وصلنا بغداد مساء يوم الأحد ٦ فبراير سنة ١٩٣٨ بعد ان قطعنا بالقطار وبالسيارة ١٧٠٠ كيلومتر ، أي قدر المسافة بين القاهرة وأسوان مرتين ، ونزلنا بلوكاندة ( مود ) وهي لوكاندة قديمة مشهورة ، وقد استجد ببغداد غيرها أحسن منها بناء وأوفر استعدادا ، وللوكاندة وجهتان تطل إحداهما علي الشارع الرئيسى للمدينة ( شارع الرشيد ) ، وتطل الاخري علي نهر دجلة .
جلست في الشرفة في ضوء القمر انظر إلي منازل الشاطئ المقابل : شاطيء الكرخ ، وإلى دجلة وماء دجلة وإلي جسر القوارب ، وإلى منازل الرصافة ، وإلى شجر النخيل ، وإلى القوارب الرأسية في النهر ، وإلي السماء ، وإلى الأرض ؛ وأطيل النظر ، وأعيد ذلك وأكرره ، فلم يوح إلي المشهد بشيء عن عظمة بغداد الغابرة
احتسيت فنجانا من القهوة ، ودخنت سيجارة ،
وارتديت معطفى ، وغيرت مكاني وجلست في مقعد اوسع ، ثم حاولت ان استشعر شيئا عن عظمة بغداد : بغداد عاصمة الرشيد ، مقر الخلافة ، مقر الثروة والغني والبذخ والجاه العريض ، مقر الأدب والعلم والقصور العامرة ، مهبط الشعر والفن والخيال الرائع ، فلم اجد صدي لكل ذلك في نفسى ، فمنازل الرصافة كمنازل مصر القديمة على النيل عتيقة لا جمال فيما ولا فخامة ، ومنازل الكرخ على الشاطئ المقابل كمنازل الجيزة على النيل ، عتيقة كذلك لا جمال فيها ولا فخامة . ودجلة بين الرصافة والكرخ كالنيل وقت انخفاضه بين مصر العتيقة والجيزة ، ماؤه عكر وشواطئه عارية لا جمال فيها ولا تجميل
ثم احتجب القمر واشتد البرد ، فدخلت بهو اللوكاندة حيث وجدت في ركن منه مجلسا ضم خيرة رجال التعليم بالعراق ، اتوا للترحيب بنا والتعرف إلينا ، فتكرم سعادة العشماوي بك وقدمني للحاضرين ، وكان سعادة السيد طه الراوي مدير عام المعارف ( وكيل الوزارة ) يتكلم عن التعليم بالعراق ، ماضيه وحاضره ومستقبله بعبارة هادئة متزنة ، ثم تعرفت بالسيد تحسين ابراهيم مدير عام البحث الفنى والسيد
يوسف على الدين المفتش العام والسيد هاشم الألوسي مدير منطقة معارف بغداد والسيد عبد الجبار شلبي مدير التعليم الابتدائي ، وكان مما عنوا باطلاعنا عليه بصفة خاصة بعض المشاكل التعليمية والاجتماعية التي تواجه رجال التعليم بالعراق ، فإذا بينها وبين ما نواجه نحن في مصر شبه كبير ؛ فمسألة تعليم البنت ، ومسألة اختيار نوع التعليم الذي يلائم البيئة والحاجة ، ومسالة التعليم العالي والجامعى ، كل هذه وما شابهما لا تزال مشكلات يحاولون حلها على وجه يتفق وحاجة الشعب العراقي وتقاليده
وظهر لي من سياق الحديث ومن زياراتنا لبعض المدارس والمعاهد الدينية فيما بعد أن رجال التعليم في العراق اكثر منا حرية واستقلالا في حل مشاكلهم ، وذلك لأسباب كثيرة : منها أنهم يبنون على أساس حديث معظمه من وضع ايديهم ، كما انهم غير مقيدين لدرجة كبيرة بتقاليد قديمة موروثة وغير ملزمين بإحترامها والمحافظة عليها ومراعاتها فيما جل من الأمور أو صغر . وبسبب هذه الحرية والاستغلال وتحللهم من قيود القديم وتحديدهم المقاصد التي يتوخوتها في التعليم والأغراض التي يرمون إليها ، أمكنهم أن يضعوا نظامهم التعليمي علي أسس بسيطة خالية من التعقيد والتبذير ، وان يرقوا بالتعليم في زمن وجيز إلي مستوي يحسدهم عليه كثير من الأمم الشرقية المجاورة لهم ومما لاحظته أن الوسط المدرسي عندهم قليل التباين والاختلاف . فالتعليم الابتدائي مثلا نوع واحد ، فليس هناك تعليم أولى قديم وتعليم أولى جديد وتعليم إلزامي ، بل تعليم ابتدائي واحد للجميع . ومدارس تخريج المعلمين تخضع لنظام واحد وروح واحدة . والتدريب العسكري إجباري في جميع المعاهد المتوسطة وما فوقها من غير تفرقة أو تميز ومما يغبط عليه رجال التعليم بالعراق ثلاثة أمور هامة : أولها استعدادهم الحسن لقبول النصيحة والمعونة الخارجية .
