الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 285الرجوع إلى "الرسالة"

صور من الحياة في بغداد

Share

يظن فريق من الناس أن الحياة متشابهة الألوان ، وإن اختلفت البلاد . وحجة هذا الفريق أن الناس متقاربون أشد التقارب في الغرائز والميول . ويشهد بصحة هذه الحجة أن مذاهب الناس في ملاعبهم وملاهيهم قد تقترب في هذه الأيام مما كانت عليه قبل آلاف السنين. وكذلك تقترب مذاهبهم في فهم الحقائق الأخلاقية والاجتماعية ، بحيث يمكن القول بأن حكماء مصر وبابل والهند والصين في العصر القديم عبروا عن آراء وأفكار ليست بعيدة كل البعد عما نعرف في العصر الحديث

وقد دهشت حين زرت مدينة روان في سنة ١٩٢٧ فقد رأيت بعض الأحياء القديمة هناك تشبه بعض الأحياء القديمة في القاهرة من حيث تخطيط الشوارع وهندسة البيوت

وكذلك دهشت حين زرت بغداد في السنة الماضية،فقد رأيت فيها أحياء تشبه بعض المشبه حي الداوودية بالقاهرة ، من حيث إقامة الرواشن وزخرفة الأبواب

والحق أن هناك موجات مدنية تغمر العالم من حين إلى حين فتوحد مذاهبه في العيش بعض التوحيد . وضح ذلك ما نراه من طنيان المدنية الأوربية فى هذا العصر : فهي تكاد تحول العالم إلى شكل واحد في الملابس والعادات والمذاهب المعاشية ، وكذلك كان الحال يوم سادت المدنية المصرية والمدنية الرومانية والمدنية العربية

ولكن تشابه الناس في بعض مناحى التفكير وخضوعهم لطغيان بعض المدنيات لا يمنع من وجود خصائص أصيلة يمتاز بها بلد من بلد ، وشعب عن شعب وهل يمكن القول بأن الوحدة السياسية في قطر من الأقطار نفرض أن يتسم بوحدة اجتماعية ؟

إننا نعرف أن أهل مصر. يختلفون في كثير من العادات والتقاليد باختلاف المناطق ، ولو شئت لقلت إن عندنا مصرين : مصر الشمالية ، ومصر الجنوبية ؛ ولكل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص ومميزات تتمثل في أشياء كثيرة منها طرائق التعبير وأساليب الغناء

وتعرف أيضاً أن فرنسا تنقسم إلى أم وشعوب بالرغم من وحدتها السياسية ، ولكل أمة من تلك الأمم مذاهب في العيش والتعبير ، ولها كذلك أذواق خاصة في العلعام والشراب فإذا انتقلنا إلى العراق الذى تخصه بهذا الحديث لم نجده بدعاً بين الأمم والشعوب ، وإنما نجده يتأثر في عاداته وتقاليده بما يخضع له من تيارات جوية واجتماعية واقتصادية وهل يمكن أن يتم التشابه بين أهل البصرة وأهل الموصل في كل شيء ؟

إن الذي يطلب ذلك يصح في ذهنه أن يتسابه (السعايدة) و (البحاروة) في كل شيء ، وذلك غير معقول

تقدم الموصل فتروعك سنابل الحنطة وهى تتموج في واسعات الحقول ، وتقدم البصرة فيروعك النخيل الذى بعد بألوف الألوف

وتدخل بغداد فترى فيها سمات من الشمال وسمات من الجنوب

فهل نستطيع بعد هذا التمهيد أن تجد صوراً خاصة من صور الحياة في بغداد ؟

إن الصور التي تتفرد بها بغداد كثيرة جداً ، ولكن كيف نبرز الملامح من تلك الصور الخصوصية ؟

هنا أشعر بأن الوصف أصعب ضروب البيان ، ولكني سأحاول رسم ما رأت عيناى من الصور البغدادية وأبدأ بالحديث عن أذواق أهل بغداد في تنظيم السهرات وكلامي في هذه القضية يحتاج إلى سناد مما قرأنم في كتب الأدب والتاريخ ، وأنتم قد قرأتم أن البغداديين كانوا مولين بالموسيقا والغناء . فاعرفوا اليوم أن هذه النزعة لا تزال حية في بغداد ، ومن النادر أن تقوم سهرة بلا غناء

