الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 454الرجوع إلى "الثقافة"

عبرة الاحتكام

Share

حينما اعتزمت مصر ان تتقدم بقضيتها الوطنية إلي هيئة الأمم المتحدة ، كان يخالجنا شعور من التريث والتحفظ إزاء ما يمكن أن تجنيه مصر من وراء هذا الاحتكام الدولي الخطير . وبالرغم مما تمتاز به قضيتنا من الوضوح ، وبالرغم مما بطبعها من قوة المنطق والحق والعدالة ، فقد كنا نرى منذ البداية أن من الإسراف في التفاؤل ان يعتقد معتقد أن مجلس الأمن يستطيع أن يصدر قراراً صريحا قاطعا بإجابة المطالب المصرية ، أو أن الدول التى يتألف منها المجلس ستواجه الحقائق الصريحة الواضحة بشجاعة وولاء . ذلك أن هيئة الأمم المتحدة ، بالرغم مما أسند إليها في دستورها من الهام السامية ، كالسهر على صون الأمن الدولي ، والفضاء على أعمال العدوان ، وتسوية النازعات الدولية التي يمكن أن تؤدي إلي تعكير السلم ، والعمل على تقوية أواصر الودة بين الأمم ، وتوطيد السلام العالمي :

تقول إن هيئة الامم المتحدة قد أبدت في حياتها القصيرة ، سواء علي يد جمعيتها العمومية ، أو مجلس الأمن الذي هو أداتها التنفيذية ، انها تفهم هذه المهام السامية التي أسندت إليها بطريقة خاصة لا تتفق دائما مع منطق العدالة الصريحة ، ولا تتفق بالأخص مع الحقوق الطبيعية والأماني المشروعة للدول الصغري ؛ وإنما تخضع غالبا للمؤثرات

الدولية ، أو الأهواء والمصالح المختلفة. وقد كان عرض المسألة المصرية على مجلس الأمن أعنف تجربة من نوعها لاختبار وسائل هذه الهيئة الدولية الخطيرة ، واختبار مبلغ حرص الدول الكبرى على تأييد مبادئ الحق والعدالة الدولية . ولكن حدث في نفس الوقت الذي كانت تعرض فيه القضية المصرية على المجلس بأوفى بيان وتفصيل ، ان عملت المحاولات السياسية عملها فيما وراء الأروقة ، وكان من نتائجها أن تقدمت البرازيل ، وهي إحدي الدول الست الصغري المشتركة في عضوية المجلس بإقتراحها الذي يرمي إلي استئناف المفاوضات المباشرة بين مصر وبريطانيا ، وتوصية الدولتين باستعمال أية وسائل ودية أخرى لتسوية النزاع.

فلما فشلت هذه الحاولة الأولى ، تقدمت كلومبيا وهي كالبرازيل إحدي الدول الست الصغري بإقتراحها الذي يوصي أيضا باستئناف المفاوضات للوصول إلى تحقيق الجلاء مع عقد معاهدة دفاعية مشتركة للدفاع عن القناة ، وإلقاء الإدارة الثنائية في السودان مع تقرير حقه في الحكم الذاتي ؛ ولكن هذه المحاولة الثانية التي رتبت كسابقتها فيما وراء الأروقة فشلت أيضا ولم يكتب لها النجاح.

ونحن نستطيع أن نقرأ في هذه المحاولات وأمثالها

حقيقة الروح والأساليب التي تسير مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة .

ولم يبق الآن ريب في أن هذه الهيئة التي قامت لتوطيد السلام العالمي وقمع العدوان وتحقيق العدالة الدولية تؤثرأن تعالج قضايا الأمم الصغرى أو الضعيفة بطريقة خاصة ؛ وامامنا الآن غير المسألة المصرية مسألة فلسطين التى لحجأت هيئة الأمم في معالجتها إلي طريق المطاولة المأثورة ، وهي طريق تأليف اللجان ووضع التقارير والمقترحات ؟ ومسألة اندونسيا التي أوصي مجلس الأمن بشأنها أن يكف الطرفان المتنازعان عن القتال ، وأن تؤلف لجنة لبحث النزاع ، وبينها قبلت اندونسيا توصية المجلس وارتضت وقف القتال ، إذا بالقوات الهولندية المتدية تمضى في مهاجمة القوات الأندونسية ، وإذا بهولندة تحشد ما استطاعت من قوي جديدة ترسلها تباعا إلى ميدان القتال ، وذلك دون ان يتخذ مجلس الأمن أي إجراء فعال لوقف هذا الاعتداء والتحدي لقراراته.

