كنا نعرف الصحة والمرض . ولكن معرفتنا بهما كانت في الأغلب الأمم تقترن بالجسم بأعضائه وحواسه . واليوم أصبحنا نعرف صحة النفس وأمراضها . وتبين المشتغلين بالعلوم النفسية أن للنفس عاهاتها كما قد يكون للجسم عاهاته . بل إن عاهات النفس قد تكون في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة لعاهات الجسم . والناس في هذه الدنيا - مع الأسف البالغ - ينقصهم الكثير من العلم بآداب السلوك . فهم إذا وقعوا علي صاحب عاهة جسيمة يريدونه بمسلكهم معه بلاءً على بلاء . وتكون نتيجة ذلك أنهم ينقلون العاهة من جسمه إلي عقله و نفسه
وهذا الكلام -وإن كان حقاً - إلا أنه لا يخلو من غموض . فلنوضحه بالمثال الآتي : ذكرت الدكتورة " دونيتا فرجسون " في مقال لها
بمحلة " كورنوت " ، من السرقة العصبية المعروفة باسم ( كليتومانيا ) أن سكان إحدي المدن الأمريكية روعوا من تعدد حوادث السرقات التي كانت تقع ليلاً في مدينتهم والتي كانت تتم في كل الحالات بطريقة واحدة وتسرق فيها أشياء متماثلة لا تمتد يد السارق إلي غيرها ، مما حمل رجال البوليس على الاعتقاد بأن الجاني لابد أن يكون شخصاً واحداً . وقد رأت المعاينة في جميع هذه الحوادث على أن الجاني اعتاد أن يقتحم الطوابق الأولى من المنازل أو (الفيلات ) الصغيرة . وأنه لا يدخل غير حجرات نوم السيدات . ولا يسرق سوى ادوات الزينة والحلى واللابس الداخلية . ويهتم بوجه خاص بسرقة رسائل الغرام التي ترسل إلي السيدات . وقد بلغ عدد ما ارتكبه من جرائم في أقل من سنة نحو أربعمائة سرقة .
ونشط البوليس في تعقب آثار الجاني حتى وفق إلي إلقاء القبض عليه (متلبسا) وهو يقارف فعلته . وتبين
من تفتيشه أنه يحمل عدداً كبيراً من ( رسائل الغرام ) ويخفيها تحت ثيابه كما لو كانت أنفس شئ لديه .
و كان هذا اللص الرهيب . . شاباً نحيل الجسم . قمئ الهيئة ، دقيق العظام ، رقيق الحس ، لم يلبث أن اعترف وهو بين يدي المحقق بجميع جرائمه . وكان اعترافه طلقاً مفصلا لم يحاول فيه إخفاء شئ مما اجترح ولما مثل امام القاضي أعاد اعترافه وقال إنه يعلم تمام العلم انه اجترأ علم القانون ، وخالف الوضع الاجتماعي الصحيح ، وأنه لذلك يستحق العقاب . . ثم أضاف إلي قوله هذا أنه . مع ذلك يكن يسرق لكى يعيش ، ولكنه كان يحس وهو يقارف جرائمه بأنه مدفوع إلى ارتكابها بعامل خفي لم يكن يدرك كتبه . وأنه لم يكن يستطيع كبح جماح نفسه إذا ما أرخي الليل سدوله عن أن يخرج في تلك الجولات التي كان يقوم بها ، والتي كان يعود منها راضياً عن نفسه كل الرضا ، مطمئنا كل الاطمئنان ، مستشعراً براحة نفسية تامة لم يكن ليحصل على شيء منها أثناء النهار .
ومحاكم أمريكا - كمحاكم غيرها من بلاد الله - لا يتسع صدرها لمثل هذا الهذيان فتوكل قاضيها على الله وأنزل بهذا المجرم الجريء الفاجر أشد العقوبة .
وكان مدير السجن الذي نزل فيه صاحبنا من رجال العصر الحديث الذين يضيفون اوقاتهم في القراءة والأطلاع على ما يستحدثه أولو الألباب من البحوث والدراسات وكانت قد بلغت على المكتبات في بلده موجة العلوم النفسية الحديثة ؛ فقرا لفرويد ولأصحابه ما قالوا وعرف الشعور واللاشعور . كما عرف العقد النفسية وكيفية انعقادها ووسائل حلها . ورأى أن يجرب شيئاً من معرفته هذه مع ضيفه الجديد ، لينظر هل يفلح في العثور على عقدته ثم هل يوفق بعد ذلك إلى معالجة حلها . فصار يستدعيه إليه ويخلو به كلما سمح له عمله بذلك ، ثم يحادثه ويحادثه ، ويستمع إلى حديثه ، ويوجهه فيه . ويسأله
ويتلقي جوابه حتى وقف على قصة حياته ، وعلى التيارات التحتية التي أثرت في سلوكه . وانحرفت به من طريق الهداية إلى ذلك الطريق المعوج الذي ركبه . فعرف كيف أنه في طفولته أصيب بشلل الأطفال . وأن ذلك اثر في نمو جسمه فنشأ ضعيفاً عاجزاً متخلفاً عن أقرانه في الجد وفي اللعب . وأنه كانت له شقيقة قوية البنية مفتولة العضلات تمارس كثيراً من الألعاب الرياضية ، فكانت كثيرة الاستهزاء به والحط من شأنه والتهكم عليه والتنديد بضعفه وعجزه .
