الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

طبيعة اللغة العربية ومستقبلها

Share

ننشر فيما يلى نص المحاضرة القيمة التى القاها الدكتور منصور فهمي كاتب سر المجمع اللغوي بالقاهرة بمناسبة انعقاد الدورة الرابعة والعشرين ( ١٩٥٧-١٩٥٨ ) وقد حضرها أعضاء مؤتمر أدباء العرب الذي انعقد منذ أشهر بالقاهرة

ونحن إذ نطلع قراءنا بتونس خاصة على هذه الكلمة فانما نرمي من وراء ذلك الى دعوتهم الى التفكير فى طبيعة اللغة العربية وفي ما تستهدف له اليوم من مشاكل وتسعى اليه من أهداف سامية ، وكذلك في مؤسسة المجمع اللغوي نفسها ومبررات وجودها . ونرجو بهذه المناسبة ان لا يطول أجل تاسيس مجمع لغوي بتونس كي نقوم بقسطنا في خدمة اللغة والآداب والعلوم العربية ونصل الحاضر بماضينا المجيد

الفكر "

. . وبعد فقد ابيح لنفسى اعترافا احب الا اخفيه عليكم - ايها السادة - ذلك ان هذا الشهر من كل عام يدخر لى اسبوعا فيه لنفسي بواعث للغبطة واخرى للقلق فأما الغبطة فمرجعها الى رؤية وجوه حبيبة توالى اجتماعاتنا الموسمية وتشاركنا في احتفائنا بافتتاح ندوتنا المجمعية ، وان بعض هذه الوجو " لزملاء أعزاء حملون لنا معهم نفحات زكية من الترابط بين أقطارهم الشقيقة وبين بلادنا التى تعتز باخوتهم وترحب بمقدمهم الميمون وان بعضها الآخر يبدو فى طلعة الموالين للمجمع والمقدرين لجهوده ومراميه .

على ان اغتباطنا يزداد ازدهار واشراقا لمقدم السادة اعضاء مؤتمر الادباء العرب لزيارة دار المجمع وهى دارهم . لان فيما ينشر هؤلاء الادباء من نثرهم

وشعرهم مددا لاعمال المجمع ولان فيما توحيه اذواقهم وقرائحهم من تعبيرات واساليب دخيرة لنشاطه في البحث والدرس . وكما ان الادباء يمدون المجمع فانهم يجدون عنده ما قد يستعان به على التعبير الرفيع وما يتخذ سبيله الى الجمهور بفضل استخدامهم له واشاعتهم اياه . فبين المجمع اذن وبينهم وشائج موصولة واواصر لا تنفصم ، فشكرا للجميع على شهودهم هذه الجلسة وامدهم الله بالعافية والسلامة ليكون لنا من تعاونهم ومؤازرتهم قوة فى العزم وصبر على العمل واندفاع في السعي لبلوغ اهدافنا المشتركة فى خدمة اللغة العربية

أما بواعث قلقي في اسبوعى السنوى فمرجعها تكليف كاتب السر ان يتلو تقريرا بما تم من اعمال المجمع في كل عام عند افتتاح كل مؤتمر . ولو كان لكاتب السر ان يلتزم حرفية النظام لآل امره الى ببغاوية رتبية تردد على الاجمال سرد ما يتوالى سرده في كل عام منذ نشأة المجمع . وما اقساه وقعا على الاسماع ان تكرر الببغاء بصياحها الصارخ نفس ما اعتادت ان تكرره كلما وجب عليها التصايح من حين الى حين . فالصفحات التى يقتضينا نظام المجمع ان نتلوها عليكم - ايها السادة - يعدها محررو المجمع فيرصدون فيها جلسات المؤتمر والمجلس ويبرزون في سجلاتهم عنوانات ما القى الزملاء من محاضرات وبحوث الى اعداد معدودة من المصطلحات في اشتات العلوم والفنون والآداب . ويثبتون فى امانة المصورات اللاقطة كل ما يلاحظ او يقترح او يقرر او يدون بشأن المعجمات وغيرها ويشيرون الى الجوائز التى فاز بها من اشتركوا فى مباريات الادب والشعر كما يحصون الدعوات التى يتلقاها مجمعنا من مختلف الهيئات ويلخصون الاساليب والتحقيقات اللغوية التى فيها قولان او اقوال مما يسوغه فقهاء اللغة ويفتى به فيها اهل الرأى والنظر والقياس

