إن الأمة التى تريد استقلالها الاقتصادى يجب عليها أن تشترى هذا الاستقلال بقليل من التضحية .
إن القوة إذا كان من نتائجها أن تقصف أقلام الناقدين ونسد أفواه الشاكين ، فليس من شأنها أن تكسب قلوب المظلومين .
النجاح معلق قبل كل شئ على الصفات التى تتحلى بها نفوس الأشخاص ؛ فإذا كانت هذه الصفات من شأنها تكوين شخصيات مستقلة معتمدة على ذاتها قوية فى إرادتها كان النجاح مضمونا . واستقلال الشعوب لا يكون حقيقيا إلا يوم يكثر فيها استقلال الأفراد . أما إن كانت هذه الصفات قائمة على التبعية فى التصور والارادة لتصور الغير وإرادته كان النجاح فى الحياة غير مضمون .
" الرجال ضربان : الحالمون المتأملون الأنبياء ، والمبدعون المنشئون المنفذون . وقلما تمازجت الحلتان فى إنسان ، ولكنهما تمازجتا فى طلعت حرب " . السير ادوارد كوك محافظ البنك الأهلى سابقا
بلى ! ! كان طلعت حرب - قدس الله سره ، وطيب الله ثراه - نفحة من تلك النفحات النادرة التى تجود بها الأيام على الأمم والشعوب ، فتخلق فيها فكرة ، وتوجد بها حركة ، وتواتيها فى النهاية ثمارا وجنيا .
ولئن كان تاريخ وادى النيل الحديث موسوما برجالات أفذاذ ، حركوه بعد همود ، وأيقظوه بعد هجود ، وأطلقوه من إسار ركود الزمن . فمضى ساربا ينتزع حقه تارة ، ويتلمس سبل المجد تارة أخرى . فإن طلعت حرب من تلك الصفوة المختارة التى كان لها شأن وأى شأن عظيم ، في تاريخ البلاد ونهضتها الحديثة .
كان حالما بحق ، تسبح روحه فى عوالم ما وراء السدود والحجب ، وتتأمل فى صور مستورة يستعصى على عيون الآدميين المجردة أن تحوطها إدراكا وفهما ؛ وكان بين أحلامه العابرة وتأملاته العميقة ، صاحب رسالة بشر بها ودعا إليها ، فلما احتلت منه محل اليقين والايمان ، أبدعها خلقا ، وأنشأها صورة ، وجسدها فى الوجود تنفيذا ، فاذا الاقتصاد المصرى والصناعة المصرية وما يتصل بذلك جميعا حيوات لها وجودها الملموس وصورتها الماثلة . لقد عانى ما عانى ، وصبر وصابر ، حتى كتب لتلك النية الكبرى السداد والتوفيق .
كان يرحمه الله فوق مصريته الصميمة ، ووطنيته
المخلصة ، وإيمانه بمجد مصر وحقها فى الوجود ، شرقيا عربيا مسلما . كان شرقيا فى تقاليده ورجولته ، عربيا فى نزعاته وميوله ، مسلما فى قلبه وإيمانه ؛ وكان من ذلك الجيل الذى يؤمن بعلاقات مصر بالأمم العربية ، ووجوب توطيدها على أساس عملى يربط أواصرها ، ويقرب ما بين رغباتها ، ويساعدها فى النهاية على إقرار تفاهم يقوم على صلات عملية ، يجعل منها حينما تتغور تلك الروابط وتتبلور على مرور الأيام ، حلفا يتكلم بالذهب ، وينطق بالمال ، ويدافع مجتمعا على رد العاديات ودفعها من أن تسلبه حقوقه ، وتسرقه أسواقه ، وتجعله عالة على الغرب ، وتبيعا له فى قوام الحياة .
ربط مصر بالحجاز ، فنظم ماليته ونقده ، واعتمد على الجانب الاسلامى من الحج الذى يقوم على إيراد موسمه كيان مالية الحجاز . فأجرى سفنه فى البحر تحمل الحجاج م بما لا يتسع المجال لبسطه ، وتعاون مع المسئولين على أن يكون الحج تيسيرا وراحة واطمئنانا ، فأفلح ونجح ، وأطلق
بين جدة والمدينة طائراته ، فأخذت تروح وتغدو بينهما ، يهون للموسرين والراغبين سبل الفروض والتبريك .