وثانيها ديمقراطيتهم في تصريف الامور والتفاهم عليها ، فقد قيل لي إن ناظر المدرسة مهما كانت درجتها يمكنه أن يخاطب مباشرة بالتلفون أو المكاتبة أو المقابلة كل الكبار في وزارة المعارف ، من الوزير فنازلا ، في الأمور المتعلقة بمدرسته من غير ان يكون ذلك موضع لوم او تذمر او استغراب . وثالثها انتفاعهم بكل الكفايات المتخصصة من غير نظر إلي اعتبار السن أو الماهية ، فالشبان العائدون من البعثات في الخارج يعينون في وظائف فنية هامة لا يصل إليها شبابنا الا بعد سنوات طويلة .
ومما لاحظته في هذا الباب أيضا وجود صلة صداقة متبادلة بين رجال المعارف وحكام الاقاليم ، ففي زيارة الحلة وفي زيارة بعقوبة عاصمة مديرية ديالة كان حاكم الأقليم ومفتشو المعارف الذين رافقونا يتحدثون في امور التعليم المتعلقة بالمنطقة حديثا ودبا ويتناقشون في الاجراات مناقشة رائدهم فيها صالح التعليم وصالح الاقليم ، فيطالبهم المدير بأمور ويطالبونه بأمور من غير ان تشعر من نغمة الحديث او طريقته أن هناك امرا ومأمورا .
وفي صباح اليوم التالي خرجت إلي شارع الرشيد ومشيت فيه مسافة طويلة ورايت يد الاصلاح تعمل بجد في تنظيفة وتنظيمه . ولا تزال بعض المباني القديمة بارزة في الشارع خارجة عن خط التنظيم . ثم دخلت بعض الحارات والإزقة وهي في مجموعها كثيرة الشبه بحي الجمالية بالقاهرة ، فمنازلها من طابقين ، ولا يزال بعضها محتفظا بطابعه الشرقى القديم من مشربيات وزخرفة من الجص على هامش الأبواب ونوافذ عليها قضبان الخ . ويستخدم أهل بغداد
في بناء المساكن طوبا مشوبا لونه ضارب إلي الصفرة ، ويتركون ظاهرها من غير طلاء ! اكتفاء بلون الطوب ، كما أنهم قلما يركبون على الشبابيك دلفا من الخشب بل يكتفون يدأف الزجاج والغالب ان تختص كل عائلة بمنزل مستقل ، ولهذا كانت أجور المساكن ببغداد مرتفعة . وأما المساكن التي على النظام الحديث فقليلة ولا توجد إلا في بعض الأحياء المستجدة
ثم تجولت في أسواق المدينة ، وبعضها عتيق ضيق من النوع المسقوف ، والحوانيت صغيرة كثيرة الشبه بحوانيت سوق الفحامين بالقاهرة ، والحركة فيها هادئة ، ومعظم الزبائن من الرجال ، وأما النساء فعددهن قليل ومعظمهن من الفلاحات ( نساء العشائر ) ، سافرات الوجوه يلبسن إزارا اسود واسعا ، ويضعن فوق رؤوسهن " العصبة "، و" الملس " ويكثرن من الوشم على الذقن والشفاه ، ودخلت سوق الصاغة ومعظم معروضاته من الفضة المشغولة ، وبعضها مطعم بالميناء السوداء من صناعة الصبائية . وفي العودة إلي اللوكاندة التقيت في شارع الرشيد بسيدات تلوح عليهن النعمة ، يسرن وحيدات سافرات الوجوه يلبسن العباءة السوداء ( العبا ) ويغلب
عليهن طول القامة ، ونحافة الجسم ، وبياض الوجه ، وحسن الملامح .
