حينما هبطنا الشاطئ الأوربى فى منتصف أغسطس ، كان ثمة شعور من التفاؤل يبدو فى كل مكان . وكان ثمة أمل يلوح ىي الأفق بأن الأزمة الأوربية التى أثارتها ألمانيا حول مسألة دانزيج والممر سوف تحل بالمفاوضة والتفاهم . ولم تك ثمة بوادر تدل على أن العاصفة توشك أن تنقض بمثل هذه السرعة الصاعقة ؛ وكان كل ما يزعج الرأى العام الأوربى هو الاستعدادات الحربية العظيمة التى تقوم بها ألمانيا حول الحدود البولونية . غير أنه كان يخفف من هذا الانزعاج الاعتقاد بأن ألمانيا - جريا على سابق خطتها - إنما ترمى إلى الضغط على بولونيا والدول الديمقراطية لتفوز بتحقيق غايتها دون حرب ، على نحو ما وقع فى أزمة سبتمبر الماضي .
ولم نلاحظ مدى الأيام القلائل التى قضيناها فى سويسرا شيئا من الانزعاج ، ففى جنيف كان الهدوء يسود كل شىء ؛ وكانت المدينة الباسمة التى أسبعت عليها عصبة الأمم طابعا سياسيا خاصا ، تموج بالزائرين من كل صوب من عشاق بحيرتها وسحرها ، وتسطع بالليل كاللآلئ المنيرة ؛ وكانت زيوريخ عاصمة سويسرا الصناعية مشغولة بمعرضها القومى ، تموج بآلاف الوافدين عليها لزيارته . وكانت أمارات الرضى تبدو فى كل مكان على هذا الشعب النشط الرغد . ولكن الشعب السويسرى مع ذلك كثير اليقظة ، يتتبع الموقف الدولى بعناية ، وينظر
إلى حركات ألمانيا بكثير من التوجس . وقد سمعت من أستاذ سويسرى كان زميلى فى السفر فيما بين لوزان وجنيف ، أن سويسرا ليست مطمئنة إلى سير الأحوال الدولية ، وأنها على قدم الأهبة ، ولا سيما من ناحية الحدود الشمالية ، وأنها ترتاب كل الريبة فى نيات ألمانيا ومقاصدها ، وتزمع أن تقاوم الاعتداء عليها بكل ما وسعت . وأنذرنى سائق السيارة التى اقلتنى إلى المحطة ، حينما علم أنى أقصد السفر إلى برلين ، بأن الأخبار الأخيرة لا تدعو إلى الاطمئنان ، وأن شبح الحرب يلوح قويا فى الأفق . وقد كانت الصحف السويسية الصادرة فى مساء اليوم وهو يوم ٢١ أغسطس تؤيد فى الواقع هذا التشاؤم .
ولما وصلنا إلى محطة انهالت (برلين) فىصباح يوم الثلاثاء ٢٢ أغسطس كان كل شىء عاديا ، ولم يك ثمة ما يلفت النظر سوى شىء واحد ، هو صدور الصحف الألمانية هذا الصباح بعناوين ضخمة بارزة عن مشروع الميثاق الألمانى السوفييتى ، وعن سفر وزير الخارجية فون ريبنتروب إلى موسكو لتوقيعه ، وكان هذا أول نبأ نشر عن هذا الميثاق . وكانت مفاجأة لها فى الجماهير أعظم وقع ، وكانت الدهشة تعلو وجه كل قارئ . ولا غرو فقد لبث الشعب الألمانى أكثر من ستة أعوام يسمع من زعمائه وقادته أشد المطاعن والتهم فى حق حكومة
السوفيت وزعمائها البلاشفة ؛ وقد ذكرهم هتلر فى كتابه "كفاحى" بأشنع النعنوت ووصفهم بأنهم مجرمون لوثت أيديهم بالدماء ، لا شرف لهم ولا ذمام ؛ وما زال إلى أشهر قلائل يحمل عليهم فى خطبه أقسى الحملات . فما هو السر فى هذا التحول العجيب فى سياسة الزعيم ؟
كانت أمارات التساؤل تبدو على جميع الوجوه ، ولكنه تساؤل فى صمت وذهول واستسلام ، فلا كلمة ولا ملاحظة إلا همسا وفيما بين الجدران ، حيثما كانت تسنح لنا فرص الحديث مع الألمان القلائل الذين يخاطرون بالكلام معنا . ذلك أن الشعب الألمانى ليس له أن يتكلم أو يلاحظ ، وعليه فقط أن يستمع وأن يطيع ؛ والواقع الذى يلفت نظر الزائر الأجنبى بنوع خاص هو أن الشعب الألمانى يكاد يعيش فى عالم وحده ، وأن " الرجل العادي " لا يعرف شيئا عما يدور خارج ألمانيا ، وليست لديه أية فكرة صحيحة عن موقف الدول الأخري وتصرفاتها ، ولا يعرف من ذلك إلا ما تقدمه إليه الصحف الألمانية من صور وأنباء تباعد الحقائق المعروفة . والصحف الألمانية - وهي تعد بالآلاف - تصدر فى ظل النظام الهتلرى فى أوضاع واحدة ، ولا تكاد تختلف محتوياتها فى الشئون العامة الداخلية والخارجية فى شىء ، سواء من حيث التحرير واللهجة ؛ وإنك لتقرأ فى اليوم الواحد الصحيفة بعد الصحيفة فلا تقع على جديد مطلقا ، وكل محتوياتها وتعليقاتها فى جميع المسائل الهامة من وضع وزارة الدعاية ، وهى جميعا صورة واحدة فى جميع أنحاء ألمانيا ، وهى جميعا سخيفة مملة بما تغرق فيه من صنوف الارجاف المنظم والدعاية المتماثلة . ففي الفترة التي تقدمت نشوب الحرب كانت انكلترا مثلا تقدم إلى الشعب الألمانى فى صورة عدو خطر يتحرش بألمانيا ويعمل على تطويقها ويحرض خصومها عليها ، وأنها تقف حجر عثرة فى سبيل أمانيها القومية ، وتشجع بولونيا على موقفها العدائى ، ثم تقدم إليه فى نفس الوقت كدولة شاخت ولحقها الوهن ، وأنها لن تجرؤ بأى