واذا كان كل ما يرصد او يحصى او يقيد فى السجلات من اعمال المجمع الماضية وما يشمله جدول اعماله في هذه الدورة قد يثير شهوة من تهمه البحوث في موضوعات اللغة والادب فان سرد ذلك كله على طريقة التكرار الالي يعرض المستمعين للملل كما يعرضني للبرم

ولو ان سائحا ممن يسيرون فى الارض ويذرعونها بالطول والعرض ويعبرون البحار ويجوبون الامصار ، اقول لو انه اخذ يحصى لذويه بعد ان

طوف بحى الازهر اعمدة المعهد العتيق واروقته ومآذن الحى ويصنف لهم ما تحتويه مسارب " خان الخليلى " من الوان الصناعات والحرف لما روى غله المستمعين اليه ولما اشبع نفوسهم بما يشبع النفوس من الانطباعات وما تنفعل به من الذكريات التى يجترها لنفسه ذلك السائح الجوال ويمتع بها امتاعا . لذلك اجد ان اعمال المجمع فى كلياتها وجزئياتها ومجملاتها وتفصيلاتها مودعة عنده في حصن حصين وتعرض للراغبين فيها ميسورة المنال .

واذا ارادني الاستاذ الرئيس ان اكون وفيا لنظام المجمع وتطبيقه في منطوقه وملفوظه فليسمح لى ان اتوخى الاختصار كل الاختصار . واتحرى الايجاز كل الايجازوان اجعل قدوتى ذلك البدوى الذي دعى الى وليمة عامرة واراد الداعي ان يشغل ضيفه عن الطعام فقال : " حدثني يا أخا العرب حديث ثروتك وقص على أمر مالك " . ففطن البدوى لخدعة الداعى واجاب : " كنت عنزة فرت لحال سيلها " . . وانهمك في الطعام وامسك عن الكلام .

واني التمس الطريقة البدوية وأقول : قد اجتمعنا في جلسات ووضعنا مصطلحات وأصدرنا قرارات . وفى ديوان المجمع وعند المحررين التفصيلات . .

وبعد فهل يؤذن لي - ايها السادة - ان اتحدث قليلا عن المجمع وعن ميررات وجوده ؛ وهل خلصت عقول او سلمت صدور مما يحيك فيها من سؤال او اسئلة عن مبررات هذا الوجود وعن مسوغات ذلك الكيان ؟ . . تلك هي المسألة التى لم ارد تقليبها واثارتها ما يسيء ابدا الى احد بل لعل فيها سبيلا لاظهار ما لموضوع التساؤل من شأن وخطر . والعقول المفكرة المستطلعه قد يحدو بها الشغف بالمعرفة الى ان تلقي الاسئلة تباعا عن كل امر ، بل ربما تدفع غريزة التطلع الى اقتحام مبادئ تدخل فى مناطق الحرام ، ويصعب اقتحامها على كثيرين وطالما غامر الفلاسفة فى امور اقروا بعد جهد انها فوق منال المدارك ، ولم يضرهم ان فكروا ، ويبدو ان التعليل لوجود المجمع احق بسبق الحديث من بسط نشاط المجمع فى عام او اعوام .

ليس اى مجمع فى ابسط تعريفاته - ايها السادة - الاظاهرة من الظواهر الاجتماعية تتشكل فى صورة جهاز من صفوة الناس ولهذا الجهاز في الجماعة وظيفة وعمل ، وتنبثق هذه الظاهرة استجابة لدوافع محتومة ووفقا لمقتضيات قاهرة .

واهم هذه المقضيات التيار الجارف للتقدم التطورى العام وتيار القومية المتحررة وتيار الحيوية اللغوية او بعبارة اخرى الحيوية فى غريزة اللغة

هذه هى اهم الدواقع والمقتضيات التى تؤدى الى تكوين جهاز مجمعي :

فاما تيار التقدم التطورى العام فقد يتصوره العلم الحديث على هيئة طاقة سرمدية يطرد تحولها وانتشارها وتظل في تغير دائب مستمر وعلى الذهن البشري ، حيال تلك الحركة التى لا تنقطع ، ان يسدد الملاحظة ويحسن التسجيل والموازنه مستهدفا غنيمة للانسان من هذا الكون المتغير وراميا الى منافعه من هذا الوجود دون اهتمام بادراك حقيقة مطلقة وهيهات للعقل ان يصل إلى حقيقة مطلقة واما تيار القومية المتحررة فهو فرع يتصل بذلك التيار التقدمي الجارف او لون من الوان النزوع يسري في النفوس ويمس العقول ويستغرق العواطف والوجدان