وفي الضحى توجهنا لزيارة البلاط الملكي ، وهو يقع في شمالي المدينة ، وقيدنا اسماءنا في السجل ، وقابلنا هناك معالي السيد رشيد الخوجه السكرتير الخاص لجلالة الملك غازي ، ومعالي السيد عبد الله الدملوجي رئيس التشريفات .
ومن البلاط ذهبنا لزيارة ضريح المغفور له الملك فيصل ، وهو عبارة عن قبة عالية يحملها بناء مضلع الشكل
جميل الوضع والموقع . ثم انتقلنا إلي ديوان رياسة الوزارة ، حيث قابلنا فخامة الرئيس جميل بك المدفعي مقابلة لطيفة ، وهو جم التواضع يلبس البدلة والسدارة ( الفيصلية )
رأيته في مأدبة سعادة عزام بك ، لا يتكلم إلا قليلا ، وإذا أعجبه كلام الآخرين اومأ برأسه علامة الاستحسان ، وإذا اشترك في الحديث ضن برأيه الخاص وقال لي بعض الحاضرين : إن المدفعي بك يتمتع بمحبة الشعب واحترام الاحزاب ، تقلد امور
الدولة عقب محنة المرحوم بكر باشا صدقي قائد الجيش ، وكانت البلاد علي شفا حرب اهلية ، فتوصل بحكمته وحزمه ودهائه إلي تلطيف الحالة وإعادة السكينة . ورأيته نائبا عن جلالة الملك غازي في حفلة افتتاح المؤتمر الطبي وهو يخطب ، فكان واضح الصوت رصين العبارة ، وكانت خطبته متينة قصيرة خالية من التنميق .
وديوان الرياسة بسيط يتكون من غرفتين في الطابق العلوي من بناء قديم ، إحداهما للسكرتير والأخري لفخامة الرئيس ، وغرفة السكرتير فيها بعض المقاعد ومكتب واحد لسكرتير واحد ، استأذناه في الزيارة فدخل وعاد يدعونا للمقابلة على الفور .
ثم قصدنا وزارة المعارف وتشرفنا بمقابلة معالي الشيخ
محمد رضا الشبيبي في مكتبه ، ودار الحديث بيننا طويلا حول ما تجري عليه في مصر وما يجري عليه العراق فيها يتعلق بميزانية التعليم ونظمه واغراضه ودرجة تقدمه وانتشاره . وتناول العشماوي بك الموضوع بالشرح والتعليق ، فصادف الكلام هوي في نفس الوزير فأنصت باهتمام ، وكنا كلما هممنا بالإنصراف طلب المزيد والوزير يلبس العمامة والجبة والقفطان والعباءة علي طريقة علماء النجف ، وهو من وجهاء الشيعة ومعدود من كبار أدباء العراق . رأيته في الوليمة التى أقامها سعادة صبحي بك امين العاصمة السابق تكريما لنا ؛ فكان كثير الصمت لا يتكلم إلا همسا ، وأحيانا يسر بالنكتة إلي أقرب الجالسين منه فيرتفع صوتهم بالضحك
ورايته في اللوكاندة لما أتى لرد الزيارة فكان كثير المجاملة لطيف المباسطة
وديوان وزارة المعارف في بناء قديم أيضا من طابق واحد ، ولا يقيم فيه عادة إلا الوزير والمديرون ، وأما المفتشون ومديرو التعليم فيقيمون في مناطقهم بالأقاليم .
ثم توجهنا لزيارة دار المعلمين الابتدائية فاستقبلنا ناظرها الأستاذ السيد خالد الهاشمي وأساتذتها ، والتي حضرته كلمة لطيفة ضمنها ما في نفسه ونفس زملائه من المودة والإعجاب
بالنهضة المصرية ، ورد عليه العشماوي بك بكلمة أخري شرح فيها ما رآه من مظاهر النهضة العراقية ، وما يتمناه للقطر الشقيق من تقدم ورقي .