ونظر أخرى إلى الشام ، فأنشأ فيها فرعا لبنك مصر ، وحث أهلها على التفكير فى اقتصادهم القوى وصناعتهم ، وربط بينهم وبين مصر برباط من التعاون المالى القائم على المودة والمساندة ، وأخذ كل يناصر أخيه .
ثم مضى إلى العراق ، فأثارها دعوة من رسالته الكبرى ، يبشر بين أهل الرافدين باليقظة الاقتصادية ، والوثبة المالية ، والعمل على أن يكون اقتصاد العراق عراقيا صمميا ؛ فاقترح وعاون ، ووصل بين مصر والعراق بطريق جوى يقرب المسافات ، ويدنى الفجاج .
كان ذلك نصيب الحجاز والشام والعراق ، ولم ينس فى مجال الدعوة برسالته ، أن يمتد صوته إلى اليمن بالارشاد الصناعى والتبشير الاقتصادى .
أفينسى حين يذكر كل هذه الأمم العربية ، أن يرمى ببصره مع النيل صعدا إلى الجنوب ، فيربط بين مصر والسودان كما ربط بين مصر وبينها ؟ أليس السودان سوقا من أسواق مصر التى لا تحتاج فيها إلى دعاية أو مجهود ؟ أليست بقاعه مليئة بالمواد الأولية التى قد تحتاج إليها مصر فتجد فيها الكفاية وسد الحاجة والعوز ؟ أليس أهله أحق بمواصلة الرحم ، وتقريب وجهات النظر ، والرباط بوثائق من الذهب كرباط النيل الأزلى الخالد ؟
رأى طلعت حرب ذلك كله ، فمضى فى صفوة من لذاته إلى السودان على متن الطائرة " القسطاط " , فحلقت مصرية فوق أديم مياه مصرى ، وهبط مصريون بين مصريين ، وتكلموا بلغة واحدة ، وتفاهموا بشعور واحد ، وانتقل وصحبه هنا وهنالك ؛ فاذا كل شئ متشابه متماثل . ورحل إلى أسواق غربى السودان وعرج على شرقيه ؛ ثم عاد إلى مصر وفى مخيلته الحالة المتأملة والعملية المنفذة خير جزل لوادى النيل .
ومن قبل سبقته إلى ميناء " بورت سودان " بواخره تنقل السلع فى البحر الأحمر ، يرفرف فوقها وفوق أبنية الدار المصرية علم مصر وحدها ، أخضر هفافا وحيدا ، ينظر بالعين العملية إلى قول حافظ ابراهيم مكذبا ساخرا . رويدك ؛ ! حتى يخفق " العلمان " وننظر ما يجرى به الفتيان
ولو مد له فى فسحة العمل والعمر لقام وحده بواجب أمة ، وطنى وحده بأعماله الاقتصادية والمالية والتجارية العظيمة ، فوق جميع السدود والجنادل السياسية ، ولأخضعها فى النهاية إلى عقد المال التى لا يسهل حل أواصرها وتسريح جيوشها وقطع علاقتها ، ولأثبت لمصر فى السودان قدما برة ، غير محتلة ولا مستغلة ولا مستنزفة ، ولعلم وأرشد ، ودعا برسالة الوحدة العظيمة التى قلما دعا بها أحد مخلص فى الأيام الأخيرة .
سعدت بالعمل معه فترة من الزمن ، ولمست جلال تلك العبقرية عن قرب ، واستمعت إليه ممليا وملهما فيما يتصل بشؤون العمل والدعاية والبحث . فكانت تأملات ذلك الحلم والذكاء الطريف ، تتجلى فيما يمليه ويأمر بالكتابة فيه . وكانت شرقيته ومصريته وإسلاميته تبدو حينما يرتبط العمل بالبلاد العربية والسودان .