واما الحيوية اللغوية فتبدو في يسر التمازج للاصوات وفى سهولة التلاقى للحروف المعبرة عن منازع النفوس والمصورة لحركات الفكر وخليجات الفؤاد

وقد تستنبط تلك الاصوات والحروف من سوابق تدعمها ولواحق توقدها  وتلاحقها ويتجمع كل ذلك ويتوالى ويتعاقب فى كلمات وعبارات ويحمل صورة دقيقة واضحه للحياة المادية والمعنوية فى قوم من الاقوام متطورة معهم وقد لا تتقاصر عن تحمل مفهوم جديد .

تلك المقتضيات الثلاثة هي اهم المقتضيات التي تدعو إلى نشاة المجامع وتكوينها وفي التاريخ شاهد صدق على ذلك فقد نشات المجامع في ايطاليا ابان نهضتها وفى عهد الانبعاث واليقظة وبعد ذلك بقليل نشا فى فرنسا في وقت ازدهارها القومى مجمعها العتيد وفشت بعد ذلك عدة من المجامع فى الانحاء الناهضة من اوربا متخذة من المجمع الفرنسي ملهما ترتسم كل جماعة لمجمعها ما يناسب حالها وتضع نظامة الملائم لظروفها .

ولعل فيما اشرت اليه من اقتران تاريخ المجامع بالنهضات ومن ملازمتها ومسايرتها للانتفاضات القومية ما يوحى بان الاقدار قضت بان تغمر بلاد العروبة فيهذا العصر بموجة من تيار التقدم التطورى العام فتكونت فى انحاء هذه البلاد

من اقصاها الى اقصاها اجهزة مجمعية وشبه مجمعية تتلقط اثار تلك التيارات المنبهة الحافزة للنهوض وتتحسس تلك الانتفاضات القومية المثمرة .

وليس من الضروري ان تكون الاجهزة الجمعية اللاقطة لصور النهضات في أغلفة من الالفاظ وصيغ من التعبيرات اقول ليس من الضروري ان تتركز في مكان معين وتنحصر في دائرة لا تتعداها فحيثما يكون تفكير سليم ناهض ينساق في كلمة طيبة ملائمه ومتحركة فثمة معنى من معانى المجامع

فالندوات الثقافية والجمعيات واللجان الادبية والروابط العقلية الرفيعة لها ان تدخل فى الدائرة الواسعة لمعنى المجامع ما دامت تتصل بمعنى التسامى والنهوض والتحرر . اذ ان كلها يستمد كيانه من مصدر واحد هو طاقة التقدم العام وفى كلها مدد للنهر الكبير نهر الحيوية الكلية الشاملة المندفعة الى مصبها من الكمال وكلها فيما تركز منها فى ناحية بعينها وفيما انتشر منها هنا وهنالك يتلاقي ويتفاعل ويحاول الاندفاع فى سبيل الترقى الى الاحسن ويتعاون لتحقيق المعنى الكامل الذي تهفو اليه الارواح ويتجه حيال وجهه كل رقي سليم للبشر

على اننى قبل ان اتحدث اليكم عن الجهاز المجمعي المصرى - ايها السادة -

اود ان اشير اشارة عابرة الى طبيعة اللغة العربية والى حياتها التي هي لب هذا الجهاز ولعل ما دون فى تقديم المعجم الكبير الذي يشرف على وضعه زميلنا الدكتور طه حسين ما يعبر عن طبيعة هذه اللغة ومكانتها فهى كما جاء فى هذا التقديم : " اقدم اللغات الحية عهدا وابعدها نشاة واطولها حياة وحسبك ان تاريخ نشاتها لم يحدد بالدقة الى الان وان عهد الناس بشعرها يمتد فى التاريخ خمسة عشر قرنا على اقل تقدير وان عهدهم بنثرها ليس اقل من ذلك الا نحو قرنين وان الوان المعرفة وضروب العلم والفلسفة قد اخذت تسجل فيها منذ ثلاثة عشر قرنا وانها قد بلت من الخطوب والاحداث ما لم تبله لغة اخرى اقبلت من الصحراء لا تعي الا الشعر فاطرافا من الاخبار والاساطير فلم تلبث ان وعت حضارات الامم التي سبقتها الى الحضارة ووعت ما اتيح للانسانية من فلسفة وحكمة وعلم واساغت هذا كله وتمثلته ثم جعلت تضيف اليه وتذيعه فى اقطار الارض وهي قد اسكتت لغات كانت ناطقة قبل ان تنتشر واضطرت لغات اخرى الى ان تستخفي وقتا قصيرا او

