شر فى القراد صناعة الطعم الواقى
وصل الفائت : البيت الأحمر معمل علمى فى وشنجتن ، والعصابة التى فيه جماعة من العلماء الأطباء تشجعهم حكومة الولايات المتحدة ، يبحثون الأدواء حيث ما ظهرت فى الولايات . ودين الجميع الموت فى سبيل الواجب .
وأحد هذه الغصابة الدكتور (( اسبنسر )) ، أشخصه الحكومة إلى الغرب ، إلى ولاية (( منتانا )) , إلى حيث الوادى الجميل وادى (( بطروط )) ، وبه هى خافية تصيب الناس فقتلتهم .
حزم (( اسبنسر )) أمتعته وزوجه وطفلين له ، وركب القطار فبلغ بلدة (( كرستين )) فى تلك الولاية بجوار ذاك الوادى .
واستقبلهم هناك (( بركر )) وهو دكتور فى علم الحشرات وبدأ الرجلان يحسان سبيلا لبحث هذه الحمى .
وقد وصلنا من قصتهم وقصة أصحابهم ، من مات منهم ومن حيا ، بل أنهم أثبتوا أن القراد هو سبب الحمى بنقلها إلى الإنسان بالعض ، وأن القراد ينضمر فى برد الشتاء فينام وينام فيه الوباء ، فإذا حقن سحيق القراد فى حيوان لم يصبه المرض . فإذا جاء دفء الربيع ، واستيقظ القراد سقط من فوق الشجر على أجسام الحيوانات فى ذلك الوادى فضرب من دمائها حتى ينقح ، وعندئذ يستيقظ الشر فيه . فإذا حقن سحيق هذا القراد فى حيوان التهب جسمه بالحمى . كذلك يصاب الحيوان بالحمى إذا ترك القراد على جسمه رفاتا ليدفأ ويتغذى . كذلك هم فقسوا القراد من بيضه ، ثم أوشوه صغيرا بالماء ، من حيوانات بأجسامها الوباء ، وأثبتوا تلك الحقائق مرارا وتكرارا .
والآن اقرأ
فى أواخر خريف عام ١٩٢٣ رجع (( اسبنسر )) إلى وشتجتن ، إلى ذلك البيت الأحمر فوق ذلك التل المشرف على النهر ، إلى موطن تلك العصابة الأول الذى منه يشخصون وإليه يعودون . وحمل معه أحقاقا تحتوى
بضعا من أجناس مختلفة تحمل الشر من القراد . وإن شئت اسمها العلمى الضخم فاعلم انه (( درماسنتور أندرسونى )) Dermacentor andersoni . ولكن ما عليك به وبلاتينيته . وفى هذا البيت الأحمر لقى (( اسبنسر )) مدير (( مكوى )) Mc Coy ، ولقى ذاك الرجل المحنك (( إيدى فرنسيس )) Eddie Francis ولقى العالم (( موسى جلدبرجر )) Goldberger . وقد تحسب أنه أتى لهم بأخبار ذاك الوادى المخوف ، وادى (( بطروط )) ، فحكى لهم ما يجرى فيه من أحداث رائعة مريعة ؛ وقد تحسب أنه تفنن فى حكاية ذلك ، وأنه بالغ فيها فتزيد وأطال ليثير فى أنفسهم الخوف ويكتسب منهم الإعجاب . فاعلم أن شيئا من هذا لم يحدث . وما كان لشىء من هذا ليحكى لقوم عركوا الدهر ، وشربوا المر ، ومارسوا التجارب زمانا فذاقوا شهدها ، والتسعوا بإثرها ، حتى صارت المخاطر عندهم عادة ، وصار الموت مألوفا مرتقبا . واطلعوا على ما جاء به (( اسبنسر )) من قراد يحمل الشر كاشرا ، فما تحركوا له ، حتى ولا لتلك المجموعة فى تلك الأحقاق التى رقمها فأسماها (( مجموعة ٢٣٥١ ب )) .
بقى (( بركر )) ببلدة (( هملتن )) فى دار تلك المدرسة العتيقة ، وقد غطتها ثلوج الشتاء ، يقوم بإدارة ذاك المعمل مكان (( اسبنسر )) . ورحل (( اسبنسر )) إلى (( وشتجتن )) . واخذ الرجلان ، هذا مشرق وهذا مغرب ، يقومان بنفس التجارب فى نفس الزمان وفى غير المكان .
