كنا في ذلك الوقت اطفالا لا نستطيع أن تدرك ان هناك ثورة في شمال مراكش يقودها الزعيم عبد الكريم ضد قوات الشر الاستعمارية ، ولم نكن نعرف معنى سكب الدموع على الوطن المتخن بالجراح بعد هزيمة عبد الكريم . ولست أدرى هل كان ذلك من حسن حظنا او من سوئه
بيد أنه إذا كانت ثورة زعيم الريف المراكشي قد انتهت إلى الهزيمة التي عرفها الناس ، بعد خمس من السنين الطوال ، دوخ فيها اعداءه وعلمهم الجزاء الذي يلقاه من ينتهك الحرمات ، إذا كانت ثورته قد انتهت إلى هذه النتيجة ، بعد أن تألبت عليه قوات الشر من كل مكان ، فإن صدى حرب الريف المرا كشية ظلت تتردد بعد ذلك سنين طويلة ؛ ولم يكد الزمن يتقدم بنا حتى بدأنا نتبين
ما حدث ، وهكذا أسيل الجيل المراكشى الجديد دموعه على هزيمة فرسان مراكش وأبطالها بعد أن انهزموا . وكما نعتقد أنها الهزيمة التى تحمل أدق معانى النهاية ، لأن عقولنا الصغيرة لم تكن قد تجاوزت مستوى عقول المستعمرين . ولذلك لم نكن نتصور أن هناك ما يسمى بالقوة المعنوية وأن فى استطاعة هذه القوة أن تتغلب على قوة الحديد والنار .
ولكن ما بال ذكرى الأمير عبد الكريم تلاحقنا فى كل مكان ؟ ما بال أصداء المدافع وأناشيد الأبطال تتردد فى آذاننا بعد أن سكتت المدافع وأسر الأبطال ؟ بل ما بال وجه الأمير عبد الكريم يطالعنا حيثما فتحنا عيوننا وأغمضناها ؟ لقد تغلغل فى ضمير الحياة الحياة المراكشية وعلمت ذكراه النشىء الجديد فى هذه البلاد أن هناك عزيزا قد أعين . قيل أن لكل شخص بطلا يستوحيه فى الحياة .
أما في مراكش فقد كان للجيل الجديد جميعه بطل واحد يستوحيه . وهذا البطل هو الأمير عبد الكريم ، وكان الامير البعيد عنا فارسا من فرسان الاحلام لم يكن بالنسبة لنا اسيرا في يد الفرنسيين ، وإنما كان من هؤلاء الفرسان الذين ينزلون من السماء وقد امتطوا البراق ليقودوا الحروب ضد الأشرار والظالمين ، ثم انتهت الحرب وارتفع الفارس مرة اخري إلى السماء على ظهر البراق . أما وقائع الحرب وأحداثها فكانت أقاصيص تروى في كل مكان عن الفارس الذي نزل من السماء
ثم تقدم الزمن بالجيل الجديد ، فبدأت ذكرى عبد الكريم تدفعه إلى العمل بعد أن دفعته إلى التخيل والتفكير . وبدأت المعركة مرة اخرى ، وبدأ الناس يزيحون عن كواهلهم أعباء الذل والمهانة . فغضب الفرنسيون والآسبان ، لأنهم يريدون المراكشيين مهانين أذلاء ، وظهر في الميدان من صاح في وجوه الفرنسيين والآسبان ( لا ) يملء حناجرهم ، وبدأ القمع من جديد ، وسالت الدماء من جديد ، ومن وراء ذلك كله ذكرى الأمير عبد الكريم تشد العزائم وتلهب المشاعر وتستهين بالطغيان .
وغضب الفرنسيون والأسبان فسلطوا سوط عذاب على من أبى ضيمهم ، وأطلقوا النيران ، وضربوا نطاقهم الحديدى ، وأمعنوا فى الإهانة والإذلال ، ولكن المغاربة جميعا زحزحوا ضيمهم ، واستهزأوا بنيرانهم ومزقوا نطاقهم ولم يذعنوا للإهانة والإذلال . ومن وراء ذلك كله ذكرى الأمير عبد الكريم ، الفارس المراكشى الذى علم المراكشيين أن الحديد يفل الحديد .
