الثقيت - مصادفة - في صباح يوم الجمعة الماضي ، بصديقي الشيخ العجوز ، يسير الهوينا في ميدان المنشية ، تحت أسوار القلعة ، بخطوات وتيدة هزيلة . وقد هم بصعود المنحدر المؤدي إلى منزله ، بحارة عبد الله بك . سألته عن حاله ، فقال : الحمد لله على كل حال .
قلت : أراك مطرفاً تفكر . قال : نعم . أفكر يا صديقي في زمان ، وأيام زمان ، وناس زمان ؛ أفكر في أولاد رشيد ، أولاد العز ؛ وقد كانوا يسكنون هنا ، في شارع المحجر ، على بعد خطوات منا . أين هم ؟ لقد ذهبوا . أفكر في رحلاتي معهم إلى الجبل للصيد والقنص ، وفي ذهابنا معا لمشاهدة مسابقات الفروسية في صحراء العباسية . أفكر في حلقات رهان الديكة هناك تحت جدران جامع السلطان حسن ، وفي " غيات " الحمام ، و . . و . . .
قلت : كفي . أراك توجز في حديث طالما ثاقت نفسى إلي سماعه منك مسهباً ؛ إنها فرصة . تعال معي . وسحبته من يده ، وجلسنا علي مقهى يطل على ميدان المنشية الجميل الفسيح ، فطلب " شيشة " وطلبت قهوة وقلت له : هيا . هات ما عندك عن الماضي ، فوقتنا يتسع " للدردشة " الطويلة .
قال : سمعاً وطاعة . ثم اطمأن في جلسته ، ووضع رجلا على رجل . وطفق يحدثني عن زمان ، وأخبار زمان ، مدة ساعتين ، حديثا هادئا ، طريفاً ، فيه تسلية وعبرة .
قال : أما أولاد رشيد فقد كانوا خمسة إخوة . أصغرهم لم يكن - عندما عرفتهم - قد جاوز الثلاثين . وأكبرهم كان قد أربي على الخمسين . وكانوا من أولاد الذوات الأمجاد . حياهم الله بالصحة ، وجمال الوجه والصوت ، وصفاء النفس ، وطيبة القلب . وكانوا يسكنون قصراً من قصور المماليك ، واسع الأرجاء ، كثير الأثاث والرياش .
وكان منزلهم هذا بمثابة منتدي يجتمع فيه في الأمسيات ، صفوة من أهل حي الدرب الأحمر ، من أصدقائهم والمقربين . وكنت كلما زرتهم استقبلوني " بالحضن " واستبقوني عندهم حتى موعد الطعام . فإذا ما حان وقته ، جلسنا على الكراسي حول صينية كبيرة من المعدن المدهون بمختلف الألوان ، تزينه نقوش من مناظر وصور ، وتقدم لنا أطباق الاكل الشهى من أرز ولحم وخضار وحلوي . فإذا انتهينا من الطعام دعوني إلى " المندرة " لشرب الشاي الصيني للمعطر ، في جو عبق ببخور العود والصندل .
وكنا في بعض أيام الجمع ، بعد الغداء ، نقصد صحراء العباسية لمشاهدة سباق الخيل والمطاردة ( البرجاس ) . فيركب بعضنا مع عبد الله بك - الأخ الأكبر - في " دوكاره " وبعضنا الآخر مع أحمد بك - الأخ الأصغر - في " فيتونه " . وكانت هذه الأيام في القاهرة ، تعد من الأبام المشهودة . فيزدحم الناس حول حلية السباق ، ويكتظ بهم الميدان ، لا فرق بين خاصتهم وعامتهم ، ولا بين كبيرهم وصغيرهم ؛ فيقف الجميع في صفوف لمشاهدة المباريات ، والجياد المتسابقة . وقد ركبها أصحابها الهواة من علية القوم ، وطبقات الشعب ، و اتزينت سروجها وألجمتها بخيوط الفضة المذهبة ، ورءوسها ورقابها بالأحجبة المغلقة بصفائح الفضة والذهب .