وعند الظهر توجهنا جميعا لزيارة دار المفوضية المصرية ببغداد ، واستقبلنا سعادة عبد الرحمن بك عزام في داره استقبالا حافلا ، وعزام بك شخصية بارزة محترمة محبوبة جدا من العراقيين شعبا وحكومة ، ومعدود هناك من اصحاب الدار ، فيقصده الكبير والصغير للوساطة والمشورة . ودعانا سعادته في داره مرة على الشاي ومرتين على العشاء ،
الأولى مع أفراد أسرته وموظفي المفوضية ، والثانية مع فخامة رئيس الحكومة ووزير المعارف ومديريها . ويمتاز عزام بك بنزعة عربية واضحة ، وحديثه طريف لطيف ، يحدثك عن شئون مصر والعراق وإيران وأفغان وتركيا ، بصراحة العربي الصميم المطلع على خفايا الأمور ، ويرجع بك إلي ماضيه في الحرب العظمي ، وجهاده مع عرب طرابلس ، واختباراته ومساعيه . سألته : هل نهضة الشرق . الحالية نهضة حقيقية ؟ قال : بلا شك ، ولكن يعوزها المال والرجال ؛ أما المال فللقيام بالمشروعات العمرانية التي يفتقر إليها الشرق أكبر افتقار ، وأما الرجال فللحكم الصالح الذي أساسه العدل الشامل والتنظيم المتين .
حدثنا أحد الرفقاء قال : بين العراق وانجلترا معاهدة كالتي بين مصر وانجلترا ، ومن نصوصها شرط يقضي بشراء السلاح اللازم للجيش العراقي من انجلترا دون غيرها ، ففي وزارة فخامة السيد حكمت سليمان ابطأت المصانع الانجليزية في توريد ما طلبته العراق من السلاح ، قوات العراق وجهها شطر المانيا ، واستوردت حاجتها منه ، فقام نزاع بين الطرفين على هذه المسألة ، وبعد مشادة طويلة لجا الطرفان إلي التحكيم ، وانتخبوا عزام بك حكما . ثم قال : أتدري ما الذي حكم به ؟
قلت : لا . قال : قضى لنا بصواب ما عملناه قلت : بارك الله فيه ، وهل دهشتم لهذا الحكم ؟ قال : لا لم ندهش للحكم نفسه ، فقد كنا واثقين
من عدالة قضيتنا ، ومن حسن تقدير الحكم لظروفنا ، ولكن الذي ادهشنا حقا هو سلوك السفير البريطاني : فانه كان أول من توجه بالتهنئة لعزام بك على هذا الحكم !
وبعد الظهر زرنا برفقة السيد رشيد على العبيدي معتمد نادي المعارف ، مسجدي الشيخ عبد القادر الجيلاني وحضرة الإمام الأعظم ابى حنيفة ، وكلاهما من جوامع السنية من الطراز التركى فيهما ضخامة البناء وبراعة الهندسة ، ولكن ليس فيهما رشاقة الفن الذي ينجلي في جوامع الشيعة : ورايت على قبر الإمام الأعظم لوحة تحيط بالضريح مكتوبا فيها بخط جميل قصيدة من الشعر مطلعها
إذا ما الناس فقها فايسونا بآراء من الفتيا طريقة أتيناهم بمقياس عنيد مصيب من طراز أبي حنيفة ثم توجهنا لزيارة حضرة الامامين الكاظميين ( موسي الكاظم ومحمد الجواد ) خارج بغداد ، واستقبلنا في مدخل
الحرم شيخ المقام ، وهو وقور الطلعة كبير الهامة ، يلف على طربوشه الطويل عمامة خضراء ، فطاف بنا ارجاء المكان ،
وكان غاصا بالرجال والنساء جماعات جماعات ، ومع كل جماعة مطوف يرتل رثاء بعبارة محزنة وصوت تخنقه العبرات ، وهم من حوله يولولون ويبكون ويرددون ما يقول
والجامع تحفة فنية غاية في الإبداع : فجدرانه المغطاة بالفيشاني الأزرق ، وقبتاه المكسوتان بصفائح الذهب ، ومئذنته الرشيقة الجميلة ، وقطع المرايا الضلمة التي تتلألأ علي العقود والأعمدة ، وتركيبة الفضة علي الضريح ، كل ذلك نسيج من الفن الرائع لا يغني فيه
الوصف بل يجب أن تتمتع برؤيته العين ( للكلام بقية )