كان شياطين الشر يؤمنون بأنهم هزموا عبد الكريم ، ولكنهم غفلوا عن أن القضية التي شهر السيف في سبيلها غير قابلة لأن تهزم في هضاب الريف ، او تنتهي بمعركة ، أو ترهن بجيش ، وإذا كانوا قد اسروا الأبطال فإنهم
لم يأسروا القلوب التي في الصدور والمشاعر التي في القلوب والنار التي في الشعور
بتنا نؤمن بأن الأمير عبد الكريم لم ينهزم ، ولكن إيماننا كان ذا جانب معنوي ، ولم نكن نتصور ان الأقدار سوف تعمي الأشرار حينما طمعوا في أن يلعبوا به دورا ويهددوا به ملكا ، فينقلونه من منفاه القصى ويمرون به في قناة السويس ويقفون به في بور سعيد .
الأمير عبد الكريم في ميناء الفاروق ! وفي ظلال مصر ! فارس مرا كش الصنديد الذي شغل مداركنا وألهب شعورنا وعلمنا أن نرفع رؤوسنا فى ظل الخراب ؛ لقد عاد إلى الأرض الفارس الذي ارتفع إلى السماء ، وإذا فالأمير عبد الكريم ليس فكرة فحسب ، وإنما إنسان يتحرك ويسعى
وهرعت إلى بور سعيد لأرى مبادئى مجسمة في رجل ، وصعدت مع إخوانى إلى ظهر الباخرة ( كانوميا ) لكى أشبع عيني برؤيته بعد أن أشبع روحي بذكراه ، فما بال المحسوسات قد انهارت حولي كانني في احلام مجردة ؟ إنني أمام عبد الكريم بطل الريف ، فارس الجيل ، وبطلي الآسير وقد اكتفيت بالوقوف بعيدا لأنظر إليه وهو يجيب على أسئلة الصحفيين في حزم . وكنت صحفيا ، وحضرت لأداء مهمة صحفية ، ولكنني ظللت حيث انا اسمع صوته وكانني في حلم .
كنت أتأمل وجهه ، ذلك الوجه الذي عجز الزمن والمنفى والمرض عن التأثير فيه على مسحة البطولة والفضيلة والشرف .
كانت مسحة الخيال ما تزال عالقة به لانني كنت اعتقد أنني قابلت الأمير وهو اسير ، ولكنني رأيته بعد ذلك بعيني رأسي ينزل من الباخرة إلى الأرض ، إلى أرض مصر ، موئل الاحرار ، ومعقل العروبة ، فلم أكد أصدق أن صورة من أحلامى تتخطى عالم الآحلام إلى عالم الواقع ،
فلقد كانت تلك المسافة التي قطعها القائد الكبير بين الباخرة والميناء بمثابة قنطرة تربط بين ماض انتهى ومستقبل ابتدأ .
وأمعنت الأحلام إغراقا في الحقائق ، فإذا بي أري فارس مرا كش يركب السيارة من بورسعيد إلى القاهرة ، ثم زادت إغراقا حينما رأيت عشرات من شبان المغرب يستقبلونه عند باب مكتب المغرب العربي وهم ينشدون نشيد الحرب القديم ، وكانهم بنشدون صوت الحقيقة الجديدة.
طالما استعبدوا وأذلو الرقاب
أيها الأمير جاء يوم الحساب
وازدحم أبناء المغرب العربي في مكتب المغرب العربي حول فارس مراكش العظيم ، وهم ينشدون ويخطبون ، ولا يكادون يصدقون أن بطل الجيل قد أصبح حرا في رحاب مصر وحمي جلالة الفاروق .
ولكنني بالرغم من كل هذا لم استطع ان المس حقائق الأحلام في تلك الفترة العابرة الخطيرة من تاريخ مراكش في مصر ، لأن بطل الريف انتقل إلى قصر أنشاص ضيفا على جلالة ملك مصر العظيم ، ولم أتمكن من ذلك إلا في مدينة الإسكندرية حيثما انتقل الامير إليها للاستشفاء .
