الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 702الرجوع إلى "الثقافة"

عامل عاطل

Share

( مهداة إلى صاحب لوحة " العامل العاطل " الفنان محمود سعيد

الشمس قد أنهكتها رحلة النهار فارتمت برأسها على وسادة الأفق لتستريح . . وبعد قليل سقط رأسها عن الوسادة وهوت إلى عالم المجهول . . أما هو فقد أنهكه المسير فانحط على إفريز الشارع كما ينحط جدار متداع . . وقبع فى مكانه كالكلب الذليل . . غام عليه الحزن ، فثنى كوعه بل ركبته ثم رمى بذقته على كفه وحدق بنظره فى لا شئ . . لم يعد يثيره منظر ثيابه الرثة ولا حذائه البالى أو نظرات الفضول المصوبة إليه ؛ إنه جائع . جائع هذه هى مشكلة الساعة ، ومرق فى ذهنه خاطر ارتعش له جسده واعتراه خوف . . ترى هل ينتهى هذا اليوم كاليومين السابقين دون طعام ؟ وها هى ذى نفسه قد عافت شرب الماء الذى كان طعامه الوحيد طول هذه المدة ، وإن الخفة ولطافة المشاعر التى أحس بها فى اليوم الأول من جوعه قد فارقته وحل مكانها

ألم عات كلما أحس بأمعائه تمزقها خناجر مجهولة . . لقد خيل إليه أنه كان يستطيع الصمود للجوع أكثر بما صمد لو لم يضطر لإجهاد نفسه فى السير بحثا عن عمل دون جدوى . فجأة انقطع حبل تفكيره وصار عقله فراغا وتقلصت من الألم أسارير وجهه . . لقد عادت الخناجر المجهولة تمزق أحشاءه . استجمع شتات عقله ولكن سرعان ما دوى فى أذنيه نفس السؤال . . ترى هل ينتهى به هذا اليوم أيضا دون طعام ؟ ولكنه لم يظفر بجواب . ونظر حوله فرأى كلبا ينبش فى صندوق القمامة باحثا عن الفضلات فحسده نعم ، إنه يجد فتاتا من طعام ، وبدون وعى منه هم أن يقوم ليطرد الكلب بل صاح به بالفعل ، فتوقف الكلب عن النبش والتفت إليه بعينين حمراوين كأن فيهما دموعا ، فأحس فى قرارة نفسه أن هذه النظرة المستعطفة هى صورة

لنظراته . . فخجل . . وأطرق برأسه ولقد امتلأ عطفا - جائع يعطف على جائع . .

وهنا وقع نظره على شىء تحت قدميه . إنه غطاء البالوعة ، وبسرعة التمع فى ذهنه خاطر . . لم لا ينزعه ويبيعه بقرش أو قرشين . . بأى شىء يشترى به رغيفا ، ومنذ تلك اللحظة استيقظت كل قوى تفكيره وعاوده نشاط عجيب ، وكأنما قد بعث من جديد وانحصر كل همه فى تنفيذ فكرته . . وفجأة انفرط عقد أفكاره إذ أقبلت سيارة فاخرة تجرى نحو كأنما تقصد القضاء عليه فلم يتزحزح عن مكانه ، بل أغمض عينيه منشرحا وقد تخيل نفسه منطرحا على سرير بالمستشفى يضمد الطبيب جراحه ويأتيه غذاء - أى غذاء - فى مواعيد منتظمة ، قفز فكره إلى الموت فأحس براحة ، ومد يديه وبسطهما على فخذيه وقد جلس فى خشوع الصلاة واستسلم . ولشد ما أحزنه حين فتح عينيه أن رأى السيارة قد وقفت على قيد ذراع منه ونزل منها رجل فى زيه الأنيق ودخل المنزل المجاور وحملت نسمة إلى أنفه رائحة معطرة . . وعادت الخناجر تطعن أحشاءه بقسوة . . فأخذ ينظر من جديد إلى غطاء البالوعة ، وبعد برهة نظر حوله فلم يجد أحدا يأبه له أو يحس بوجوده فاطمأن . . عجبا ها هو الآن يحس بشىء كالشبع إنه ظل الأمل ، بل ظل الصورة التى ارتسمت فى ذهنه بكل تفاصيلها الدقيقة . . لقد تخيل نفسه وهو يحمل غطاء البالوعة ويقدمه لبائع الخردة ، ثم وهو ينقده فيه قرشا أو قرشين ، ثم وهو يسرع إلى بائع الخبز ، ثم ها هو ينهش بأسنانه رغيفا طريا . . وقد ظل فكره فترة غير قصيرة ولا يتحول عن هذا المشهد اللذيذ ، وابتلع لعابه الذى سال فى حلقه فرطبه بعد جفاف

وفى هذه اللحظة طغت على فكره صورة سريعة حولت انتباههه ، هى صورة جندى البوليس وهو يقتاده إلى القسم وقد ضبطه بالغطاء ؛ فهز كتفيه دون أن تفارقه نشوة المنظر السابق وقال لنفسه . . ليكن . . إننى ساجد هناك رغيفا . . ونظر فرأى جريدة مكورة بجوار الحائط على البعد فأسرع وعاد بها إلى مكانه ثانية ونشرها أمامه ، ثم تلفت حوله وبحركة

سريعة عنيفة جذب الغطاء فانتزعه من مكانه ولفه بالحريدة وسار به يحث الخطى .

أتم مهمته بنجاح فاقتادته قدماه إلى نفس الموضع . . وحين وقع بصره على فجوة البالوعة عن بعد اضطرب وأسرع قلبه بالخفقان ، ولم يكن قد فرغ بعد من تناول الرغيف الثانى إذ آثر أن يتبلغ به لقمة لقمة كأنه شئ ثمين ، وأسرع مبتعدا عن المكان ، وفى هذه اللحظة حانت منه التفاتة لموضع البالوعة فرأى منظرا تسمر له فى مكانه . . إنه تاجر لبن على حماره سقط فجأة فى فجوة البالوعة فاندلق اللبن من الوعاء الصفيح وسال على أرض الشارع وهوى الرجل إلى الأرض وقد شدخت حافة الأفريز حاجبه فسأل دمه بغزارة على وجهه . ولكنه لم يأبه بالدم النازف من جرحه أو اللبن المراق ، بل استجمع نفسه وهم متقدما فى رفق ولهفة ليطمئن على حماره الطريح فوجد ساقه اليسرى قد كسرت نصفين ، فولول وأعول واجتمع الناس وتكاثروا والحمار المسكين كلما هم بالقيام هوى ثانية ورجله مدلاة لا يمسكها عند الركبة سوى الجلد . أما الرجل فقد غطى وجهه الدم النازف من جرحه . وسال على ملابسه فلوث صدره كله . . وكثر الزحام وتعالت الأصوات . الإسعاف . عربة الشفخانة . جمعية الرفق بالحيوان . كلمات أخذت تنطلق من هنا وهناك كالصواريخ ، واشتد الهرج ، وكان صاحبنا لا يزال واقفا فى مكانه على البعد ، وفجأة انتابته موجة من الضحك ثم هز رأسه وسار فى طريقه . .

اشترك في نشرتنا البريدية