الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 139الرجوع إلى "الثقافة"

طلعت حرب باشا، والبلاد العربية والسودان

Share

إن الأمة التى تريد استقلالها الاقتصادى يجب عليها أن تشترى هذا الاستقلال بقليل من التضحية .

إن القوة إذا كان من نتائجها أن تقصف أقلام الناقدين ونسد أفواه الشاكين ، فليس من شأنها أن تكسب قلوب المظلومين .

النجاح معلق قبل كل شئ على الصفات التى تتحلى بها نفوس الأشخاص ؛ فإذا كانت هذه الصفات من شأنها تكوين شخصيات مستقلة معتمدة على ذاتها قوية فى إرادتها كان النجاح مضمونا . واستقلال الشعوب لا يكون حقيقيا إلا يوم يكثر فيها استقلال الأفراد . أما إن كانت هذه الصفات قائمة على التبعية فى التصور والارادة لتصور الغير وإرادته كان النجاح فى الحياة غير مضمون .

" الرجال ضربان : الحالمون المتأملون الأنبياء ، والمبدعون المنشئون المنفذون . وقلما تمازجت الحلتان فى إنسان ، ولكنهما تمازجتا فى طلعت حرب " . السير ادوارد كوك محافظ البنك الأهلى سابقا

بلى ! ! كان طلعت حرب - قدس الله سره ، وطيب الله ثراه - نفحة من تلك النفحات النادرة التى تجود بها الأيام على الأمم والشعوب ، فتخلق فيها فكرة ، وتوجد بها حركة ، وتواتيها فى النهاية ثمارا وجنيا .

ولئن كان تاريخ وادى النيل الحديث موسوما برجالات أفذاذ ، حركوه بعد همود ، وأيقظوه بعد هجود ، وأطلقوه من إسار ركود الزمن . فمضى ساربا ينتزع حقه تارة ، ويتلمس سبل المجد تارة أخرى . فإن طلعت حرب من تلك الصفوة المختارة التى كان لها شأن وأى شأن عظيم ، في تاريخ البلاد ونهضتها الحديثة .

كان حالما بحق ، تسبح روحه فى عوالم ما وراء السدود والحجب ، وتتأمل فى صور مستورة يستعصى على عيون الآدميين المجردة أن تحوطها إدراكا وفهما ؛ وكان بين أحلامه العابرة وتأملاته العميقة ، صاحب رسالة بشر بها ودعا إليها ، فلما احتلت منه محل اليقين والايمان ، أبدعها خلقا ، وأنشأها صورة ، وجسدها فى الوجود تنفيذا ، فاذا الاقتصاد المصرى والصناعة المصرية وما يتصل بذلك جميعا حيوات لها وجودها الملموس وصورتها الماثلة . لقد عانى ما عانى ، وصبر وصابر ، حتى كتب لتلك النية الكبرى السداد والتوفيق .

كان يرحمه الله فوق مصريته الصميمة ، ووطنيته

المخلصة ، وإيمانه بمجد مصر وحقها فى الوجود ، شرقيا عربيا مسلما . كان شرقيا فى تقاليده ورجولته ، عربيا فى نزعاته وميوله ، مسلما فى قلبه وإيمانه ؛ وكان من ذلك الجيل الذى يؤمن بعلاقات مصر بالأمم العربية ، ووجوب توطيدها على أساس عملى يربط أواصرها ، ويقرب ما بين رغباتها ، ويساعدها فى النهاية على إقرار تفاهم يقوم على صلات عملية ، يجعل منها حينما تتغور تلك الروابط وتتبلور على مرور الأيام ، حلفا يتكلم بالذهب ، وينطق بالمال ، ويدافع مجتمعا على رد العاديات ودفعها من أن تسلبه حقوقه ، وتسرقه أسواقه ، وتجعله عالة على الغرب ، وتبيعا له فى قوام الحياة .

ربط مصر بالحجاز ، فنظم ماليته ونقده ، واعتمد على الجانب الاسلامى من الحج الذى يقوم على إيراد موسمه كيان مالية الحجاز . فأجرى سفنه فى البحر تحمل الحجاج م بما لا يتسع المجال لبسطه ، وتعاون مع المسئولين على أن يكون الحج تيسيرا وراحة واطمئنانا ، فأفلح ونجح ، وأطلق

بين جدة والمدينة طائراته ، فأخذت تروح وتغدو بينهما ، يهون للموسرين والراغبين سبل الفروض والتبريك .