ولا ريب في ان هذه الأساليب الملتوية وهذه المساومات السياسية التي تعقد خلف الأروقة لا يمكن أن تؤدي إلي تحقيق العلاج الناجع لهذه المشكلات القومية الخطيرة . أو إلي تحقيق الأماني المشروعة التي تجيش بها الأمم المهضومة ؛ وإنه لمن المحزن حقا أن نري هيئة الامم المتحدة تجري علي نفس الأساليب العتيقة التي كانت تجري عليها عصبة الأمم القديمة ، والتي كانت سببا في أن فقدت عصبة الأمم غير بعيد ثقة الأمم بمقدرتها ونزاعتها.

وقد مضي إلي اليوم أقل من عامين منذ بدأ مجلس الأمن الدولي يضطلع بمهمته الخطيرة ، ولا تذكر انه كان موفقا كل التوفيق في أية مشكلة من المشاكل التى عرضت عليه ، ولا نذكر انه استطاع أن يتخذ قرارا حاسما صريحا في أية مسألة من المسائل ؛ وأنه في الحالات القليلة التي

اتخذ فيها مثل هذا القرار ، استعملت الدول التي يعنيها الأمر حق المعارضة ( الفيتو ) ؛ وبالعكس فقد بدا المجلس في أغلب الأحيان مسرحا لنضال الدول الكبرى ، ومن وراء كل دولة فريق من الدول الصغرى ؛ وقد لسنا أثناء عرض المسألة المصرية آثار هذا النضال واضحة جلية ؛ ومن أشد بواعث الأسف ان يكون مصير حقوق الأمم وامانيها الحيوية رهنا بنتائج مثل هذا النضال

والواقع أن مجلس الأمن قد خيب كثيرا من الآمال التي علقت عليه ، وقد بدأت بعض الدوائر السياسية تتحدث بالفعل عن فشله في مهمته الأساسية ؛ ومما قالته في هذا الصدد جريدة " نيويورك تيمس " وهي من أعظم الصحف الأمريكية في إحدي مقالاتها الأخيرة : ( إن مجلس الأمن قد مني بالفشل في تأدية مهمته التى أنشئ من أجلها ، وهي المحافظة على السلم وحسم المنازعات بين الشعوب بالرغم من السلطات الواسعة التي خولت له والفرص الحسنة التي عرضت له . وقد أدت الأزمة التي يعانيها مجلس الأمن في الآونة الأخيرة إلي قيام حركة بين عدد من أعضاء هيئة الأمم المتحدة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى تقوية نفوذ الجمعية العمومية والحد من سلطة المجلس بالغاء حتى الفيتو . وتعتقد " نيويورك تيمس " أن السبب الحقيقي افشل مجلس الأمن في معالجة المشاكل التي عرضت عليه هو أن المجلس لم ينظر إلي هذه المشاكل على علاتها بعيدا عن المؤثرات السياسية الدولية وملابساتها ؛ بل كان يتأثر دائما في مداولاته وقراراته بسياسة القوة التي تبدو في أجلى مظاهرها في الصراع الدولي القائم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) .

ولا شك في أن هذه الصورة التى ترسمها الجريدة الأمريكية الكبرى لمجلس الأمن يؤيدها كثير من

الحقائق التي تجلت عند عرض المسألة ؛ على انه مهما كانت النتائج الأخيرة التي تنتهي إليها القضية المصرية أمام مجلس الأمن ، وسواءا كانت هذه النتائج محققة لآمال مصر ام مخيبة لها ، فإن مصر قد جنت من هذا الأحتكام الدولي اعظم الفوائد ، فقد اتيح لها ان تعرض وجهة نظرها القومية وان تعرف العالم بقضيتها من أعظم منبر دولي ، وقد كانت هذه القضية منسية مجهولة في كثير من الدوائر والأمم ؛ وقد اتيح لها في الوقت نفسه أن تفضح نبات الاستعمار البريطاني وأساليب السياسية الاستعمارية البريطانية التي لم تتغير عبر الحرب العالمية الثانية.

شيئا منها ، وأن تضع الدول الاستعمارية والمعتدية في المأزق الذي يقتضيه عدوانها ؛ وقد أتيح لها بالأخص أن تتعرف مناصريها الذين يعطفون على امانيها ، ومعارضها الذين يخشون بزوغ الحرية ونهوض الأمم ؛ وبهذا تستطيع في المستقبل ان ترسم لها سياسة خارجية مستنيرة قائمة على الحقائق الواقعة والصداقات المتبادلة . وهذه كلها فوائد جليلة أتاحها لما الاحتكام ال الدولي . فلنتظر إذا نتيجة هذا الاحتكام هادئين واثقين بعدالة قضيتنا وقدس حقوقنا .

اشترك في نشرتنا البريدية