( يا لها من سبحة منكرة فى الصحراء)
فى هذا الأسبوع كنت اقرأ فى كتاب " فى صحراء ليبيا " لمؤلفه الرحالة المرحوم أحمد محمد حسنين باشا، فلفت نظرى العبارة الآتية :
" . . وعند الظهر اجتزنا علم " جبيل الفضيل " . وهذا العلم شأنه شأن أكثر أعلام الصحراء . يحمل اسم من فقد حياته بالقرب منه . تذكارا له - كان الفضيل من خيرة أولاد الصحراء. وبينما كانت قافلته فى طريقها من " جالو " (١) إلى " الكفرة " قامت عاصفة شديدة ، صفت الرمال فى وجه القافلة، واذت عينى الفضيل كثيرا ،
فعصيها. ولم يستطع رؤية الطريق . بل اعتمد على وصف من كانوا معه، للأعلام التى مروا بها . ولكنهم كانوا قليل الخبرة، فأخطأوا آبار " الظيفن ". وحاولوا الانحدار إلى الكفرة، ولكنهم ضلوا فى الصحراء ، وفنيت القافلة ،
إلا جملا واحدا، غالب أن يرجع إلى الكفرة، لقوده غريزته التى لا تخطئ ، فوسلها، وعرف سكان الواحة ، أنه من جمال الفضيل ، بما على عنقه من وسم، وقامت قافلة لتجدنه، فتبعث أثر الجمال فى الصحراء . ولكن الوقت كان قد فات ، فإنهم عثروا بجثث الرجال . متصلبة فوق صعيد الصحراء" .
ولم أكد انتهى من قراءة هذه العبارة حتى انتفض جسمى واهتزت مشاعرى وتذكرت على الفور حادثا متشابها لهذا وقع لنا فى نفس هذه الصحراء فى ربيع سنة ١٩٢٥ ونحن فى طريقنا إلى الواحة البحرية .
لم أكن فى ذلك الوقت حديث عهد بالصحراء ، بل كنت قد طوفت فى كثير من أرجالها، وبلوت مشقاتها ومتاعها ومكارهها . ولكن هذا الحادث كان أشدها على نفس وقعا وإيلاما .
فقد حصل، بعد أن توغلنا فى الصحراء مسيرة يومين . أن أصيب دليل القافلة وقائدها الحاج مصطفى بمرض شديد أعجز، عن متابعة السير، فترك قيادتها لوكيله الشيخ نوفل ، وركب هو أحد الجمال فى المؤخرة . وكان الشيخ نوفل طاعنا فى السن ، ضعيف النظر .
وكان من عادة القافلة أن تسير معظم الليل، وتستريح معظم النهار. وقد حدث فى تلك الليلة المشئومة أن اختلط الأمر على الشيخ نوفل فخاد عن الدرب، ودخل بالقافلة فى تبه عظيم من غرود الرمال ، ولم ينتبه أحد من قادة الجمال الآخرين لهذا الخطأ، لعتمة الليل وتشابه المسالك، ولحداثة عهدهم بالصحراء ، فأوغلت القافلة بين كثبان الرمال،
وبقينا نضرب فى هذا التبه، على غير هدى، حتى ضحى اليوم التالى، حينما اعترض سيرنا واد عميق، وتقدم الشيخ نوفل ليستطلع الوادى - وهنا كانت وقفة لا أنساها ماحببت - فقد شاهدت الرجل يقف على حافة الوادى، ويتطلع إليه مليا، ثم ينقلب إلينا مهرولا مذهورا كالمجنون. وهو يصيح بصوت أجش مختوق : لقد ضللنا الطريق يا حاج مصطفى ،
كانت صيحة منكرة، اتحلمت لها قلوبنا، وعلمت لها نفوسنا، وكانت تجن لها عقولنا. صيحة معناها فى الصحراء الموت على أبشع صورة ، واستيقظ الحاج مصطفى - وكان لا يزال محمولا على الجمال - على صباح الشيخ نوفل ، فقفز عن ظهر البعير كالخيول ، وجسمه يرتجف من شدة الحمى، واندفع نحو الوادى يجر جسمه جرا .
وعلى حافة الوادي وقف هو الآخر . ونظر إليه نظرة فاحصة ، ثم ارتمى على الأرض وأخذ يندب سوء المصير، متوعدا وكيله بأشد أنواع العقاب . وأصاب الجمالة مس من الجنون . فهاجوا وثاروا ، وأخذوا يسبون بعضهم
بعضا، ويكيلون للشيخ نوفل أقذع السباب واللعنات، ثم اشتبكوا فى مشاحنات وعراك، واستمروا هكذا نحو ساعة، حتى استفرغت أعصابهم الهائجة حدثها، وهدأت، فسكنوا واستسلموا للقدر، وأفاق الحاج مصطفى من هول الصدمة وتذكر واجباته نحو القافلة كقائد لها ودليل، فتجلد وتقوى، ودعانا حوله واعتذر إلينا عما حصل، وطمأننا على السلامة، ثم وقف فجأة، وقد تقلصت عضلات جسمه، وتجهم وجهه، وجمدت عيناه، وأشاح بوجهه نحو السماء كمن يستلهم العونة وسداد الرأى والهداية .