طويلا وهي قد تاثرت بهذا كله فنمت احيانا وانزوت احيانا اخرى ولكنها احتفظت بحياتها على تتابع القرون وتزاحم الخطوب وهى على تعرضها لكثير من الكوارث التي كانت جديرة ان تضطرها الى السكوت او للاستخفاء لكنها لم تسكت ولم تستخف وانما ظل صوتها عاليا ولواؤها مرفوعا وانتفعت بما لقيت من الخير والشر جميعا ووصلت الينا بعد كل هذه الاهوال سليمة موفورة تشكو بعض ماران عليها من صدإ الاحداث والايام وتنتظر من اصحابها ان يحلوا عنها هذا الصدا ويردوا عليها صفاءها القديم . ولسنا نعرف لغة حية اتيح لها ما اتيح للغة العربية من هذه الحياة الطويلة الخصبة ومن البقاء على الاحداث والنوائب دون ان يمسها الفساد او يدركها شئ من الاختلال فقد كانت مزدهرة قد ملات الارض شرقها وغربها علما وادبا حين اخذت اللغة الفرنسية تنشا ويسجل فيها بعض الأحداث في القرن الحادي عشر للمسيح ، واللغة الفرنسية اقدم اللغات الاوروبية الحية وأبعدها عهدا ، وما اكثر ما يشكو علماؤها ومسجوها من عسرها وضخامتها وتشعبها واستعصائها على المسجلين فكيف بهذه اللغة العربية التى عاصررت لغات عظيمة باد بعضها ولم تبق منه الا الاطراف ومات بعضها الآخر واصبح يدرس على انه تاريخ ليس من درسه بد لمن يريد ان يحصل العلم ويفهم نشاة الحضارة وتطورها، والفضل في بقاء اللغة العربية وثباتها للاحداث وانتصارها على الخطوب يرجع قبل كل شئ الى انها لغة القرآن الكريم الذى تاذن الله بحفظه فى الآية الكريمة : " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " ثم الى قوتها وقدرتها على المقاومة ونفوذها الى كل ما يعترضها من المصاعب والعقبات

والان ايها السادة - اذا صح في الاذهان ان ثمة نهضة قومية تحررية فى فى شتى الاقطار العربية - قلنا ان نسال عن وظيفة الجهاز المجمعي الذي اقترن وجوده بوجود هذه النهضة كما لنا ان نسال كذلك عن روابط اللغة بهذا النهوض

أما روابط اللغة بالنهوض الاجتماعي فتبدو لى وثيقة واكيدة وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج الى دليل . . ولقد قلت من هذا المنبر فى احدى المناسبات المجمعية في الشهر الماضي : " ان اللغة هي اهم شىء في صحة العقل وسلامته وانها قوة كبيرة

فى انعاش الفهم وتمكين العلم ودقته وانها غلافه الواقى ودثاره المريح وانها عامل عظيم فى خدمة الذوق في الشعوب وتسويق الآداب في الامم وبصقل اللغة وتهذيبها تنصقل الطباع وتهذب الاخلاق وتتذوق الفاظها وتسمع انغامها ويرق الحس ويسمو الذوق وتنتشى القلوب ، وانها على الجملة خير ما تعلمه بنو آدم وخير ما يعلم ويربى هذا الانسان " واضيف الى ذلك ما كتبه زميلنا فضيلة الشيخ احمد حسن الباقورى فى تقدمته لكتاب " مشاعل على الطريق " اذ قال : " الكلمة الطيبة قد تصلح مجتمعا باسره وقد تقيم دولة بكل اسباب مقوماتها والكلمة الخبيثة قد تفسد مجتمعا كاملا وقد تهوي بامة الى مهاوي الضياع والعلاك فالكلمة ليست لفظا ومعنى وحسب وانما هى مع هذا جيوش زاحفة او مصانع قائمة او مخترع مذهل ان وراء كل عمل انسانى كلمة دفعت به الى هذا الوجود . . "

اما وظيفة الجهاز المجمعي العربي الذي قضت المقادير الحتمية بوجوده " اثناء معمعة الكفاح الحيوى لنهضة العروبة وتحررها فهى فى قول مجمل وظيفة التنقية والتصفية والوقاية والعلاج .

