الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 589الرجوع إلى "الثقافة"

عبقرية التذوق

Share

حق للقدماء أن ينزلوا العباقرة منزلة تداني منزلة الآلهة . فما عمدوا إلى ذلك إلا لفرط احساسهم بما انتج أولئك العباقرة ، وتذوقهم جمال الألوان وسحر الأنغام ونبل البطولة : تلك أمور غمرتهم بفيض من المشاعر والانفعالات الغامضة غير المحددة ، فأضفوا عليها وهم في نشوة الانفعال وتيه الغموض أوصاف القدسية والربوية . وأضحت العبقرية من ثمة سرا لا سبيل إلى الكشف عنه ، والعمل العبقري ظاهرة خارقة تستعصى على التحليل العلمي أو الاستقصاء الفلسفي . ولكنا نري فيلسوفا مثل " كنط " يخترق نطاق الأسرار ويعلن أن العبقرية بهذا المعنى لا وجود لها في مجال الفلسفة والعلم . إنما العبقرية فيهما ظاهرة طبيعية تحتمل التفسير وتقبل التعليل . مثلهما في ذلك مثل الفن اليدوي . فإن الآلة المبتكرة أو الجهاز المخترع كلاهما إبداع حقا ، ولكن ما إن يطلع المرء على تركيبه والخطوات التي مر بها والقواعد التي يخضع لها في حركته . حتى تتلاشى الأعجوبة وتصبح أمرا يمكن تقليده .

وهكذا يمكن تفسير أى عمل على اعتبار كونه راجعا العملية عقلية ، ومن ثمة يمكن انتقاله من فرد إلى آخر إن توفر العلم بعناصر هذه العملية ، وما دام في الإمكان توارد خطوات التفكير الخلاق ، واستيعاب تراث عظماء المفكرين وهضم ما توصلوا إليه من أفكار مستحدثة ، فليس ما يمنع أن يتحقق التقدم الفكري المطرد ، دون أن يكون هذا التقدم رهنا بوجود عقليات خارقة للعادة ، فالتقدم في جوهره إبداع طبيعي معقول ، وليس خلقا من لا شئ . وفوق ذلك فهو نتاج التفاعل بين من نسميهم عباقرة وبين أولئك الذين يدركون انتاج العباقرة ويتذوقونه ويستغلونه .

وهكذا إن جاز لنا أن نقدس العباقرة فلا يجوز أن

يتضمن هذا التقديس الظن بأنهم يخلقون التقدم أو يصنعون التاريخ ، إنما التقدم والتاريخ من صنع الجموع المبدعة والمدركة للإبداع على حد سواء .

اعجب " كنط " أيما إعجاب بتصور " نيوتن " للعالم الطبيعى ، وأطال التأمل فيما ينطوي عليه من تجديد وإبداع . ومع ذلك لم يأل جهدا في إنكار العبقرية - من حيث هي عمل خارق - في مجال العلم . وآية ذلك أن " نيوتن " قد عرض علمه على الناس ، ووجد هذا العلم سبيله إلى أذهان القراء ، حتى لم يعد سرا خافيا ، إنما أصبح ملكا مشاعا للجميع الذين بوسعهم أن يستغلوه في فتوح علمية جديدة . وما يصدق على العلم - في نظر " كنط " - يصدق على الفلسفة بدورها . فكل ما يعتبر فتحا جديدا من مذاهب الفلاسفة يمكن أن ينتقل إلى اللاحقين من الفلاسفة ، لأن المذاهب - أيا كانت - مكتسبات عقلية يمكن البرهنة عليها خطوة خطوة ، ويمكن للأتباع أن يتصوروها تصور العباقرة الذين ابتدعوها .

أين إذا تلك المسافة التي لا تعبر بين ذاك الذي يستقبل وذاك الذي يبدع ؟ لقد محاها " كنط " في مجال الفن اليدوي أى الاختراع ، وفي مجال الفلسفة ، وفي مجال العلم . ولكن ما ينكره هنا يثبته في مجال الفن الجميل . وحجته في ذلك أن العمل الفنى ليس خاضعا لتسلسل علل موضوعية تسلسلا يمكن حدوثه من جديد على نحو حدوثه في الفنان العبقري . فالعمل الفنى غير محددا موضوعيا كالمذهب الفلسفى أو القانون العلمي ، إنما هو متوقف على الفنان ذاته . ولا يمكن لأقرب الناس إليه ، وأكثرهم فهما وتذوقا لإنتاجه ومعرفة بالخطوات التى مر بها ، أن ينتج نفس ما أنتجه . يعجز عن ذلك لا الأوساط من الناس فحسب ، بل وكبار الفنانين أيضا . أجل إن الفنان الصادق لا يستطيع أن يعيد

