تعتبر تربية النشىء وإعدادهم للحياة من أهم المسائل وأجدرها بعناية أولى الأمر وسواهم من المربين والكتاب؛ وتشعر مصر في نهضتها الحالية بشديد الحاجة إلى تقرير سياسة عامة تأخذ بها في تربية أبنائها، ذلك أنها قضت زمناً طويلاً تحت تأثير عوامل مختلفة امتد خطرها فشمل جميع نواحي الحياة، وفي مقدمتها أمور التربية والتعليم، فقد احكمت الأغلال وأقيمت العراقيل في تلك الناحية الجوهرية من نواحي التقدم، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت سياسة التعليم عندا مهلهلة، وصارت ثقافتنا مذبذبة، وظلت مصر في لبس من الأمر تسير إلى غير قصد، ولا تستند في سيرها إلى مبدأ
لذلك يحق لنا أن نغبط بكل بحث في التربية يضطلع به من تأخذه الغيرة من أبناء مصر، ولقد اعتزمت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أن تضم إلى مجهوداتها المتنوعة في نشر الثقافة إصدار سلسلة من كتب التربية بين معرب ومؤلف، تحت إشراف الأستاذ اسماعيل القباني تحاول فيها كما جاء في مقدمة الأستاذ في هذا الجزء الأول من السلسة، (أن تبسط على التتابع النظريات والاتجاهات السائدة في عالم التربية في الوقت الحاضر، والأسس الاجتماعية والسيكولوجية التي تقوم عليها، وأساليب تطبيقها في نختلف الظروف والبيئات، ونتائج التجارب التي أجريت عليها) وغاية القائمين بهذا العمل الجليل أن يمهدوا السبيل لأن (تكون لنا فلسفة للتربية توفق بين أحدث الآراء في العالم من جهة، وأغراض النهضة القومية التي لاح فجرها في مصر من الجهة الأخرى)
وهذا الكتاب، الذي أحدثك عنه هو الحلقة الأولى من تلك السلسلة المباركة اضطلع بترجمته الأستاذ الجليل محمد عبد الواحد خلاف مدير إدارة الجمعية الخيرية الاسلامية، فأخرجه على الرغم من شواغله الجمة على خير ما يرجى من جمال سبك وحسن نظام
ولهذا الكتاب في موضوعه، وفيما انتهج من طريقة أهمية فريدة، ذلك أنه ليس من تلك الكتب التي تتناول موضوع التربية من ناحيته الجافة، ناحية النظريات العلمية المجردة التي تهتم بالقضايا دون الوقائع، أو بعبارة اخرى تهتم بمبادئ العلم دون من تنطبق عليهم تلك المبادئ من الاطفال، فان تلك الكتب النظرية في منحاها محصورة الفائدة ثقيلة في الغالب تتطلب من القارئ صبراً طويلاً، وجهداً كثيراً، لي يستخلص منها ما يرجو من فائدة، وإن كان ما يصيبه منها في النهاية معاقاً بقواعد العلم أكثر منه بغايته
وإنك لتستبين روح الكتاب من عنوانه، فمؤلفته تنكر النظم المدرسية التقليدية، وتعتقد أننا نضحي بأولادنا ونعاملهم كما لو كانوا أعداءنا بالقائهم في تل الأبنية التي هي أشبه بثكنات الجند، حيث يكتنفهم جو خانق بغيض من قوانين ونظم، يؤخذون بها أخذاً في كل صغيرة او كبيرة من حركاتهم، وحيث يجرعون من مواد الدراسة مالاً غنية فيه من معلومات يسأمونها وفنون من القول والعمل يساقون اليها في طرق عسكرية، توبق أرواحهم، وتطمس على قلوبهم وتغل نشاطهم، وتحول بينهم وبين الاستقلال الشخصي والنبوغ الذاتي
ولن تقف المؤلفة في كتابها موقف الهادم، بل إنها تسلك طريقة إيجابية، فتعرض على القارئ كثيراً من التجارب العملية في بعض المدارس الحديثة بأمريكا ومبلغ نجاحها، وما أنتجه من أثر في تغيير وجهة التربية تغييراً يمهد السبيل لناء هذا العلم من جديد على أسس عملية، تحل مشاكله وتضمن للطفل ما يرجى له من سعادة، وما يرجى منه للمجتمع
وتلك الروح العملية هي الميزة الفذة لهذا الكتاب التي سبق أن أسرت اليها، فهو خلاصة تجارب مربية متحمسة لمبدئها
عاملة على إسعاد الطفل وإعداده لحياته خير إعداد. وهذه الميزة فضلاً عن عظيم فوائدها قد خلصت الكتاب من روح السأم وأنجته من الثقل، فأنت تطالعه في تشوق واستمتاع، وتقف منه على أمور كثيرة شيقة، كاستخدام مقاييس الذكاء واستكشاف الفرد، والسير وراء الطفل، وحالة بعض المدارس التجريبية، ومدارس العمل مع الدراسة واللعب، وتجارب بعض أساطين التربية في مختلف مراحل التعليم وسواها من المسائل العملية
والأستاذ المترجم بطويل خبرته، ونافذ بصيرته، وضلاعته في الانجليزية، كفيل بان يحفظ للكتاب روحه في لباسه العربي، وأنا وإن أقرأ الأصل، أحس من دقة الأداء ومن سهولة الفهم واستواء التراكيب العربية، على بعد ما بين اللغتين من الاختلاف في البناء والأسلوب، أن التعريب قد تم على خير ما يرجى اتباعه في تناول مثل هاتي الكتب الدقيقة، فاذا أضفت الى هذا أن الاستاذ خلافا متحمس لهذه النظرية، كثير الترديد لها في أحاديثه كلما تطرق الحديث الى نقد التربية في مصر، أيقنت معى أنه خير من يضطلع بنقل هذا الكتاب الى لغتنا
وإني لعظيم الغبطة، إذ أقدم هذه الحلقة الأولى، أو هذه الباكورة الطيبة من سلسلة التربية، الى جمهور المربين والمدرسين وعامة القراء، شاكراً للأستاذ خلاف حسن اختياره وحميد مجهود