وهو ايضا جهاز مسجل لما يختار ويصطفى من الكلم وهو جهاز ارشاد عن مواطن النشاط فى النفس العربية فى تفكيرها ونزوعها وكان صلة هذا الجهاز باللغة هى صلة الواقى من الزلل المسعف للمصاب يضمد جراحه ويجبره ويتعهده بالرعاية ويصل به الى مأمن اثناء النضال في سبيل الحياة ويتكون الجهاز المجمعي في صورته المجملة من جماعة تلم عقولهم بشؤون مختلفة من الحياة وهم فى مجالسهم يقومون لضبط التعبيرات التى تجري على الالسنة مع المعانى الجياشة فى الصدور وصور المجامع تتعدد فمنها ما تتمثل به الفنون الرفيعة ومنها ما تتمثل به مفاهيم العلوم الكونية والواقعية ومنها ما تتمثل به صور الاداب ، وتاوى جميع هذه الصور الى اللغة .

فما الذى - يا ترى - سجله او يصح ان يسجله مجمعنا ليدل على لون من الوان الحركة القومية الدافعة في سبيل النهوض

روى زميللنا الاستاذ محمد شفيق غربال فيما كتبه عن الفيلسوف كارل بيكر قوله : " ان شئنا ان نلتمس وسيلة لفهم عقيلة عصر من العصور فخبر ما نفعل هو ان تفتش عن الكلمات الدائرة على السنة اهلها وهذه كانت فى القرن الثالث عشر : الاثم النعمة . الجنة . النجاة . وهي فى القرن التاسع عشر : المادة . الحقيقة . الحقيقي . التطور التقدم المطرد . وفى القرن العشرين : النسبية . التعاقب . الملاءمة . الوظيفة

المركب . وكانت فى القرن الثامين عشر : الطبيعة القانون الطبيعي . المبدأ الاول .

العقل . العاطفة . الانسانية . القابلية للكمال . الفضلية .

فاذا كان لنا في المجمع ان نلم بكلمات كثيرة الدوران فى نهضتنا العربية الحاضرة وان نحدد معانيها فقد نجد كثيرا من الكلمات ما بين اجتماعة وحربية ونفسية واقتصادية وفلسفية . ولاسق على سبيل المثال بعض تلك الكلمات : حياد ايجابي . اقطاع . احتكار . تعايش سلمى . تجديد . مجتمع مرفه . فردية . جماعية غيرية . هدف . حملة . زحف . قطاع . قاعدة . نفاثة . حوامة . صاروخ . تلقائية

انتهازية . رجعية . وصولية . رأسمالية . استغلال . نفعية . تعاونية . اشتراكية قومية . . الخ . وهذه الكلمات التي ارسلها عفوا على سبيل المثال كلها عربي صميم غير انها تحمل في هذا العصر شحنة من المفاهيم الجديدة المنتزعة من التيار التقدمي وتدل على معالم سير العروبة فى طريق انطلاقها نحو اهدافها ومدى وثباتها فى الحياة . وكان لا بد لهذه الكلمات وامثالها من وجود ذلك الجهاز المجمعي الذي اشرنا الى وظيفته فيما تقدم .

على ان هذا الجهاز بجانب دراسته وصقله للمصطلحات الكثيرة المستحدثة التي  تتناول نواحى النهوض فانه كذلك يتحسس او يتلقى نزعات القومية العرية فى مختلف وجوه التفكير فهذا مهندس صناعى نال الاجازة النهائية فى هندسة الآلات من جامعة الإسكندرية ثم نال اجازة العالمية فى الهندسة الميكانيكية ونال العالمية كذلك فى العلوم تطبيقية من جامعة بروكسل ثم يقع عليه الاختيار فى شركة الحديد والصلب المصرية قدم الي تقريرا بمشروع يدعو فيه الى نشر العلوم التطبيقية باللغة العربية ويقع

هذا التقرير في اكثر من اربعين صفحة ولاقوا منه بعض فقرات تعبر عن وجهته . .

