الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثامن عشرالرجوع إلى "الرسالة"

عدل السماء

Share

الفرق بين عدل السماء وعدل الأرض هو بعينه فرق ما بين  السماء والأرض..!

فأما أهل الأرض فقد سلك كل منهم طريقا لتحقيق العدل  فى بلاده. فهذه دولة محاكمها تطبق قوانينها على الناس كما هو  الحال فى فرنسا وفى مصر. وتلك دولة أخرى تجرى محاكمها  على سنن الأحكام التى أصدرتها المحاكم من قبلها كما هو الحال  فى انجلترا. وهؤلاء قوم لهم عادات مقررة وعرف موروث  فتنعقد مجالسهم كلما دعا الحال لتحكيم تلك العادات وذلك  العرف بين المتقاضين، وهذا هو شأن العرب المقيمين فى  مناطق الحدود المصرية. وأولئك قوم غيرهم يلجأون الى  السحرة والكهان للفصل فى قضاياهم كما هو الحال عند بعض  قبائل أفريقيا الوسطى. . .

وكل هذه الهيئات انما تجرى على النظام الذى اختارته، لأنها  تعتقد أنه اكفل الطرق للوصول الى العدل. وليس من شك  فى أن كلا من هذه النظم له نقائصه. ولكنه على كل حال آخر  ما وصلت اليه الهيئة التى اختارته فى سبيل تحقيق العدالة بين  أفرادها.

والخلاصة أن الانسان لم يصل بعد إلى درجة الكمال فى  تشريعه، وأنه بحاجة الى موالاة الجهود فى سبيل بلوغ هذا  الكمال.

والسؤال الذى يجيش بالنفس بعد هذه المقدمة هو :

هل يستفاد مما سبق أن الظلم يملأ هذا العالم. وأن العدالة  فيه مستحيلة التحقيق؟

الواقع غير ذلك! بل أن المشاهد فى معظم الأحوال أن  العدالة محققة فى هذه الدنيا. وأن الناس راضون عن طريقة  توزيعها بينهم. ومهما يكن من أمر الحالات التى يدل ظاهرها  أحيانا على أنها لم تتوفر فيها عناصر العدالة فان (عدل السماء)

غلاب. وهو الذى يتولى فى هذه الحالات إقامة الميزان بين الناس. وما ربك بظللام للعبيد !

حدثنى أحد الزملاء المحامين قال :

وقعت جناية قتل فى البلدة التى أعمل فيها، واتهم فى تلك  الجناية شاب من خيرة شبانها. ينتمى الى أسرة من كبار الأسر  فيها. فجاءنى عمه يوكلنى بالدفاع عنه. وأقسم لى أغلظ الايمان  أن ابن أخيه برىء وأن أهل القتيل اتهموه لضغينة قديمة  بينهم وبين أسرته، وأن القاتل معروف فى البلد. وأن أهل  القتيل هم أول من يعرفه. ولكنهم إمعانا فى الانتقام يريدون  أن يأخذوا فى قتيلهم رجلين. . واحدا يأخذه لهم القضاء  بحكمه. وواحدا يقتصون منه بأنفسهم كما هى العادة عند  معظم أهل الصعيد. ولما  كان القاتل الحقيقى هينا عليهم فانهم  استبقوه لأنفسهم وتركوا أمر هذا الشاب للقضاء.

قال صاحبى: فلما وقفت على هذه المعلومات حفزنى الأمر  الى مضاعفة العناية بالقضية. فاطلعت على أوراقها بكل دقة  ويقظة، فوجدت أدلة الاتهام فيها قوية ناطقة. ورأيت جملة  من شهود الأثبات تطابقت أقوالهم فى محاضر التحقيق، وقد عجز  المحقق عن أن يحدث ثغرة فيهم تدل على تلفيقهم. اذ قرروا  جميعا أنهم رأوا المتهم وهو يطلق النار على القتيل. وأنهم  شاهدوه عقب ذلك وهو يفر. ووصفوا اتجاه سيره أدق وصف،  ونوقشوا فى ألوان ملابسه وفى نوع سلاحه وفى غير ذلك من  التفصيلات فكانت أقوالهم دائما واحدة لا تحريف فيها ولا  تبديل!

أزاء ذلك استولى اليأس على صاحبنا المحامى، ولم يبق له من القوة على الدفاع إلا قوة يقينه هو بأن المتهم برىء بناء على تأكيدات عمه..

وحل موعد المحاكمة فتوجه إلى المحكمة. ونودى على القضية، وسئل المتهم عن تهمته فأنكرها بكل شدة . وسمعت أقوال الشهود فأذا هى نفس أقوالهم فى التحقيقات . وترافعت النيابة فقالت إن القضية لا تحتاج إلى نور جديد وأن أقوال الشهود قاطعة فى الأدانة . ونهض الدفاع وحاول أن يثير

ما استطاع من الشكوك حول موقف المتهم، ولكن الحكم صدر فى النهاية بمعاقبة المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة ...

عاد المحامى فى ذلك اليوم إلى مكتبه مكتئبا حزينا على ما حل بهذا الفتى التعس. ولقيه هناك عمه فألفاه على هذه الحال . فابتدره المحامى بالسؤال عن كيفية اتفاق الشهود على كل تلك التفصيلات التى شهدوا بها إن صح ما يدعيه هو من أنهم ملفقون .

فقال له الرجل : إن الشهود قد شاهدوا القاتل الحقيقى فعلا وهو يرتكب جريمته. واتفقوا فيما بينهم لارتباطهم بأسرة القتيل ) على أن يرووا كل ما شاهدوه ولكن منسوبا إلى المتهم الحالى بدل أن ينسبوه إلى فاعله الأصلى . ومن هنا جاءت أقوالهم كلها متطابقة، لأنهم إنما يقررون من الوقائع ما وقع فعلا تحت سمعهم وبصرهم! ***

وهنا يقول صاحبى إن ثورة عنيفة أدركت نفسه ضد هؤلاء  المزورين الذين تمكنوا من مخادعة القضاء الى هذا الحد،  والتوسل به إلى إنزال العقاب الذى يشاءون على من يشاءون.  ولكنه آنس شيئا من الاستسلام غير عادى يغلب على نفس  عم المتهم، بينما هو يعانى من ثورة النفس شدتها وغليانها.  فلم يكتم صاحبه ما يجول بخاطره. وهنا رفع عم الفتى رأسه وقال:  الحق يا أستاذ أن الفتى يستحق العقاب الذى أنزله به القضاء  فسأله المحامى فى دهشة:

- وكيف يتفق ذلك مع ما قدرته الآن من أنه لا يد له فى هذه الجريمة؟ فقال الرجل :

اشترك في نشرتنا البريدية