ثم قال : ومن جميل ما يستحق التنويه بهذا الصدد ، أن المتسابقين كانوا كلما زاد الجمهور في إطرائهم ، والإعجاب بألعابهم ، ارتفعوا بها إلى مستو عال من الفنية والدربة والإبداع ، مع الحرص على الآداب العالية ، والمظهر الراقي . وكان هذا المشهد يثير فينا ، نحن المتفرجين ، النخوة والاعتزاز . ويعيد إلى أذهاننا ذكري مظاهر الفروسية في مصر على عهد سلاطين المماليك وبعد أن تمهل قليلا استطرد يقول : أظنك يا صديقي
لا تجهل أني كنت في شبابي من هواة الصيد والقنص . قلت : بلى كيف أجهل ذلك ؟
قال : إذاً استمع لهذه القصة : خرجت مع أولاد رشيد في شتاء عام ١٩٠٨ في رحلة إلى جبل للمقطم لصيد الأرنب والغزال . فأقما مخيمنا تحت قلعة العز بوادي دجلة وفي فجر اليوم التالي غادرنا الوادي ، واتخذنا طريقنا فوق الهضاب ، وفي الأودية ، متوغلين شرقا ، لا تتبع طريقاً معينة . وكان في القيادة حسن بك - الأخ المتوسط - وهو صياد ماهر ، خفيف الجسم ، رشيق الحركة ، بصير بالصيد وضروبه . وبعد قليل أقبلنا على واد وافر العشب . فأبصرنا أرنباً يقطع عرض الوادي بسرعة البرق ، يتلوه ثان وثالث ؛ وفي لمح البصر اختفت وراء الصخور ، وكان لمنظرها وهي تعدو آثر مدهش في الجماعة ، فاندفعوا وراءها لا بلوون على شيء ، وفي المقدمة حسن بك ينهب الأرض نهبأ كأنه الجواد في حلبة السباق . وفي لحظات توسطنا الوادى وبدأت المطاردة ، وما إن رأتنا الأرانب حتى قفزت إلي وهدة . ثم مرقت كالسهم إلى أخدود . ثم تسلقت الجبل ، ونحن في إثرها نتبعها من غير هوادة ، نرتقي الهضاب ارتقاء ، ونلقي بأنفسنا من الجبال إلى السهول إلقاء . وإشارات القائد تفذف بنا يميناً أو يساراً ، طوراً مقبلين ، وطوراً مدبرين ، مرة في صياح وجلبة ، ومرة في حذر وسكوت ، تارة تعلو ، وتارة تهبط . وهكذا كانت تستمر المطاردة ساعات متواليات ، والحيوان التعس ينتقل من ساحة إلى ساحة طالباً النجاة وراء الصخور ، وفي الصدوع ، وفوق الربا ، وتحت الأرض . ونحن نحاول دفعه إلى السهل ، وهو بأبي إلا الوعر تقوده غريزة البقاء ؛ فإن أخطأ المسكين التقدير ، وحم القضاء ، ضاق النطاق ، وعز الفرار . وتلفقته نيران البنادق من كل صوب ، فيخر صريعاً ، ضارباً اعلي المثل في الزوغان ، والعناد ، والصبر على الجهاد .
قال : وقد بلغت حماسة القوم في المطاردة هذا اليوم حد الجنون ، وكاد يقضي علي أحدنا وهو أحمد بك بالموت على ابشع صورة ، فقد اندفع وهو مأخوذ وراء غزالة ؛ فجرت الغزالة إلى جرف صاعد في جدار الجبل . فلحق بها ، وأطبق عليها ، ولكنها أفلتت منه . فانطلق وراءها يجري . فانهار الجرف من تحته ، وهوى بجسمه من شاهق . فتشبث بصخرة ناتئة ، وأصبح معلقا بين السماء والأرض .
لحظة رهبية مرعبة ، ولولا أن ملك الجماعة زمام عقولهم وتصرفوا بما يستلزمه الموقف من بديهة حاضرة ، وهمة عالية ، لسقط أحمد بك في الهاوية ، ولا أدري الآن . وقد توالت الحوادث إذ ذاك بسرعة مدهشة كيف تسنى للرفاق أن ينتشلوا زميلهم من ورطته ، وعلى كل حال فقد انتهى الحادث بسلام ، وعادت الجماعة إلى ما كانت فيه من مطاردة الأرانب .
وعند هذا الحد من القصة . سكت صاحبي ثم تنهد وقال : والله أيام ولت فهل تظن يا رفيقى أن لها عودة . فقلت : أطال الله لنا في عمرك . استمر .
فقال : الشئ بالشئ يذكر . هل تحب أن تسمع حكاية داوود باشا . قلت : بلى كل أحاديثك مسلية . قال : عرجت مرة في مستهل هذا القرن على مدينة قنا لزيارة قريب .