يقول المهندس انور محمود عبد الواحد : " اننى ادعو الى نشر المعارف الهندسية والصناعية باللغة العربية . اريد ان ارى فى المكتبة العربية كتبا فنية محترمة عن البترول وهندسة السيارات والآلات الكهربائية وغير ذلك من مختلف فنون الهندسة والصناعة اليس ذلك هدفا يدعو للتامل ويهتف للعمل ؟ انى اكتب هذه الصفحات لنبحث معا عن الوسائل التى تمكننا من اداء هذه الرسالة على خير الوجوه الممكنة . . هل يظل الكتاب الهندسى وقفا على اللغات الاجنبية ؟ " ثم يقول :

" إذا كانت اللغة العربية فى عصرنا هذا لم تستعمل فى التعبير العلمي على اوسع مدى ممكن فليس هذا ذنب اللغة وليس هذا من قصور اللغة ولكنه قصورنا نحن عن ان نساير ركب الحضارة " . . ثم يقول " تامل يا سيدي هذه الكلمات وقل لي هل تعرف لها معنى ؟ : انترينوم قاجوس ، كلندولا اوفيسينا ليس . هليانتوس

ديللس . سانتوريا موسكاتا

" لقد قرات هذه الكلمات فلم ادر انها اسماء زهور مصرية تنبت على ضفاف النيل ونستمتع بشذاها صباح مساء ، ثم قرات كتابا عربيا عن نباتات الزينة وضعه استاذ مصري فعرفت انها هي بالترتيب : حنك السبع . والاقحوان . وعباد الشمس المفرد : والعنبر البلدي .

فماذا يستنتج من قول هذا الشاب المهندس الذي نال ارقى الاجازات العلمية في فنه غير ان ثمة نزعة من ابناء اللغة العربية الذين يريدون اثراءها وتقويتها بما تمخضت عنه العلوم والحضارة ولكن في الفاظ تستمد من صاب لغة مطواعة وتشع من جوهرها القوي المتين

وهذا هو المهندس حسن حسين فهمى الاستاذ بكلية الهندسة بجامعة القاهرة قد قدم الى المجمع اصول كتاب يعده للطبع سماه " دليل التعريب " وطلب رأي المجمع فيه فلما احيل الى لجنة الاصول درسته واعدت عنه تقريرا جاء فيه ما يلي : " مؤلف هذا الكتاب عالم مهندس حاول التاليف فى الهندسة باللغة العربية او الترجمة اليها

فاستعصى ذلك عليه لما يحتاجه فنه من الاصطلاحات المتعددة . وراى ان المكتبة العربية فقيرة جدا في الكتب الفنية الهندسية في حين ان مصر غنية بعلمائها فى هذه المادة وان رغبة هؤلاء العلماء في التاليف باللغة العربية رغبة قوية صادقة وانما يمنعهم قلة الاصطلاحات تقديرهم ان توافرها في اللغة العربية قد يتعسر او يستعصى . وهذه المشكلة وجهت همه الاستاذ المؤلف الى تعلم اللغة العربية والتوسع فيها . قد هداه بحثه الى نتائج فاقت أماله فيما كان يريد من تطويع اللغة العربية وامدادها بالمصطلحات فرسم خطة للتعريب وسعت الوسائل التي تعين على ان تكون اللغة العربية وعاء كافيا لمصطلحات الهندسة جميعا .

اليس فيما تمثلت به في ضروب من العلوم ما يبشرنا بحيوية الغريزة اللغوية وقوتها ونزوعها لتتبوا مكانتها الجديرة بها كلغة قومية وكعامل من اقوى عوامل القومية الناهضة . وانها في حومة المعركة تجد السبيل الى نصر وفتح قريب . ولا اريد ان انوه بالكلمات الطبية والنباتية والكيميائية وغيرها مما تدرسه لجان المجمع المختلفة فهي مئات ومئات قد استوجبت في مؤتمر العام الماضى ان يتقرر تاليف لجنة للنشر لكي تقرب اعمال المجمع من منال الجمهور .

وفي الحق ان مشروع لجنة النشر قد يلاقي نزعتين : اولاهما نزعة تؤثر الاناة والتريث وتسير سيرها في رفق وفي اناة وفي معتزل عن الضجة والاعلان طوعا لما يدعو اليه تواضع العلماء . والنزعة الأخرى تجنح الى رفع الصوت ، وخوض المعمعة والكفاح بمختلف الوسائل في شتى النواحى والميادين . وان الزمن وحده لكفيل بالملاءمة بين النزعتين وان المقادير لترسم لنا ما هو اهدى سبيلا

هذه ايها السادة خلاصة لقصة المجمع اما انتاجه فاقول على نحو ما قال البدوى سالفا : لقد اجتمع في جلسات ووضع مصطلحات واصدر قرارات وعند المحررين كل التفصيلات . وسلام عليكم ورحمة من الله وبركات .

اشترك في نشرتنا البريدية