وبعد أن مكث على هذه الحال نحو دقيقة، لا يتكلم ولا يبدى حراكا كأنه فى غيبوبة، عاد إلى حالته الطبيعية، وقد زال عنه الاضطراب والقلق، ثم قال: إنه قد أصبح منهوك القوى ضعيفا، وإن رأسه يلف لايقوى على تعيين الاتجاهات، ولهذا فقد عول على تسليم قيادنا لبعيره الخاص . وقال وهو يقدمه لنا: إنه بعير أصيل، ولد فى هذه الصحراء ونشأ فيها، وإنه جربه فى أسفاره السابقة فى الصحراء. فكان بعيرا موهوبا، يهتدى من تلقاء نفسه إلى عيون الماء، ولو كانت على مسيرة خمسة أيام، فتقبلنا قراره بالإذعان والتسليم، فلا حول لنا ولا حيلة ولا عنه محيص، ثم عاوناه على ركوب البعير، فاستلقى على ظهره كما كان، بعد أن أرخى للبعير الزمام.
وشخصنا بأبصارنا إلى دليلنا الجديد، وأملنا المرتجى فى النجاة، تتتبع حركاته وسكناته بلهفة واهتمام، ونظرت إلى البعير فرأيته مرفوع الرأس، شامخ الأنف، يجول بعينه فى جميع الآفاق، وقد بدا عليه الجد وقوة العزم، ولما صدر الأمر بالمسير على بركة الله، تقدمنا البعير وحده، حرا طليقا، فسار الهوينا على حافة الوادى نحو ساعة، ثم وقف ووقفنا. ورفع رأسه عالية وأخذ بشم الهواء بشهيق عميق، ثم تحول نحو الشمال، وأوغل بين كثبان الرمال، وبعد نحو ساعتين وقف مثل وقفته الأولى وشم الهواء، ثم اتجه نحو الشمال الغربى، وأخذ يهرول، والجمال الأخرى فى إثره تتبعه كظله، لا تحيد يمنة أو يسرة، عالمة بما نحن فيه من حرج وشدة .
وتابعنا السير فى هذا اليوم من غير توقف، ونحن فى غم وهم لا ندرى ما خبأه لنا القدر، مستسلمين لحيوان أعجم، يقودنا منذ الصباح حيث شاء، من سهل إلى نجد، ومن نجد إلى سهل، فى فيافى صحراء شاسعة واسعة جرداء لا نبات فيها ولا ماء .
وقبيل الأصيل خرجنا من منطقة القرود، ثم أخذنا نرتقى هضبة، وعند الغروب - وقرص الشمس يحتجب وراء الأفق البعيد - فى تلك الساعة - وقد أدير النور، وأقبل الظلام - كنا نجاهد للحياة جهاد اليائس البائس، قد حفيت أقدامنا، وجفت حلوفنا، وكلت أجسامنا، وعميت أبصارنا، وأظلمت نفوسنا، وأحاق بنا الكرب من كل جانب، تتبع البعير خطوة خطوة، من غير أن يكون لنا إرادة أو عقل أو تفكير - فى تلك الساعة كنا قد بلغنا سطح الهضبة، وانكشف أمامنا السهل من تحتنا. فأبصرنا شريطا طويلا أبيض يمتد عرض الصحراء من الشرق إلى الغرب، ولم تكد الجماعة تتبينه حتى هاجوا وماجوا وصاحوا وهللوا وكبروا، وفاض بهم الفرح، فبكوا للنجاة والخلاص - إنه الدرب الذى أضاعه الدليل منذ أن حل مساء الأمس - ثم تدافعوا مقبلين على البعير يقبلونه، ويتبركون به، وعلى الحاح مصطفى يقبلون يديه ورأسه .
وأدرك البعير أنه قد أنجز مهمته، فبرك على الأرض ليستريح.. والله در شوقى حين قال :
كم فى الحياة من الصحراء من شبه
كلتاهما فى مفاجأة الفتى شرع
وراء كل سبيل فيهما قدر
لا تعلم النفس ما يأتى وما يدع
ولست تأمن عند الصحو فاجئة
من العواصف فيها الخوف والهلع
ولست تملك من أمر الدليل سوى
أن الدليل وإن أرداك متبع

