الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 451الرجوع إلى "الثقافة"

عبدالكريم لم ينهزم

Share

كنا في ذلك الوقت اطفالا لا نستطيع أن تدرك ان هناك ثورة في شمال مراكش يقودها الزعيم عبد الكريم ضد قوات الشر الاستعمارية ، ولم نكن نعرف معنى سكب الدموع على الوطن المتخن بالجراح بعد هزيمة عبد الكريم . ولست أدرى هل كان ذلك من حسن حظنا او من سوئه

بيد أنه إذا كانت ثورة زعيم الريف المراكشي قد انتهت إلى الهزيمة التي عرفها الناس ، بعد خمس من السنين الطوال ، دوخ فيها اعداءه وعلمهم الجزاء الذي يلقاه من ينتهك الحرمات ، إذا كانت ثورته قد انتهت إلى هذه النتيجة ، بعد أن تألبت عليه قوات الشر من كل مكان ، فإن صدى حرب الريف المرا كشية ظلت تتردد بعد ذلك سنين طويلة ؛ ولم يكد الزمن يتقدم بنا حتى بدأنا نتبين

ما حدث ، وهكذا أسيل الجيل المراكشى الجديد دموعه  على هزيمة فرسان مراكش وأبطالها بعد أن انهزموا . وكما نعتقد أنها الهزيمة التى تحمل أدق معانى النهاية ، لأن عقولنا الصغيرة لم تكن قد تجاوزت مستوى عقول المستعمرين . ولذلك لم نكن نتصور أن هناك ما يسمى بالقوة المعنوية وأن فى استطاعة هذه القوة أن تتغلب على  قوة الحديد والنار .

ولكن ما بال ذكرى الأمير عبد الكريم تلاحقنا فى كل مكان ؟ ما بال أصداء المدافع وأناشيد الأبطال تتردد فى آذاننا بعد أن سكتت المدافع وأسر الأبطال ؟ بل ما بال وجه الأمير عبد الكريم يطالعنا حيثما فتحنا عيوننا وأغمضناها ؟ لقد تغلغل فى ضمير الحياة الحياة المراكشية وعلمت ذكراه النشىء الجديد فى هذه البلاد أن هناك عزيزا قد أعين . قيل أن لكل شخص بطلا يستوحيه فى الحياة .

أما في مراكش فقد كان للجيل الجديد جميعه بطل واحد يستوحيه . وهذا البطل هو الأمير عبد الكريم ، وكان الامير البعيد عنا فارسا من فرسان الاحلام لم يكن بالنسبة لنا اسيرا في يد الفرنسيين ، وإنما كان من هؤلاء الفرسان الذين ينزلون من السماء وقد امتطوا البراق ليقودوا الحروب ضد الأشرار والظالمين ، ثم انتهت الحرب وارتفع الفارس مرة اخري إلى السماء على ظهر البراق . أما وقائع الحرب وأحداثها فكانت أقاصيص تروى في كل مكان عن الفارس الذي نزل من السماء

ثم تقدم الزمن بالجيل الجديد ، فبدأت ذكرى عبد الكريم تدفعه إلى العمل بعد أن دفعته إلى التخيل والتفكير . وبدأت المعركة مرة اخرى ، وبدأ الناس يزيحون عن كواهلهم أعباء الذل والمهانة . فغضب الفرنسيون والآسبان ، لأنهم يريدون المراكشيين مهانين أذلاء ، وظهر في الميدان من صاح في وجوه الفرنسيين والآسبان ( لا ) يملء حناجرهم ، وبدأ القمع من جديد ، وسالت الدماء من جديد ، ومن وراء ذلك كله ذكرى الأمير عبد الكريم تشد العزائم وتلهب المشاعر وتستهين بالطغيان .

وغضب الفرنسيون والأسبان فسلطوا سوط عذاب على من أبى ضيمهم ، وأطلقوا النيران ، وضربوا نطاقهم الحديدى ، وأمعنوا فى الإهانة والإذلال ، ولكن المغاربة جميعا زحزحوا ضيمهم ، واستهزأوا بنيرانهم ومزقوا نطاقهم ولم يذعنوا للإهانة والإذلال . ومن وراء ذلك كله ذكرى الأمير عبد الكريم ، الفارس المراكشى الذى علم المراكشيين أن الحديد يفل الحديد .