ويظهر جمال هذه المادة اللطيفة إذا تصورتم ما يقع في دجلة أيام الصيف . ولدجلة من هذه الناحية منظر أخاذ حين تمسي ملعباً للسفائن الخفيفة الروح التي تحمل أفواج اللامين واللاعبين وبأيديهم آلات الطرب وفى قلوبهم مشاعل الوجد المشبوب وأنتم تذكرون أن الجاحظ نص على استكراء المغني الوسط فاعرفوا اليوم أن لذلك صلة بالحياة العراقية . فكل إنسان في العراق يرى من حقه أن بنى ، وكان الأمر كذلك لأن جو العراق يهيج الشجون . وقد حدثتكم مرة بأن العراق هو البلد الوحيد الذى لا تنقطع فيه الحائم عن النواح

ومن أجل هذا أيضا نص أدباؤهم وفقهاؤهم على آداب الوجد والسماع والشراب ، لأن السهرات الوجدانية لها في ماضيهم وحاضر هم مكان ملحوظ ؛ وهم يشدون إليها الرحال من أرض إلى أرض ، وقد يتحملون في سبيلها ما لا يطاق

ولكن ما هو الغناء الذى يميل إليه البغداديون في هذه الأيام ؟ عندهم من من الغناء يسمي الأبرذية ، وهو في أغلب أحواله غناء حزين ، ولكنهم مع ذلك يصطنعونه في الأفراح ، والحجاز بين الفرح والحزن حجاز تدق عند من يعرف أن العراقي حين يارب قد مجود عيناه بالدمع السخين

وقد كانوا في الأعوام الأخيرة بأغان أم كلثوم ، كانوا بها كافاً شديداً جداً ، وهم يعلنون عن سهراتها في جرائدهم بالمجان. ولشعرائهم في الهيام بأغاني أم كلثوم قصائد جياد

ولا يبعد عندي أن " ما نسبتها إلى العراق بعد حين ، وأم كلثوم فيا يظهر سرقت حنجرتها من الحمائم الموصلية. والله أعلم

ولم يكن أهل بغداد يطربون لأغاني عبد الوهاب . ولذلك محسن روايته في هذا الحديث

كان عبد الوهاب زار بغداد فى عهد الملك فيصل ، طيب الله شوراء ، وكان وقع في غلطة ذوقية تار لها البغداديون ، كان لقيهم بمظهر من الارستقراطية لا يرتاحون إليه فانصرفوا عن أغانيه كل الانصراف

ولكن تغير الحال حين رأوا فيمد يحيا الحب ، فأحبوه إلى حد الجنون

ويظهر أن السيدة التي غنت أنشودة البرتقال هي السبب في انجذاب البغداديين إلى عبد الوهاب، فتلك السيد، سرانية الملامح وهى تشبه ليلى فى تقاسيم الوجه ورخامة الصوت

أترك هذا وأنتقل إلى صورة ثانية قلت مرة إن أنهار العراق مسمكة جداً ، فاعرفوا اليوم أن عندهم لونا من الطعام هو السمك المسقوف

والسمك المسقوف مشهور جداً في يغداد ، وينص عليه في الدعوات كأنه من غرائب الأشياء

ولكن السمك المسقوف له تقاليد يعرفها أهل بغداد ، فهو لا يؤكل في كل وقت وفي كل مكان، وإنما يؤكل بالليل وفي الفضاء

وإنما سمي مسقوفاً لأنه يوضع فوق قضبان من الحديد ثم تشب من حوله النار فيتضج بالحرارة، كما يصنع من يشوون اللحم في حل ( الدهان ) إن كنتم رأيتموه

وفى دجلة جزيرة صغيرة ينحسر مها المساء بعد الفيضان ، وهم يسمونها جزرة ، وأهل بغداد يختارون هذا المكان لأكل السمك المسقوف في ليالي الصيف، ويظهر أنه كان مال اللهو والطرب منذ أجيال طوال ، فهو يراحه الكرادة ، والكرادة فيما يناز كثير من البغدادين عرفة عن كل واذ التي قال فيها أبو نواس :

قالوا تنسك بعد الحج قلت لهم

أرجو الاله وأخشى طير تابانا

أخشى قضيب كرم أن ينازعنى

رأس الخطام إذا أسرعت إغداذا

السلامة لم أسلم ببغداذا

ما أبعد الرشد ممن قد تضمنه قطر بل فقرى بنا فكلوانا والتي دعا عليها مطيع بن إياس فقال :

حبذا عيشنا الذي زال عنا حبذا ذلك حين لا حبذا ذا

زاد هذا الزمان شرا وعمراً عندنا إذ أعلنا بغداذا

بلدة تعطر التراب على من كما تمطر السماء الرذاذا

خريت عاجلاً وخراب ذور الله رش بأعمال أهلها كل واذا

مؤيد دحيت ليلة لأكل السمك المسقوف في تلك الجزرة ، وكانت سهرة لطيفة في ليلة قمراء ، ويظهر أن النسيم أراح أعصابي فغلبني النوم ونحن عائدون في السفينة ، ثم استيقظت مذعوراً على صراخ النساء فظننت أن السفينة أشرفت على الغرق، ثم ظهر أنها أصطدمت بالأرض ، فضحكت وحمدت الله على النحاة !