فوجدت عنده تاجراً من أهل قنا اسمه . على ما أذكر الشيخ أحمد السيد ، فروي لي عن والده القصة الآتية : قال الوالد إنه في صغره شهد حق حفلا كبيراً أقيم في ساحة مولد سيدي عبد الرحيم القنائي . حضره مدير الإقليم داوود باشا ، وجمع غفير من أعيان البلاد ومشايخها ، ونزل الهوارة كعادتهم في كل عام إلى الساحة على متن جيادهم يعرضون ضروباً من الفروسية . من كر وفر ومطاردة ، واللعب بالسيف ، ثم مثلوا معركة حربية بالسيوف والبنادق فتاججت الحماسة لهذا المشهد ، في صدور الحاضرين ، واستفز منظرها داوور باشا - وكان رجلا عسكرياً - فتقلد سلاحه ، واعتلى صهوة جواده ومرق إلى الساحة يتبعه حرسه الخاص ، وكان مكونا من أربعمائة فارس ، واشترك هو وجنوده في الألعاب والعرض . فاغتبط القوم لهذه المشاركة من قبل الحكومة في اكبر مولد يقام في عاصمتهم قنا . وأخذتهم نشوة من الفرح . فراحوا يهللون المتبارين من الطرفين واشتد بهم الحماس ، في هذا اليوم ، لدرجة لم يعهدوا لها مثيلا ، ولم يكد يمضي إلا بعض الوقت على هذا الفرح الشامل ، حتى حصل ما لم يكن في الحسبان ، فقد استبد المتنافس بالحشد والهوارة ، ونسوا أنفسهم ، وأفلت زمام الموقف من يد رؤسائهم . فتحولت المباراة إلى تحاسد جر إلى عراك . فنشبت بين الفريقين معركة حقيقية بالبنادق
والسلاح الأبيض . استبسل فيها الفريقان . وهب أنصار الفريقين للنجدة فدب الذعر بين المتفرجين ، وساد الساحة هرج ومرج شديدان ، وهم علية القوم بالفرار للنجاة بأنفسهم من رصاص البنادق ، وكاد الحال ينقلب إلى مأساة مروعة . فولا أن تدارك الأمر داوود باشا بحزمه وشدته . فهدأت النفوس ، وعادت المياه إلى مجاريها ، وقد فقد الجند ثلاثة من القتلى ، وفقد الهوارة أربعة آخرين وبعض الجرحي .
ثم استطرد يقول : انظر هكذا كان حكامنا في الزمن الماضي يشاركون الشعب ويندمجون في روحه .
فقلت : يا شيخ ! اتقي الله . هل نسيت المظالم ؟ قال : هكذا أنتم ، تصدقون ما يقوله هؤلاء الدخلاء الأجانب من ترهات وإفك ، إنهم يشوهون ماضينا لغرض في نفوسهم . قلت : حكاية أخري من فضلك .
قال : على العين والرأس . سأحدثك عن الفتوات ، ولن أطيل : في أمسية الليلة الختامية لمولد سيدنا الحسين عام ١٩٠٥ ، بينما كنت جالسا على قهوة ( كتكوت ) في ساحة المولد أتناول فنجاناً من القهوة ، وأتفرج على الجموع الزاخرة ، من الزوار الوافدين من مختلف جهات القطر ، إذ أبصرت الناس على حين فجأة ، يتدافعون مذعورين ، وهم يحاولون الفرار صوب منافذ الشوارع والحارات ، فوقفت على كرسي استجلي الأمر ، فرأيت عراكاً عنيفا ناشباً في طرف الساحة بين فتوات الدراسة بقيادة زعيمهم المدعو ( كسلا ) .
وفتوات باب الشعرية ، استخدم فيه الطرفان العصى والرءوس والسواعد و " البونيات " ، وبعد قليل انسحب فريق باب الشعرية إلى شارع خان جعفر ، ثم إلى ميدان بيت المال . أمام قسم الجمالية ، حيث تجدد العراك بصورة أشد وأقسى ، لوصول نجداث قوية لكلا الطرفين ، وضاق الميدان على اتساعه بأنصار الفريقين ، فالتجأت إلى مبني القسم ، فوجدت منسفلد باشا ، حكمدار العاصمة في ذلك الوقت ، يطل من نافذة على ميدان المعركة وهو ثأئر ، تتزاحم في فمه الأوامر لرجال البوليس ، الذين وقفوا عاجزين لاحول لهم تجاه إصرار الفتوات ، وشدة بأسهم ، وفي دقائق معدودات انتهت المعركة باندحار فريق باب الشعرية
وانسحابه من الميدان ، فالتفت الحكمدار إلى الضباط الذين كانوا حوله . وقال يخاطبهم بصوت عال : بصفتى ضابطاً ، اشترك في كثير من معارك السودان ، وجنوب أفريقية ، أشهد بأني لم أر مثل هذه المعركة في سرعنها ، وشدة قسوتها وبسالة الفريقين المتقاتلين ، كما أني لم أر من قبل مثل هذه البراعة في استعمال العصا كأداة للهجوم أو للدفاع ، وأشهد لزعيم فتوات الدراسة بالشجاعة ، وثبات الجنان ، وبالمهارة في التوجيه وتنظيم الصفوف . ثم أردف يقول : بالرغم من كل ما يقال عن خساسة شأن هؤلاء الناس ، والباعث لهم على هذه الاشتباكات الدامية ، فإني كرجل عسكري ، أقرر بأن ما شاهدته ، هذه الليلة من ضروب البسالة ، ليدل على الرجولة الكاملة ، كما يفهمها الرجل المحارب .
وبعد أن انتهى صاحبى من هذه القصة . نظر إلى ساعته والتفت إلي وقال : هيا بنا إلى المسجد لصلاة الظهر . قلت : وباقي الحديث ؟ قال : نرجئه لجلسة أخري إن شاء الله ، وكل آت قريب ؟