كان شياطين الشر يؤمنون بأنهم هزموا عبد الكريم ، ولكنهم غفلوا عن أن القضية التي شهر السيف في سبيلها غير قابلة لأن تهزم في هضاب الريف ، او تنتهي بمعركة ، أو ترهن بجيش ، وإذا كانوا قد اسروا الأبطال فإنهم

لم يأسروا القلوب التي في الصدور والمشاعر التي في القلوب والنار التي في الشعور

بتنا نؤمن بأن الأمير عبد الكريم لم ينهزم ، ولكن إيماننا كان ذا جانب معنوي ، ولم نكن نتصور ان الأقدار سوف تعمي الأشرار حينما طمعوا في أن يلعبوا به دورا ويهددوا به ملكا ، فينقلونه من منفاه القصى ويمرون به في قناة السويس ويقفون به في بور سعيد .

الأمير عبد الكريم في ميناء الفاروق ! وفي ظلال مصر ! فارس مرا كش الصنديد الذي شغل مداركنا وألهب شعورنا وعلمنا أن نرفع رؤوسنا فى ظل الخراب ؛ لقد عاد إلى الأرض الفارس الذي ارتفع إلى السماء ، وإذا فالأمير عبد الكريم ليس فكرة فحسب ، وإنما إنسان يتحرك ويسعى

وهرعت إلى بور سعيد لأرى مبادئى مجسمة في رجل ، وصعدت مع إخوانى إلى ظهر الباخرة ( كانوميا ) لكى أشبع عيني برؤيته بعد أن أشبع روحي بذكراه ، فما بال المحسوسات قد انهارت حولي كانني في احلام مجردة ؟ إنني أمام عبد الكريم بطل الريف ، فارس الجيل ، وبطلي الآسير وقد اكتفيت بالوقوف بعيدا لأنظر إليه وهو يجيب على أسئلة الصحفيين في حزم . وكنت صحفيا ، وحضرت لأداء مهمة صحفية ، ولكنني ظللت حيث انا اسمع صوته وكانني في حلم .

كنت أتأمل وجهه ، ذلك الوجه الذي عجز الزمن والمنفى والمرض عن التأثير فيه على مسحة البطولة والفضيلة والشرف .

كانت مسحة الخيال ما تزال عالقة به لانني كنت اعتقد أنني قابلت الأمير وهو اسير ، ولكنني رأيته بعد ذلك بعيني رأسي ينزل من الباخرة إلى الأرض ، إلى أرض مصر ، موئل الاحرار ، ومعقل العروبة ، فلم أكد أصدق أن صورة من أحلامى تتخطى عالم الآحلام إلى عالم الواقع ،

فلقد كانت تلك المسافة التي قطعها القائد الكبير بين الباخرة والميناء بمثابة قنطرة تربط بين ماض انتهى ومستقبل ابتدأ .

وأمعنت الأحلام إغراقا في الحقائق ، فإذا بي أري فارس مرا كش يركب السيارة من بورسعيد إلى القاهرة ، ثم زادت إغراقا حينما رأيت عشرات من شبان المغرب يستقبلونه عند باب مكتب المغرب العربي وهم ينشدون نشيد الحرب القديم ، وكانهم بنشدون صوت الحقيقة الجديدة.

طالما استعبدوا وأذلو الرقاب

أيها الأمير جاء يوم الحساب

وازدحم أبناء المغرب العربي في مكتب المغرب العربي حول فارس مراكش العظيم ، وهم ينشدون ويخطبون ، ولا يكادون يصدقون أن بطل الجيل قد أصبح حرا في رحاب مصر وحمي جلالة الفاروق .

ولكنني بالرغم من كل هذا لم استطع ان المس حقائق الأحلام في تلك الفترة العابرة الخطيرة من تاريخ مراكش في مصر ، لأن بطل الريف انتقل إلى قصر أنشاص ضيفا على جلالة ملك مصر العظيم ، ولم أتمكن من ذلك إلا في مدينة الإسكندرية حيثما انتقل الامير إليها للاستشفاء .