وإنما نصمت على هذه الصورة لتعريفكم بأن لأهل بغداد ألوانا من الطعام تغاير الألوان المصرية ، والفرق بعيد جدا بين ألوان الطعام في القاهرة وألوان الطعام في بغداد . والظاهر أن المائدة المصرية الحديثة منقولة عن المائدة التركية، ولا كذلك المائدة العراقية قلها مذاق خاص بأهل العراق ، وربما كان لها اتصال يما يتذوق الفرس والهنود

قد تقولون : ولكن أكل ما تختص به بغداد هو الطعام والشراب والغناء ؟

إن قلتم ذلك فانى أجيب بأنه لبغداد خصائص غير هذه الخصائص ، منها الجد الرسين الذى يتمثل في تناول الحياة من واحمها الصيغة في الكفاح والجهاد

وأؤكد لكم أن البغدادبين صبروا على ما لم يـيصبر عليه أصدق الرجال

صبر البغداديون على بلايا كثيرة أخفها الأوبئة والطواعين ، وصبروا على مكاره الدهر وتصاريف الزمان

والبغدادی له لحظات بؤس يواجه فيها نفسه وعمومه ورزاياه، والشعور بالكرب هو أخص ما يلازم البغدادي حين يجلس وحده في المقهى أو فى البيت ، وهذا الحزن القاتل الذى يساور أهل بغداد من حين إلى حين هو الذى يجعلهم أقرب الناس إلى الفريزة

الانسانية ، وهل يسيطر الحزن إلا على كبار القلوب ؟ وأعيذكم أن تظنوا ذلك الحزن علامة من علامات البأس

لا ، قالبغدادى يأنس بحزنه ليتخذ منه ذخيرة لمواجهة الخطوب . وما عرف البغداديون مواقع النصر في التاريخ إلا فى أعقاب الأحزان وتفسير ذلك سهل : فالحزن الموجع هو الذى يحمل الرجل على أن يسنينس لاستقتل ويستميت

والحق أن البغدادى يسرف في الفرح ويسرف في الحزن ومن هذه الطبيعة المزدوجة استطاع البغداديون أن يكونوا من أسمح الناس وأشجع الناس

وما وقع بصرى على رجل من أهل بغداد إلا تألمت وحزنت لأني أرى الدهر طبع على وجوههم سمات الحزن الدفين ، ثم يخف ألى وحزني حين أنذكر أن تلك الوجوه الشواحب تعرف كيف تصبر على مواجهة الخطوب

وما كانوا جميعا مكروبين ولا عزونين ، ولكن الأقدار أبت أن تسبغ عليهم ثوب الصفاء، ليكونوا كأشجار البادية التي تقاوم العواصف وتصر على الظلم والقيظ بلا توجع ولا أنين

ولكن ما هى الصور التي يدفع بها العراقيون تلك الموجعات ؟ للعراقيين أساليب كثيرة في جلب المسرات إلى قلوبهم ، منها الاشتغال بالفروسية والتأهب للحرب ، فمن أعظم الملامي عند الشبان العراقيين في هذه الأيام أن يكونوا طيارين وجنوداً وضباطا في الجيش ، ويظهر هذا اللون من اللهو في أجمل مظاهره حين يستعرض الجيش أو سين يقوم سباق الطيران

وما أقول إن هذا النوع من أنس النفس بمظاهر القوة خاص بالعراق ، لا، فهو موجود في كل أرض ، ولكن إقبال العراقيين عليه يتسم بسمات من الروعة توب إلى من يراه أنه من خصائص أهل العراق

ومن كان في ريب من صدق هذه الحقيقة فليتصل بالراديو العراقي مرة ليسمع بعض الأناشيد الوطنية أو العسكرية ، فان فعل قسيعرف أن الحماسة في صدور الشبان العراقيين حماسة رائعة جدا ، وأناما باوقة كل الصدق لا تكلف فسا ولا افتعال

ومن هذه النزعة نشأ عند العراقيين عيب جميل وهو الغروز القوى ، فالعراقيون يعتقدون اليوم أن جيشهم أقوى جيش في

في الشرق ، ويندهشون حين يسمعون أن مدرسة الحربية في القاهرة أعظم من المدرسة العسكرية في بغداد . وقد نشرت إحدي جرائدهم مرة أن مصر أوفدت أربعة شبان ليتعلموا في المدرسة المسكرية عندهم ، فصدقوا الخير وعلقوا عليه في المجالس والأندية والجرائد