من هو الأمير عبد الكريم ؟ إن الأيام لتساعد الخيال على ان يزيد في عظمة الرجال العظماء ، كلما بعدوا عنا زمانا أو مكانا ، ولقد قضيت ساعات طوال استمع فيها إلى أحاديث الأمير ، فكانت كل لحظة من تلك الساعات تزيدني إيمانا بأنني كنت عاجزا عن ان اتصوره على حقيقته ، بالرغم من المساعدة التي قدمها إلى خيالي . لم أكن في حاجة إلى أن أنتسب إلى مرا كش أو إلى البلاد العربية لكى أقدره ، فإن مجرد انتسابي إلى الإنسانية كاف لأن يدفعني إلي ذلك ،
بعد أن سمعته يروى حوادث الحرب والسياسة ، وموقف بلاد المغرب العربى وموقف مراكش ، وكأنه أشد أبناء هذه البلاد اتصالا بها خلال ربع القرن الأخير .
ويكفى أن نقول إن الظروف الحاضرة ماتزال قاصرة عن أن تدرك عمق النظريات التى يعتنقها ، لسبب بسيط هو أن وضعية العالم الآن قد سمعت أفكار الناس وجعلتهم يفكرون على أسس لا يقرها المنطق المجرد الذى يأبى الأمير إلا أن يتشبث به ؛ وإن هذه الظروف لأضيق من أن تسمح بإذاعة تلك الأفكار الآن .
لقد كان بطل الريف الذي كنت أتصوره يتحلى بما يتحلى به فرسان الأساطير من صفات ؛ أما بطل الريف الذي رأيته وتحدثت إليه فهو فوق ذلك . كان يتتبع تمام التتبع الظروف التي تغيرت خلال المدة التي قضاها في المنفى وهو مؤمن بقضية بلاده وبقضية العروبة أكثر من أى وقت مضي ، ولم تستطع قسوة المنفى أن تؤثر عليه في ذلك ، كما لو كان قد استمر بكسب المعارك منذ عشرين سنة إلى الآن ، وهو على استعداد لأن يبذل في سبيل قضية العروبة وقضية بلاده فوق كل مابذله إلى الآن .
وهكذا سكب الجيل السالف دموعه لانهزام عبد الكريم ، بعد ان تضافر عليه الاسبان والفرنسيون وإنه لمن حسن الحظ أن الجيل الجديد في مراكش لم يتمكن من أن يسكب الدموع إثر ما كان يسعي بالهزيمة يومئذ ، ولم تكن هناك هزيمة مطلقا ثم ينهزم عبد الكريم لأن الفكرة التي أطلق الغار في سبيل الدفاع عنها غير قابلة لان تهزم ، ولم يبارحه هو نفسه الامل الرغم من قسوة المنفى أبدا
إن المعركة التي بدأت في مرا كش سنة ١٩١٢ عند فرض الحماية عليها ماتزال مستمرة إلى الآن ، ولن تنتهي إلا إذا رفعت عنها هذه الحماية الباغية ، ولقد خسر الامير
عبد الكريم سنة ١٩٢٦ إحدى المعارك التى نشبت فى سبيل الدفاع عن هذه القضية ، ولم يخسر هذه المعركة تماما لأن قلبه الكبير ظل حيا فى المنفى؛ وفهم أعداؤه أنه انهزم لأنهم كانوا أقصر نظرا من أن يدركوا حقيقة روح المقاومة فى هذه البلاد ، تلك الروح المستمدة من الروح العربية التى لا تدرك للحياة معنى دون حرية ولا كرامة .
لم ينهزم زعيم الريف المرا كشي حينما كان فارسا من فرسان الخيال ، لانه ظل ذكرى تهمس في ضمير الشعب الراكشي ؛ ثم لم يهزم عبد الكريم القائد الذي ينتسب
إلى عالم الواقع ، لأن جلالة الملك فاروق استطاع أن ينقذ المراكشيين من الهزيمة الحربية حينما أجار الامير عبد الكريم . لقد كانت المدة التي قضاها الأمير في المنفى فترة بين معركتين ، وكادت الهزيمة المارية ان تحيق بالمراكشيين ، وظلوا يهددون بها أكثر من عشرين عاما ، فإذا بالملك فاروق ينقذ الجيش المرا كشي المنهزم ، ويمكن أبطال الماضي من أن يعودوا إلى الميدان .
ولسوف تقتصر مراكش ، وتنصرف إلى بناء كيانها ، ولكنها لن تنسى أبدا فضل مصر وفضل الفاروق .