وكان (( بركر )) ولاد قراد ، فهو يستطيع أن يخبرك عن أى سلالة من هذا القراد كيف نشئت ، ومن كان أجدادها ، وما أحسابها وأنسابها . ومهر حتى صار يجعل القراد يصنع فى المعمل ما شاء الخالق سبحانه أنه يصنعه وهو فى الطبيعة طليقا حرا وحط (( اسبنسر )) بضاعته فى حجرة ذات رائحة من ذلك
البيت الأحمر العتيق ، وأخذ يفك أحقاق تلك المجموعة من القراد ، مجموعة ٢٣٥١ ب ، وهى مجموعة رباها من ساعة ما انفقست عن قراد صغير برىء لا يؤيه له ، حتى صارت قرادا بالغا يؤيه له ويخاف لأن الوباء أدخل فيه .
وكان (( اسبنسر )) قد أبقى هذا القراد الضامر المفرطح الذى لا دم فيه ، قراد مجموعة ٢٣٥١ ب ، أبقاه فى ثلاجة مائة واثنى عشر يوما لينام كما ينام شتاءه بين الثلوج فى وادى (( بطروط )) بولاية (( منتانا )) . واليوم حل يناير ، فأخرجها (( اسبنسر )) من أحقاقها ، فظلت راقدة على منضدة المعمل دقيقة ذابلة متقوسة لا تتحرك لها رجل واحدة ، فكأنما نزل الموت بها . وكان قد مضى ستة أشهر على رضعها دم أرنب وبىء فى قفص من تلك الأقفاص التى حزموها وزموها فى أقمشة بيضاء .
وسحق (( اسبنسر )) اثنتين من هذا القراد البرىء المظهر ، سحقهما فى ماء بملح ، وحقن مرقهما فى زوج من الخنازير القينية . وبالطبع كان الوباء نائما فى القراد ، فلم يحدث للخنازير شئ إلا أن تكون ماتت وانتفضت وزاطت ، وبقيت من بعد ذلك تهنأ بالصحة والسلامة .
كان هذا يناير . . . . أى أنه الشتاء . ولكن (( اسبنسر )) أراد أن يصطنع لها الربيع اصطناعا . فأخذ الثنتين آخريين من هذا القراد البرىء الضامر ، ذى الوباء النائم ، من المجموعة ٢٣٥١ ب ، فأدفأهما فى مدفأة ذات حرارة كحرارة جسم الإنسان . وما انتهى النهار حتى رآهما يحركان أرجلهما الثمانية ، يستيقظان من سبات الشتاء استيقاظا غريبا مدهشا ، فأخذهما فسحقهما فى الماء ذى الملح ، كما فعل بسابقتيهما ، ثم حقن سائلهما فى خنزيرين غينبين . فما الذى حدث من ذلك ؟
حدث أن هذين الخنزيرين الشقيبين ظهرت فيهما أعراض الحمى . إذن فمجرد تدفئة هذا القراد الوبئ
الضامر تكفى لإيقاظ الوباء فيه .
عندئذ أعاد (( اسبنسر )) التجربة ، فأدفأ قرادات من نفس المجموعة فى المدفأة حتى حركت أرجلها دليل اليقظة ، ولكن بدل أن يسحقها ويحقن ماءها ، وضعها حية كما هى على بطون مخلوقة لأربعة من الخنازير سليمة .
وشربت القرادات من دم هذه البطون حتى امتلأت واكتظت ، فجاءها (( اسبنسر )) بعد ثلاثة أيام ينترعها من بطون هذه الخنازرير وقد أخذ المرض يميل بها . وأمسك القرادة من بعد القرادة بملقط ، وشقها بمشرط صغير ، فانبجس الدم وتطاير منها . قال (( اسبنسر )) : (( نعم ، وقد نال هذا الدم وجهى مرة برشاشه )) .
وسحق (( اسبنسر )) هذه القرادات بدمها حتى جعل منها شيئا مخيفا لا يطمئن لمنظره ناظره .