في نفسه خطوات المنهج الذي سار عليه غيره من الفنانين الحلاقين . ذلك أن العمل الفني ليس شأن العلم أو الصنعة أو الفلسفة التى يمكن تفسير الإنتاج في كل منها تفسيرا عقليا شاملا ، وفي حين يمكننا تعلم الإنتاج في هذه الميادين ، يمتنع علينا أن نتعلم قيم الخلق الفني ، وهذا ما يجعل التقدم في ميادين العلم والصنعة والفلسفة ممكنا ، في حين لا معنى للتقدم ولا محل له في الفن . فالفن هو في جميع العصور وعند جميع الأجناس . فلا يقال إن هذا المن أسمي من ذاك وهذا أكثر تقدما من ذاك إن كان فنا بمعنى الكلمة ، أعني إن كان فنا عبقريا . وإن التفاوت بين المنتجات الفنية ليس تفاوتا في القيمة الفنية ، بل في خاصية الابتكار .

وهكذا نري أنفسنا مسوقين إلى فكرة " مارسل بروست " فكرة تكافؤ العبقرية على مر العصور وفي مختلف البقاع ، أيا كان للظهر الذي تتجسده شعرا كان أو رسما أو تمثالا أو نغما .

ومهما يكن من تفرقة " كنط " بين الإبداع العلمي والفلسفي وبين الإبداع الفني ، فهو قد قرب الشفة بين العباقرة وبين المستنيرين من البشر ؛ بل هو قد عقد الصلة الوثيقة بين عبقرية الإنتاج وبين عملية تذوق ذلك الإنتاج . وقد أمعن الفيلسوف الإيطالي " بندنو كروتشي " في هذا الاتجاه إذ جعل للتذوق عبقرية تقوم إلى جانب عبقرية الإنتاج . فإذا كان الإنتاج يتفاوت فيما يكشف عنه من عبقرية ، كذلك التذوق يتدرج من الإحساس الساذج بجمال الإنتاج العقري ، إلى البصر النافذ والتقدير العميق .

على أن التذوق ليس مجرد قبول سلبي ، أو فهم بسيط ، إنما هو عملية معقدة بدورها تعقد الإنتاج ذاته . وهو ينطوي على أصالة يتفاوت حظ الأفراد منها . فإن تقدير المرء لعمل فني ليس مجرد انطباع لهذا العمل في ذهنه ، بل العمل يثير من المشاعر والأحاسيس ، والأخيلة والأفكار ، التى تختلف من فرد إلى اخر من حيث العمق والحسب . وعليه فليست الرابطة التي تربطنا بالعبقرية هي الغرابة الصادرة عن استشعارنا العجز إزاءها ، بل هي على العكس من ذلك قدرة

فينا على الخلق تتجاوب مع الإنتاج العبقري ، وتتحد في مجال روحي واحد ، وتلتقي عند نقطة واحدة ، هي نقطة التذوق . ليست الأصالة نصيب المنتج فحسب ، بل هي نصيب المدرك والناقد أيضا .

والحق أن قيمة العبقرية ليست منحصرة في الإنتاج العبقري وحده ، بل هي كامنة فينا أيضا ، كمون النار في الحجر الصوان ؛ وإنا إن عجزنا عن الإنتاج الفني ، فقد لا تعوزنا القدرة على التقدير الفني . وإنا لنفقد أصالتنا ، وتبدد ما في أعماقنا من مصادر الإبداع ، ونطمس نفحات الإلهام في انسيابنا الأحمق مع تيار الحياة اليومية ، واستسلامنا الممقوت للمشاغل المبتذلة والاهتمامات التافهة . وبوسعنا - لو أردنا وعزمنا - أن نكشف عن آفاق خافية يترادى

لنا فيها من الأفكار والمشاعر ما ينير - ولو إلى حين - ظلام الحياة الجارية . وهل للعبقرية وجود ، إن لم تكن تمة نفوس تهفو إليها ، وتتسامي ، وعقول تنفذ إلى أسألتها لتقدرها وتقومها ؟ ! وهل يمكن للعبقري أن يبدع إن لم يكن ثمة من يمس أصالته بأصابع الإلهام السحرية ! ما أصدق " ريمان " الفيلسوف الفرنسي حين أراد التعبير عن هذه الفكرة بدعائه الذى رتله في محراب الديموقراطية : " أيتها المشرعة ، يا مصدر العدالة ، أيتها الديموقراطية ، إن عقيدتك الأساسية أن كل خير يأتي من الشعب ، وانه حيث لا يوجد شعب يذكي العبقرية ويلهمها فلا يوجد شئ ؟ علمنا كيف نلتقط الجوهرة المكنونة في غمار الجموع العقل " .

اشترك في نشرتنا البريدية