حال على محاربة ألمانيا أو الوقوف فى وجهها . وفرنسا تقدم إليه فى صور مماثلة ، وأنها عدو ألمانيا التاريخى الذى يجب سحقه . وبولونيا تقدم إليه فى صورة أمة همجية تنكل بالألمان وتمعن فيهم قتلا وتعذيبا ، ويجب الانتقام العاجل منها . والصحف الألمانية تمعن فى نشر هذه الأراجيف باستمرار ، ولا تنقطع محطات الاذاعة بالنهار أو الليل عن تكرارها . والألمانى المستنير لا يكاد يؤمن بشىء منها . وقد سمعت من كثيرين أنهم لا يعتقدون فى صحة شىء من هذه الأراجيف . وذكر لى شخص مثقف أنهم يقدرون أن عشرة فى المائة فقط من هذه الاخبار يمكن تصديقها . ولكن "الرجل العادى" يقبل على سماعها ويعلق عليها ، وعلى هذا " الرجل العادى" الساذج المستسلم يعتمد هتلر ونظامه قبل كل شىء .
أما الوقائع والتطورات الدولية الهامة فلا يكاد الشعب الألمانى يعرف شيئا عنها . فهو مثلا لم يعرف شيئا عن موقف انكلترا وفرنسا خلال الأزمة ، ولا عما دار فى البرلمان البريطانى ولا عن تصريحات مستر تشمبرلين فى إصرار انكلترا على تأييد بولونيا . ولم يعرف شيئا عن تصريح السنيور موسولينى فى مساء أول سبتمبر بأن إيطاليا لن تدخل حربا اعتدائية ، وستحتفظ بحيدتها ؛ بل لم يعرف شيئا عن البلاغ النهائى الذى وجهته انكلترا وفرنسا إلى ألمانيا فى نفس اليوم ، ثم عن اعلان حالة الحرب ضد ألمانيا من جانب انكلترا وفرنسا على أثر انتهاء مدة البلاغ النهائى فى يوم الأحد ٣ سبتمبر . أجل لم يعرف الشعب الألمانى شيئا عن هذه الأحداث الجسام إلا بعد ذلك بأيام . ولم يعرفها فى حينها إلا القلائل ممن أتيح لهم الاستماع إلى الاذاعة الأجنبية أو سمعوها من بعض الأصدقاء الأجانب . أما الصحف الأجنبية فلم يكن يرد منها إلاكميات قليلة جدا . وكان من أشق الأمور علينا خلال الأزمة أن تحصل على جريدة انكليزية أو فرنسية فى وقتها . وفى اليوم الذى تصادر فيه الصحف الأجنبية - وهو كثيرا ما يحدث -
يرد علينا دائما بأنها نفدت ولم يبق منها شىء .
وقد شعرنا ونحن نتلو نبأ عقد الميثاق الألمانى الروسى بأنه يخفى وراءه بعض الأحداث الجسام ، وشعرنا فى الوقت نفسه بأن الحكم قد صدر على بولونيا ، وبأن العاصفة يوشك أن تبدو نذرها رغم هذه السكينة الظاهرة . ولم يمض يومان على ذلك حتى تم توقيع اليثاق وأذيعت نصوصه ، وأخذت الصحف الألمانية ومحطات الإذاعة الألمانية تفيض فى وصف هذا الانتصار الدبلوماسى الباهر الذى أحرزته " الريح " على الدول الديمقراطية ، وتنوء بقيمة الصداقة الجديدة . ونشرت الصحف الألمانية خريطة روسيا ، وبدأت لأول مرة منذ قيام الحكم النازى تتحدث عن مواردها العظيمة وتشير من طرف خفى إلى أن ألمانيا
تستطيع عند الحاجة أن تعتمد على هذه الموارد . وظهرت الصحف الروسية لأول مرة عند باعة الصحف . ولكن ذلك كله لم يبدد ما أحاق من الغموض بهذا التحول الفجائى فى سياسة الهتلريين . وكانت أرجح النظريات فى تفسير هذا التحول هو أنه وقع بناء على ضغط " الريخسغر" (الجيش الألمانى) وأن " الريخسغر " لم يغفر قط لهتلر أنه أغضب روسيا وأثار عداوتها لألمانيا بحملاته المغرقة عليها ، وأنه دفعه إلى استعادة صداقتها ، حتى إذا نشبت حرب بين ألمانيا وخصومها أمكنها أن تقائل فى جبهة واحدة وأن تكفل بمصادقة روسيا سلامتها فى الجبهة الشرقية ؛ وعلى أى حال فانه لم تمض سوى أيام قلائل حتى ظهرت طلائع العاصفة التى سرعان ما انقضت على بولونيا .
