنا عن الطريق المستقيم ، وجلس إلى جانبه من عارضه ، ورأي أنه يجب الأخذ بأسباب المدنية ، والعمل بمبادئ الحضارة الحديثة جميعها ، خيرها وشرها ، لأنها كل لا يتجزأ . ووحدة لها مظاهر متعددة ، ويجب أن نأخذ بجميع ذلك في جرأة وقوة وشجاعة ، وكان الثالث بين بين ، يري التأني والاختيار والحذر ، فلا نقتبس إلا ما نراه موافقا لتقاليدنا وعاداتنا ، وكان يشفق علي الطابع الشرقي ، ويعدد فضائله ومميزاته ، ولذلك يجب أن نأخذ ما نحتاج ونحتفظ بما ينفع ، وكان بينهم رابع يتهور ويغالي في آرائه ، وهي مما تؤاخذ عليه قوانين البلاد العربية وأنظمتها وتقاليدها . .

كلهم يدعون الغيرة ويهدفون المصلحة ، حتى الصديق " ع " الذي كانت له طريقة خاصة في النقاش ، ولون ممتاز في الاتجاه والتعبير ، قد أولع بالإخليز ، وأحب كل ما يتصل بهم من أدب وعلم وفن ، كان ولعه يلفت النظر لأنه لا يكتفي بالحديث عنهم ، أو الدعاية لهم ، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ، فهو يسخف ما يسمع إلا إذا اتصل الكلام بما احب واعتقد . إنه عربي الأصل والمولد ، انجليزي الروح والثقافة والهوى ، حتى نسبه العربي يكاد يلعنه ويتأفف منه ، ويلعن الظروف التي أوجدته فيه أوله . لقد كفر بقومه لأنه اعتقد عدم صلاحيتهم ، ولأنهم في آخر صف من صفوف الأمم ، ولأنهم لن يتقدموا ، فهم برابرة متوحشون ، لا يفقهون معنى المدنية ، ولا مفهوم الحضارة . .

كان يؤيد كل نقد موجه للعرب أو العربية ، ويذهب إلى القدح والسباب ، وربما استمع إلى من ينتقد ويريد الإصلاح فيوافق على النقد البريء ، ويدعي استحالة الإصلاح . إذا تحدث أحدهم عن الغناء الشرقي قاطعه وحدث هو عن الغناء الإنجليزي ، وإذا طرق باب الفلسفة العربية ، تكلم هو عن الفلسفة والفلاسفة الإنجليز . والذي لاحظته أنه يلاقي الاحترام غالبا والامتعاض قليلا . جرى مرة الحديث عن " رسالة الغفران " وكان المتكلم يراها فاتحة القصة في الآداب العربية ، وإذا به يحول الكلام إلى الأدب الإنجليزي فتحدث عن " ملنون " فهو أعظم من أبي العلاء ، وأجد أثرا ، وقصته " الفردوس المفقود " أحسن بكثير من " رسالة الغفران " . فرد عليه الأول قائلا : إن قصة " ملنون " مستوحاة من قصة أبي العلاء التي ترجمت إلى اللغات الأوربية أيام الحروب الصليبية ، وإذا كانت " جحيم دانتي " هي الصدى الأول لرسالة الغفران فإن " الفردوس المفقود "

هو الصدي الثاني . . وسكت . فقد ظن أنه أفحم صديقه الذي أجابه : إنك متعصب ، وكأنك من الذين يردون كل شئ إلى الفكر العربي ، وإذا فاعلم أن " جحيم دانتي " و " الفردوس المفقود " أخذت الفكرة فيهما من التوراة والإنجيل . . وهكذا كان صاحبنا ، فلم تكن آراؤه تقف في حدود النقاش في الأدب وما يتصل به ، بل تتعداها إلى جميع نواحي الحياة ، فالثقافة العربية عنده لا تليق بمجتمع ناهض ، واللغة العربية أداة ناقصة لا تصلح للتعبير

والسياسة العربية جاهلة حمقاء ، والجامعة العربية أخفقت ، والزعماء العرب إذا أرادوا الإصلاح فالواجب يدعوهم إلى التفاهم مع الإنجليز ، لأنهم يتخبطون ارتجالا ، والكثير منهم أتباع يسيرون كما يوجهون ، فلماذا نلجأ إلى الدجل والنفاق ؟ فلنتجة إلى الهدف المعين عن طريق الإنجليز ؟ إننا أضعنا فلسطين لأننا لم نعقد معهم المحالفات .

وفي مرة كان يتحدث بآرائه هذه ، فصاح فيه أحدهم قائلا : إن رأيك هذا لا يقول به إلا خائن أو مأفون ، إن الإنجليز يريدون أن نبقى متأخرين جامدين نسألهم المعونة دائما ، ويأخذون كل شئ منا ، وإن حرب فلسطين علمتنا أشياء كثيرة ، كنا في غفوة عنها ، وعلى بعد منها ، أما أنت فلا تؤمن بقوميتك ، ولا تعرف طريق الحياة لقومك ، إنك تريد أن نبقى عبيدا أبدا . .

وهكذا يصادف أن يتطور النقاش إلى جدال عنيف أو شجار يتدخل فيه الآخرون بالكلمة الحسنة . وينفض المجلس . .

وأعود إلى نفسي استعرض معها ما قيل وما سمعت ، والمهم في وضعنا هذه التيارات المختلفة ، وتلك الثقافات المتعددة الألوان ؛ فهي - كما يظن - مفيدة ، ولكنها كما يحدث غالبا تشطح بالكثيرين ، فنصطدم بهذه العواطف المتطايرة الملونة ، وأعود إلى نفسي أسائلها . . أين مستقبل البلاد من هذه الثقافات المختلفة ؟ .

إلى أين . . ومع من يجب أن نسير ؟ . ما الفوائد التي سنجنيها والأضرار التي يجب أن نخشاها ؟ .

( الناصرية - العراق )

اشترك في نشرتنا البريدية