نريد إذا عقلية مصرية متشابهة فى سموها مع أسمى الأمم ثقافة ، ونريدها عقلية مصرية مستقلة ، عقلية هى وليدة ماضينا الذى لا مفر من الخروج من تأثيره فينا ، ووليدة حاضرنا ، نسعى إلى أن نربطه بماضينا ، كما نسعى أن نقوده ونسيره إلى مستقبل حسن . والمستقبل وإن يكن بيد الله إلا أنه إلى درجة ما بيد القوم . ولا يغير الله ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
قال لى يوما : " يا بنى لسنا نبنى من وراء أعمالنا فى الحجاز كسبا ، ولكنا نود تحقيق دعوة إبراهيم عليه السلام : " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " . أما السودان فلسنا نفرق بين زعمائه ورجاله ، فالكل لدينا سواء ، وأقصى أمانينا أن يسعد السودان حالا ، ويرف رخاء " .
وكان ذلك فيما علمت وشاهدت حقا لا مرية فيه ولا رياء .
كانت العلاقات بين مصر والأمم العربية وبينها وبين السودان ، حديث محافل وتنميق خطب وكانت المقاصد الحسنة تجول فى كل قلب وعقل ، ولكنها لم تتخذ خطوة عملية تجسدها وتجعلها حقيقة ماثلة . والأمم العربية لها فى مصر رجاء عريض ، ولها بزعامتها رضى وتسليم . وهى دوما تتطلع إلى مصر ليلمع من جانبها برق غير خلب ، فتتباحث وتتفاهم ، ثم ترتبط وتتعاون على أساس ذلك التفاهم أيا كانت أنواعه .
والسودان شأنه من ذلك أبعد مدى ، لأنه بمصر أوثق صلة وأحكم عقدا . وبينه وبين مصر ما بين مصر والأمم العربية من أواصر الدم واللغة والدين ، وهو يزيد عليها " بالنيل " والروابط الاقتصادية المتعددة ، والصلات الحربية والعسكرية الوثيقة . فالتفكير فيه ، والتدبير فى أمره ، والعمل على وضع سياسة ثابتة قومية أو رسمية حيال صلته بمصر ، أبدى فى مجال العمل من تلك الصلات العربية . وقد كان لمصر عذرها إزاء السودان بما كانت فيه من حميا الجهاد الوطنى ، وما يتصل به من عوامل سياسية كثيرة ، وإن كان عذر مصر مقبولا على العلات ، وإن كان ثمة مجال للعتاب عريض .
غير أن طلعت حرب سما وحده فوق جميع الاعتبارات السياسية ، والنضال الحزبى ، وترك غفلة مصر بأمر
السودان جانبا ، وعمل وحده بما كان يجب أن تتضافر فيه الحكومات المتعاقبة ، والأحزاب المتعددة ، والهيئات الكثيرة ؛ فلم ينتظر حتى تحل عقد السياسة ، أو يتنبه الزعماء من الناحية العملية ، أو تدع الهيئات حديث المآدب جانبا ؛ ولكنه مضى لطيته ووضع الفرس ، وفكر فى المزيد ، وأعد العدة لكل شئ
وإنى مما علمت وشاهدت ، أقول : لو أنه كتبت له - يرحمة الله - فسحة العمل والعمر ، لحقق وحده بذلك العقل الحالم المتأمل ، والمبدع المنفذ ، الشئ الكثير ، ولوضع السياسة بمكرها والتوائها أمام الأمر الواقع ، ولكانت الحال بين مصر والسودان غير ما هى عليه الآن .
ولكن قضى الأمر ، واندس فى طيات الفناء رجل كان ملء الدنيا ذكرا وصيتا ، وخلف بعده لمن يريدون العمل المنتج لخير هذا الوادى ، وخير ما بينه وبين الأمم العربية ، طريقا ممهدا ربط أواصره بحلقات من رباط المال الوثيق الذى طالما أعيا السياسة قطعه ، فمن أراد السير فالطريق ممهد ، وعند الله وحده جزاء طلعت حرب ؛ فانه تعالى يجزل مثوبة العاملين ؛ وفى طيات التاريخ المنصف الثناء الخالد على ما أبدع وأنشأ طلعت حرب من أعمال جسام .