ونظر أخرى إلى الشام ، فأنشأ فيها فرعا لبنك مصر ، وحث أهلها على التفكير فى اقتصادهم القوى وصناعتهم ، وربط بينهم وبين مصر برباط من التعاون المالى القائم على المودة والمساندة ، وأخذ كل يناصر أخيه .

ثم مضى إلى العراق ، فأثارها دعوة من رسالته الكبرى ، يبشر بين أهل الرافدين باليقظة الاقتصادية ، والوثبة المالية ، والعمل على أن يكون اقتصاد العراق عراقيا صمميا ؛ فاقترح وعاون ، ووصل بين مصر والعراق بطريق جوى يقرب المسافات ، ويدنى الفجاج .

كان ذلك نصيب الحجاز والشام والعراق ، ولم ينس فى مجال الدعوة برسالته ، أن يمتد صوته إلى اليمن بالارشاد الصناعى والتبشير الاقتصادى .

أفينسى حين يذكر كل هذه الأمم العربية ، أن يرمى ببصره مع النيل صعدا إلى الجنوب ، فيربط بين مصر والسودان كما ربط بين مصر وبينها ؟ أليس السودان سوقا من أسواق مصر التى لا تحتاج فيها إلى دعاية أو مجهود ؟ أليست بقاعه مليئة بالمواد الأولية التى قد تحتاج إليها مصر فتجد فيها الكفاية وسد الحاجة والعوز ؟ أليس أهله أحق بمواصلة الرحم ، وتقريب وجهات النظر ، والرباط بوثائق من الذهب كرباط النيل الأزلى الخالد ؟

رأى طلعت حرب ذلك كله ، فمضى فى صفوة من لذاته إلى السودان على متن الطائرة " القسطاط " , فحلقت مصرية فوق أديم مياه مصرى ، وهبط مصريون بين مصريين ، وتكلموا بلغة واحدة ، وتفاهموا بشعور واحد ، وانتقل وصحبه هنا وهنالك ؛ فاذا كل شئ متشابه متماثل . ورحل إلى أسواق غربى السودان وعرج على شرقيه ؛ ثم عاد إلى مصر وفى مخيلته الحالة المتأملة والعملية المنفذة خير جزل لوادى النيل .

ومن قبل سبقته إلى ميناء " بورت سودان " بواخره تنقل السلع فى البحر الأحمر ، يرفرف فوقها وفوق أبنية الدار المصرية علم مصر وحدها ، أخضر هفافا وحيدا ، ينظر بالعين العملية إلى قول حافظ ابراهيم مكذبا ساخرا . رويدك ؛ ! حتى يخفق " العلمان " وننظر ما يجرى به الفتيان

ولو مد له فى فسحة العمل والعمر لقام وحده بواجب أمة ، وطنى وحده بأعماله الاقتصادية والمالية والتجارية العظيمة ، فوق جميع السدود والجنادل السياسية ، ولأخضعها فى النهاية إلى عقد المال التى لا يسهل حل أواصرها وتسريح جيوشها وقطع علاقتها ، ولأثبت لمصر فى السودان قدما برة ، غير محتلة ولا مستغلة ولا مستنزفة ، ولعلم وأرشد ، ودعا برسالة الوحدة العظيمة التى قلما دعا بها أحد مخلص فى الأيام الأخيرة .

سعدت بالعمل معه فترة من الزمن ، ولمست جلال تلك العبقرية عن قرب ، واستمعت إليه ممليا وملهما فيما يتصل بشؤون العمل والدعاية والبحث . فكانت تأملات ذلك الحلم والذكاء الطريف ، تتجلى فيما يمليه ويأمر بالكتابة فيه . وكانت شرقيته ومصريته وإسلاميته تبدو حينما يرتبط العمل بالبلاد العربية والسودان .