وحقن هذا الشئ الثخين فى خنازير غينية سليمة . وعاد إليها بعد خمسة أيام فى تلك الحجرة الصغيرة فى هذا البيت الأحمر ، فرأى عجبا . رأى تلك الخنازير واقعة على جنوبها وهى تلهث وتموت . لقد فعل فيها الداء فعلته فى نصف المدة التى اعتادها للقضاء على حيوان . فهذه قوة للشر جديدة فى هذا الوباء الحى لهذه الحمى لم يعهدها أحد قط من قبل ذلك .
كان فى القرادة الواحدة من هذه القرادات من السم ما يكفى لقتل ثلاثة آلاف خنزير . فهذه القرادات كان الجرام منها يحتوى مائة قرادة . ولم يكن الجرام من الدم الوبئ ( الذى حفظ وباؤه فى سلسلة متصلة من الخنازير ) ليقتل أكثر من ألف خنزير . ولكن الجرام من سحيق هذه القرادات الجديدة ، قرادات المجموعة ٢٣٥١ ب ، كان يقضى على ثلاثمائة ألف خنزير ...
أفبعد هذا لا تأذن لاسبنسر أن يقشعر ظهره ويثلج بعض الشئ من جزع كلما فكر فى هذا القراد وما احتواه ، وذكر أنه هو الذى نشأه على جهل به
ورباه ، فى ذاك المعمل البعيد بمدينة (( هملتن )) عند ذاك الوادى الوبئ ، وادى (( بطروط)) !! إنه لم يطلع على قوة هذا القراد الذى فقس ، وكنه هذا السم الذى اصطنع ، حتى خفقه ووزنه وقدر ما يحقن منه فى كل مرة ، ثم أخذ ينقص هذا المقدار المرة بعد المرة ، والخنازير تظل تموت على الرغم من صغر المقدار الذى دخل فيها . وحتى بعد هذا خفيت عنه حقيقة اخرى أشد إفزاعا :
أن الوباء الذى يعطيه القراد بإرضاعه رضعة من حيوان وبىء أشد فتكا من الوباء الذى يحفظه فى أجسام الخنازير ناقلا إياه من خنزير لخنزير . ولكن شر من هذا وأن هذا الوباء القرادى الفتاك يستطيع أن يدخل الأجسام عن طريق جلودها وهى سليمة غير مجروحة ولا مقطوعة !
وبقى (( اسبنسر )) سعيدا فى جهالته . وجلس ساهما يفكر فيما بين يديه من سجلات خط فيها ما خط عن تلك المجموعة الكبيرة الذاهبة من الخنازير الغينية التى أطاحتها تلك انجموعة الفتاكة من القراد ، مجموعة ٢٣٥١ ب . وبيمنا هو فى تفكيره خطرت له خاطرة سريعة كبارقة فى سحاب ...
خطر له أن يصنع طعما تتحصن به من الداء أجسام الأصحاء ! ولم لا ؟ وهل يمنع من هذا أن أحدا قط لم ير بعينيه مكروب هذه الحمى ؟ وهل يمنع من هذا أن أحدا قط لم يزرع هذا المكروب كما تزرع المكاريب فى أنبوبة اختبار ؟ بل لقد زرعوها . نعم زرعوها ، ولكن فى غير أنابيب من زجاج . زرعوها فى القراد ، ونقلوها وضعفوها أضعافا مضاعفة فى القراد . فالقراد أنابيبها ، وإن تكن من غير زجاج .
ويحل الربيع ، ربيع عام ١٩٢٤ ، فيودع (( اسبنسر )) أصحابه ، أصحاب البيت الأحمر وشيوخه المحنكين . ويرجع مسرعا إلى ولاية (( منتانا )) , إلى صاحبه (( بركر )) ،
إلى ذلك المعمل أو تلك المدرسة العتيفة على مقربة من بلدة (( هملتن )) . ورجع وقد تعلم أن الوباء الذى ينقلونه إلى القراد اصطناعا ، ويربونه فيه ، أخطر عليهم كثيرا من القراد الذى ينال الناس فيعضهم فى الطبيعة . ورجع وقد تعلم ايضا لم يذهب الكثير من الناس إلى تلك الوديان الوبيئة ، فيعضهم القراد فيها ، ومع هذا يسلمون . لأن القراد لا بد له من البقاء على جلود هؤلاء الناس ساعات وأياما ، لا بد له من مص دمائهم طويلا ليستيقظ الوباء فيه فيقتل .