من هو الأمير عبد الكريم ؟ إن الأيام لتساعد الخيال على ان يزيد في عظمة الرجال العظماء ، كلما بعدوا عنا زمانا أو مكانا ، ولقد قضيت ساعات طوال استمع فيها إلى أحاديث الأمير ، فكانت كل لحظة من تلك الساعات تزيدني إيمانا بأنني كنت عاجزا عن ان اتصوره على حقيقته ، بالرغم من المساعدة التي قدمها إلى خيالي . لم أكن في حاجة إلى أن أنتسب إلى مرا كش أو إلى البلاد العربية لكى أقدره ، فإن مجرد انتسابي إلى الإنسانية كاف لأن يدفعني إلي ذلك ،

بعد أن سمعته يروى حوادث الحرب والسياسة ، وموقف بلاد المغرب العربى وموقف مراكش ، وكأنه أشد أبناء هذه البلاد اتصالا بها خلال ربع القرن الأخير .

ويكفى أن نقول إن الظروف الحاضرة ماتزال قاصرة عن أن تدرك عمق النظريات التى يعتنقها ، لسبب بسيط هو أن وضعية العالم الآن قد سمعت أفكار الناس وجعلتهم يفكرون على أسس لا يقرها المنطق المجرد الذى يأبى الأمير  إلا أن يتشبث به ؛ وإن هذه الظروف لأضيق من أن  تسمح بإذاعة تلك الأفكار الآن .

لقد كان بطل الريف الذي كنت أتصوره يتحلى بما يتحلى به فرسان الأساطير من صفات ؛ أما بطل الريف الذي رأيته وتحدثت إليه فهو فوق ذلك . كان يتتبع تمام التتبع الظروف التي تغيرت خلال المدة التي قضاها في المنفى وهو مؤمن بقضية بلاده وبقضية العروبة أكثر من أى وقت مضي ، ولم تستطع قسوة المنفى أن تؤثر عليه في ذلك ، كما لو كان قد استمر بكسب المعارك منذ عشرين سنة إلى الآن ، وهو على استعداد لأن يبذل في سبيل قضية العروبة وقضية بلاده فوق كل مابذله إلى الآن .

وهكذا سكب الجيل السالف دموعه لانهزام عبد الكريم ، بعد ان تضافر عليه الاسبان والفرنسيون وإنه لمن حسن الحظ أن الجيل الجديد في مراكش لم يتمكن من أن يسكب الدموع إثر ما كان يسعي بالهزيمة يومئذ ، ولم تكن هناك هزيمة مطلقا ثم ينهزم عبد الكريم لأن الفكرة التي أطلق الغار في سبيل الدفاع عنها غير قابلة لان تهزم ، ولم يبارحه هو نفسه الامل الرغم من قسوة المنفى أبدا

إن المعركة التي بدأت في مرا كش سنة ١٩١٢ عند فرض الحماية عليها ماتزال مستمرة إلى الآن ، ولن تنتهي إلا إذا رفعت عنها هذه الحماية الباغية ، ولقد خسر الامير

عبد الكريم سنة ١٩٢٦ إحدى المعارك التى نشبت فى سبيل الدفاع عن هذه القضية ، ولم يخسر هذه المعركة تماما لأن قلبه الكبير ظل حيا فى المنفى؛ وفهم أعداؤه أنه انهزم لأنهم كانوا أقصر نظرا من أن يدركوا حقيقة روح المقاومة فى هذه البلاد ، تلك الروح المستمدة من الروح العربية التى لا تدرك للحياة معنى دون حرية ولا كرامة .

لم ينهزم زعيم الريف المرا كشي حينما كان فارسا من فرسان الخيال ، لانه ظل ذكرى تهمس في ضمير الشعب الراكشي ؛ ثم لم يهزم عبد الكريم القائد الذي ينتسب

إلى عالم الواقع ، لأن جلالة الملك فاروق استطاع أن ينقذ المراكشيين من الهزيمة الحربية حينما أجار الامير عبد الكريم . لقد كانت المدة التي قضاها الأمير في المنفى فترة بين معركتين ، وكادت الهزيمة المارية ان تحيق بالمراكشيين ، وظلوا يهددون بها أكثر من عشرين عاما ، فإذا بالملك فاروق ينقذ الجيش المرا كشي المنهزم ، ويمكن أبطال الماضي من أن يعودوا إلى الميدان .

ولسوف تقتصر مراكش ، وتنصرف إلى بناء كيانها ، ولكنها لن تنسى أبدا فضل مصر وفضل الفاروق .

اشترك في نشرتنا البريدية