فلما شب وكبر عفت نفسه إلي الفتيات اللآتي في مثل سنه بحكم غرائزه الفطرية ولكنهن أعرضن عنه وازدرينه . فشعر بشيء من التحول في عواطفه نحوهن . وذهب الشوق و حل محله النفور وتبخر الحب وانعقدت مكانه سحب الكراهية والمقت . وانعكست عاهته الجسمية على نفسه فشوهتها هي الأخرى . وأصبح يحس بهذا الدافع الخفي الذي كان يدفعه إلي تحسس فرائسه في مضاجعتهن وسلب أمتعتهن واستراق رسائلهن وهتك أسرارهن والاستمتاع بآثارهن .
ووضع مدير السجن إصبعه علي ( العقدة ) بعد أن تكشفت له نفس صاحبه على هذه الصورة الواضحة .
فإن ما أصاب الشاب في طفولته من الشلل ، وما أورثه هذا الشلي من عجز . وما واجهت به أخته هذا المجز من زراية وسخرية - كل أولئك أشعر الصبي بنقصه وحقارة شأنه ولكن " غريزة السيطرة "- وهي إحدي الغرائز الرئيسية في الإنسان - تأبي عليه ان يعيش في هذا الهوان الذي سببته له عاهته فهو لابد له من الكفاح للخروج من هذه الورطة ، ولرد ما يستطيع أن يرده إلي نفسه من الاعتبار . ولكنه شب وكبر ، وأصبح يلقي من الفتيات أقسي مما كان يلقي من أخته . وفي الوقت الذي تفتحت فيه نفسه للصواحب والصديقات . غلقت دونه الأبواب في كبر واشمئزاز وارتفعت حرارة عواطفه فلم
يلقى من جاراته إلا لقاء البارد باقي علي ناره المشبوبة . إنها إذاً الحرب قد أعلنت بينه وبين هذا الجنس الآخر المتمرد المتغطرس.
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جباناً
ورأي المسكين أنه استدرج إلى معركة لم يكن له يد فيها . ودفعته غريزة البقاء ، إلي الثبات والدفاع عن نفسه . فنزل إلي الميدان ولكن بسلاحه الخاص الذي يسرته له الطبيعة ، والذي لم يكن يملك غيره ، سلاح السطو والاغتصاب والتمثل في حياته الجديدة بقول ذلك البدوي الأديب :
وأن أسأل المرء اللئيم بعيره
وبعران ربي في البلاد كثير !
وقام بأولى غزواته الليلية على مخدع فتاة ممن تأبين عليه.مع كثرة صلاتها بشبان الحي أجمين فسلب ونهب وخرج من الموقعة بضائمة وأسلابه راضياً عن نفسه ، ممتناً بشجاعته وقد تولاه إحساس مريح بأنه عرف كيف يسترد شخصيته التي تآمر المجتمع على ان يفقده إياها . ومنذ تلك الليلة التي استشعر فيها كل تلك الراحة جعل دأبه أن يقوم مع الليل فيجدد نشاطه ويفتتح ميادين جديدة يستمتع فيها بإثبات شخصيته وكان كل عملي يؤديه يرمز إلي ناحية من نواحي النقص الذي يحسه ، ويثير في نفسه الشعور بالتعويض والرضى . فاقتحام المنازل كان يشعره بالقوة الجسدية التي لم يكن يتمتع بشيء منها ، لأنه مصاب
بذلك الشلل الذي لا يشعره إلا السقم والضعف ، وسرقة أدوات الزينة وباقي تلك التوافه التي يحرص عليها النساء كان يعوضه عن حرمانه من مجلسهن والاستمتاع بهن ، وسرقة رسائل الغرام كانت تعوضه عن تحريرها بنفسه وتبادلها مع غيره .
تلك كانت قصة هذا الشاب العجيب . ولكن أعجب منها كانت قصة مدير السجن .
فإنه عول على انتشال الشاب من ذلك التيار الذي جرفه ، وعلى العودة به إلى المجتمع سليماً معافي مما ألم به .
فما زال به حتى جعله يقتنع بأن مرضه وعجزه هما اللذان دفعا به إلي سلوكه الحالي ، وانه كان ضحية أخته القاسية بقدر يا كان ضحية ذلك العجز الطبيعي ، وأنه لو كان في طفولته قد صادف من يخفف منه وطأة ناهته بالحافظة على شخصيته والقيام على توجيهه نحو العمل الذي يلائم حالته لما اندفع نحو السرقة ليعوض بهما ما فاته على النحو الذي قدمناه .
وماكاد الشاب يري نفسه على حقيقتها في ضوء هذا التحليل حتى أبدى رغبته في الإقلاع عن تلك العادة التي تحكمت فيه ، وصار يلح في طلب أي عمل مشروع ليمارسه . فلما أرشده المدير إلي العمل الذي اختاره له أقبل عليه بكل جوارحه حتى أتقنه ، وسار في السجن سيرة محمودة . فلما أتم مدة عقوبته خرج وهو يشعر انه قد خلق خلقاً جديداً وزكاه مدير السجن لدى شركة كبيرة ، فقدمت له عملا مما تعلمه وهو في السجن ، فكان في عمله الجديد موضع رضا من معه وإعجاب عن نفسه إحساسه بنقصها ، وصلح حاله وتزوج وعاش بقية عمره عيشة راضية .
ترى هل يقدر لمصر قريباً ان يكون فيها من يصنع صنيع ذلك الدير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ؟