وترجع هذه السذاجة الطريفة عند الجمهور العراقي إلى منزع جميل هو قوة الروح المعنوى هناك

وهذا الروح تمده روافد كثيرة في العراق يصدر بعضها عن المدارس وبعضها عن الجمعيات والأحزاب

ويجب أن أنص في هذا الحديث على ظاهرة نفسية كاد يتفرد بها العراق، وهى إلحاحه على وجوب الاسراع في تكوين الوحدة العربية ، فهم يتكلمون ويخطبون ويكتبون كل وقت في تأييد هذه القضية ، ويتمنون على أسلوبهم في السرعة أن يتم ذلك بعد يوم أو يومين

وهذه الظاهرة تفسر ظاهرة أخرى لا يفطن إلها كثير من الناس

وبيان ذلك أن الصحافة العراقية لا تملك حرية التعبير في كثير من الأحيان

والذى تصل إلى أذنه أخبار القيود التي تعانيها للصحافة العراقية يتوهم أن العراق يعيش في ظل الجور والاستبداد والواقع غير ذلك . الواقع أن الحكومة العراقية تعرف الفورات التي تصطرع في أنفس الشبان ، وتعرف أنهم يتسامون إلى أغراض لا تتحقق في عام أو عامين ، فترى من الواجب أن تحمى أولئك الشبان من النزعات المتطرفة التي يخرج لهيبها من الجرائد والمجلات

والواقع أيضاً أن حرية الصحافة في مصر تؤذى كثيراً من أهل الشرق ، فهم يتوهمون أننا صرنا أعظم منهم لأننا نملك من الحرية الصحفية ما لا يملكون ، ولو أنهم تديروا المرفوا أن حرية الصحافة في مصر لا تؤذى أهل مصر إلا قليلا ، لأن المصريين عرفوا مصايرهم السياسية والاجتماعية منذ أعوام، وهم لا يستوحون الجرائد فى كل وقت، ولا ينزعجون حين يقرأون غرائب الاتهامات في

الجرائد والمجلات بفضل ما درجوا عليه من نقد الأخبار والأحاديث وهذا الذى أقوله يفسر الخير الذي قرأته في جرائد العراق منذ أسابيع، فقد أصدرت وزارة المعارف العراقية منشوراً يحرم على المدرسين أن يتعرضوا كثير الشؤون العلمية في ساحات الدروس

وليس في هذا المنشور شيء من الغرابة، لأن المدرسين ممنوعون من الخوض في السياسة في جميع البلاد، ولمن تأكيد هذا المعنى من وقت إلى وقت شيء يحتاج اليه المدرسون في العراق

قد سمتم أشياء كثيرة عن العراق في هذا الحديث، منها الجد الصارم ومنها المزاح المقبول ، اسمحوا لي أن أضيف إلى الصور السوالف صورة أجمل وأروع ، وهى اهتمام أهل العراق بأخبار أهل مصر وشغفهم بأن يسمعوا ما يسرهم عن هذه البلاد

فمن تقاليد الشبان والكمول في العراق أن يقرأوا المجلات المصرية وأن يستمعوا ما ياتى في الاذاعة المصرية ، ومنهم من يعرف تخطيط القاهرة وإن لم يرها مرسومة في خريطة لكثرة ما يتأثر بالأوصاف المبثوثة في الجرائد والمجلات

إن الشبان في العراق يتأثرون خطوات إخوانهم في مصر ويتمنون لهم المزيد من نعمة الصحة والعافية

فيا أبناءنا في المدارس المصرية ، تذكروا ، ثم تذكروا تذكروا أن لكم إخواناً فى الأقطار العربية والإسلامية ، وهؤلاء الاخوان يسألون منكم في كل وقت ، ويتمنون أن تتسع آفاق أذهانكم فتعرفوا أنكم لستم غرباء في الشرق ، وأن الفتى منكم إذا شرق وجد أهلا بأهل وإخواناً بإخوان

إن الشرق يدعوكم إلى أن تتعرفوا إليه كما يتعرف إليكم، فليكن من أمانيكم أن تزوروا الحواضر العربية والاسلامية وأن تعقدوا صلات المودة والاخاء مع إخوانكم في الشرق

تذكروا يا أبناءنا في المدارس المصرية أن الوطني الصادق هو الذى يخلق لوطنه صداقات و مودات ، فكونوا أوفياء لهذه المعاني في خدمة الوطن الغالي والله يتولا كم برعايته ، ويسبغ عليكم ثوب العافية في العزائم والضمائر والعقول مصر الجديدة

اشترك في نشرتنا البريدية