ولكن ليس هذا ما شغل باله وملك عليه فكره . وإنما الذى شغله وملكه رأى جديد اسرع به إلى (( بركر )) . وكان رأيا ظاهره سخيف . أن يقلب هذا القراد من شئ فتاك إلى طعم واق . ولم لا ؟ ألم يرب هذا الوباء الضخم فى تلك المجموعة من القراد ، مجموعة ٢٣٥١ ب ، ورباه فتاكا قتالا ، بتلك الوسيلة البسيطة التى هى إرضاعه ثلاثة أيام من دم خنازير ؟ .. وإذن فلم لا يعجن هذا القراد بعضه فى بعض ، ويسحقه ، ثم يضع عليه قليلا من المطهر المعروف ، من الفينول مخففا ، ثم
... وعندئذ ربما ...
على أن (( اسبنسر )) بنى هذه الفكرة الجامحة على أساس علمى . ففى هذه السنة نفسها كان (( برينل )) Breinl و (( أستريان )) Austrian ، قد نجحا فى حماية الخنازير الغينية من التيفوس بحقنها بقمل فيه وباء التيفوس بعد أن غمسوه فى محلول من الفينول . وبالطبع لا يستطيع أحد أن يجد من القمل كفاية لتحصين البالغين من الرجال , فالتجربة كانت تجربة علمية بحتة لا يمكن تطبيقها فى الحياة . وقبل هذين الرجلين كان العالم المكروبى (( ريكتس )) , قبل ذهابه إلى المكسيك ليكافح التيفوس المكسيكى فينكفح به ، كان قد حمى خنزيزا غينيا من هذه الحمى المبقعة بحقنه بمسحوق قرادة وبيئة غمسها فى سائل الكلوروفورم . ولكن (( ريكتس )) لم يعش ليحقق لنفسه أن هذه
التجربة لم تكن فلتة واحدة من فلتات التجارب ومصادفة من مصادفاتها .
عاد (( اسبنسر )) إلى معمله ، إلى دار تلك المدرسة العتيقة ، يتحرق إلى إنقاذ ما اختطه من صنع هذا الطعم . وقد كان فى العلم أسباب وجيهة يرتكز عليها المرتكز لتسخيف الفكرة التى تريد أن تستخدم هذا المطهر ، هذا الفينول - أو حامض الفينيك على ما هو معروف به مشهور - لقلب مكروب الداء ، من سبب إلى الحمى إلى سبب للتحصن دونها ، فقد علم (( اسبنسر )) و (( بركر )) كلاهما أن وباء هذه الحمى فى دم الخنازير الوبيئة يقتل فتنعدم آثاره إذا اضيف مطهر إلى هذا الدم ، أو إذا هو سخن تسخينا ، وهى من بعد ذلك لا يحصن الحيوان من الداء أبدا .
قال (( اسبنسر )) وهو يجادل نفسه : (( ولكن صبرا . إن الوباء الذى ينمو فى القراد قد يختلف عن هذا الذى ينمو فى الخنازير . أفليس من الحق أن هذا القراد المفرطح الضامر الذى جمعوه من الشجر فسحقوه فحقنوه فى الخنازير كان يقيها أحيانا من إصابة أخرى بالحمى ؟ !
وحتى لو سلمنا بهذا ، فالفكرة غير معقولة ولا مقبولة . فأنت لا تستطيع أن تغرى الناس بأن تحقن بهذا المزيج المقزز من القراد وحامض الفينيك . وهب أنك أغريتهم ، فأنى لك بهذا القدر من القراد الذى يكفى لتطعيم كل من يخشى عليه من مقاربة الداء ، من رعاة بقر ورعاة أغنام ، ومن صيادين ، ومن كل رجل من رجال الشمال الغربى من الولايات المتحدة يذهب إلى ذلك الوادى الوبئ الجميل ، وادى (( بطروط )) وفاء بواجب ، أو استجابة لهوى .
ومضى أسبوع فإذا باسبنسر وبكل هذه الجماعة غارقة إلى أذقانها فى هذه التجربة الجديدة الغريبة - فى صناعة هذا الطعم الواقى .
(يتبع)