نريد إذا عقلية مصرية متشابهة فى سموها مع أسمى الأمم ثقافة ، ونريدها عقلية مصرية مستقلة ، عقلية هى وليدة ماضينا الذى لا مفر من الخروج من تأثيره فينا ، ووليدة حاضرنا ، نسعى إلى أن نربطه بماضينا ، كما نسعى أن نقوده ونسيره إلى مستقبل حسن . والمستقبل وإن يكن بيد الله إلا أنه إلى درجة ما بيد القوم . ولا يغير الله ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

قال لى يوما : " يا بنى لسنا نبنى من وراء أعمالنا فى الحجاز كسبا ، ولكنا نود تحقيق دعوة إبراهيم عليه السلام : " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " . أما السودان فلسنا نفرق بين زعمائه ورجاله ، فالكل لدينا سواء ، وأقصى أمانينا أن يسعد السودان حالا ، ويرف رخاء " .

وكان ذلك فيما علمت وشاهدت حقا لا مرية فيه ولا رياء .

كانت العلاقات بين مصر والأمم العربية وبينها وبين السودان ، حديث محافل وتنميق خطب وكانت المقاصد الحسنة تجول فى كل قلب وعقل ، ولكنها لم تتخذ خطوة عملية تجسدها وتجعلها حقيقة ماثلة . والأمم العربية لها فى مصر رجاء عريض ، ولها بزعامتها رضى وتسليم . وهى دوما تتطلع إلى مصر ليلمع من جانبها برق غير خلب ، فتتباحث وتتفاهم ، ثم ترتبط وتتعاون على أساس ذلك التفاهم أيا كانت أنواعه .

والسودان شأنه من ذلك أبعد مدى ، لأنه بمصر أوثق صلة وأحكم عقدا . وبينه وبين مصر ما بين مصر والأمم العربية من أواصر الدم واللغة والدين ، وهو يزيد عليها " بالنيل " والروابط الاقتصادية المتعددة ، والصلات الحربية والعسكرية الوثيقة . فالتفكير فيه ، والتدبير فى أمره ، والعمل على وضع سياسة ثابتة قومية أو رسمية حيال صلته بمصر ، أبدى فى مجال العمل من تلك الصلات العربية . وقد كان لمصر عذرها إزاء السودان بما كانت فيه من حميا الجهاد الوطنى ، وما يتصل به من عوامل سياسية كثيرة ، وإن كان عذر مصر مقبولا على العلات ، وإن كان ثمة مجال للعتاب عريض .

غير أن طلعت حرب سما وحده فوق جميع الاعتبارات السياسية ، والنضال الحزبى ، وترك غفلة مصر بأمر

السودان جانبا ، وعمل وحده بما كان يجب أن تتضافر فيه الحكومات المتعاقبة ، والأحزاب المتعددة ، والهيئات الكثيرة ؛ فلم ينتظر حتى تحل عقد السياسة ، أو يتنبه الزعماء من الناحية العملية ، أو تدع الهيئات حديث المآدب جانبا ؛ ولكنه مضى لطيته ووضع الفرس ، وفكر فى المزيد ، وأعد العدة لكل شئ

وإنى مما علمت وشاهدت ، أقول : لو أنه كتبت له - يرحمة الله - فسحة العمل والعمر ، لحقق وحده بذلك العقل الحالم المتأمل ، والمبدع المنفذ ، الشئ الكثير ، ولوضع السياسة بمكرها والتوائها أمام الأمر الواقع ، ولكانت الحال بين مصر والسودان غير ما هى عليه الآن .

ولكن قضى الأمر ، واندس فى طيات الفناء رجل كان ملء الدنيا ذكرا وصيتا ، وخلف بعده لمن يريدون العمل المنتج لخير هذا الوادى ، وخير ما بينه وبين الأمم العربية ، طريقا ممهدا ربط أواصره بحلقات من رباط المال الوثيق الذى طالما أعيا السياسة قطعه ، فمن أراد السير فالطريق ممهد ، وعند الله وحده جزاء طلعت حرب ؛ فانه تعالى يجزل مثوبة العاملين ؛ وفى طيات التاريخ المنصف الثناء الخالد على ما أبدع وأنشأ طلعت حرب من أعمال جسام .

اشترك في نشرتنا البريدية