الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 255الرجوع إلى "الثقافة"

عصابة البيت الأحمر

Share

شر فى القراد    خاتمة

جاء من بعد هذه السنوات المضنية التى قضتها هذه الفئة من العلماء فى ذلك العمل ، فى تلك المدرسة العتيقة ، سنوات خيرة سعيدة . إلا أن حكاية ما جرى فيها مفصلا يمل القارئ ، لأن فيها إحصاء كثيرا ، لهذا نختصرها اختصارا .

فمن عام ١٩٠٢ إلى عام ١٩٣٠ بلغ عدد البحاث الذين اشتغلوا بهذه الحمى خمسة وسبعين ، يدخل فى هذا العدد عمال المعمل وأعوانه . وفى هذه الفترة من الزمن أصيب بهذه الحمى من هؤلاء ستة لم يلقحوا باللقاح الواقى . ومات الستة أجمعون .

ومنذ ما ابتدع ( أسبنسر ) لقاحة الواقى ، أى منذ ذاك اليوم من مايو عام ١٩٢٤ ، يوم لقح هو نفسه أول ملقح باللقاح ، أصيب من أعوانه ثمانية ، فأحسوا الألم فى عظامهم ، وظهرت البقع على أجسامهم . وكانوا لقحوا جميعا ، فلم يمت من هؤلاء الثمانية غير واحد ، هو باحث المكروب كرلى Kerlee ، فذهب عنهم ليلحق برفاقه الذين سبقوا - ليلحق (( بجاتنجر )) و (( كاوان )) وسائر من مضى .

إن من العجب المعجب أن يغلب هذا اللقاح هذا الداء الفظيع الجامح الذى لا يكاد ينجو منه أحد ، إلى داء طيع لا يكاد يزيد على داء الحصبة سوءا .

قبل (( اسبنسر )) لم يصب الداء رجلا فوق السنين إلا قضى عليه .

ولكن بعد أن أصيب (( كاوان )) بالحمى ، وقضى بها ،

فهرع رجال المعمل من أكابر وأصاغر على أثر موته إلى اللقاح يصبونه فى جلودهم صبا ؛ أصابت الحمى بواب المعمل ، وكان رجلا شيخا ، ولكنها أصابته خفيفة هينة ، وظهرت البقع على جسمه ولكنها لم تسود ، ووجهه لم تظهر عليه مظاهر الخوف والفزع . وكان فى جملته كالطفل الذى أصيب بالجدرى الكاذب .

ولقد نذكر ما كان عليه سكان بلدة (( هملتن )) , وسكان هذا الوادى البديع وادى (( بطروط )) وهم خمسة عشر ألف نفر يطفو عليهم البشر وتملؤهم الغبطة ؛ لقد تذكر ما كانوا عليه من قبلة مبالاة بتلك الحمى ، ومن التهوين من شأنها لحاجة فى نفوسهم . واليوم تعجب لهؤلاء القوم كيف أنقلبوا ، وانقلب تهوينهم  إكبارا لهذه الحمى وذعرا منها ، فلا يخرج الخارج منهم إلى هذا الوادى ، وما تضمن من شعاب ، حتى يصيح فى طلب اللقاح الواقى .

وفى أربعة أعوام أصابت الحمى ثمانية عشر شخصا ممن لم يلقحوا باللقاح الواقى ، إما عن سخف أو عن جهالة ، مات منهم خمسة عشر .

وإذا نحن صرفنا النظر عن رجال المعمل وما تعرضوا له عن قرب من أخطار الداء ، وجدنا فيمن لقحوا من رجال الجبل ثلاثة أصابتهم الحمى . فهؤلاء لم يمت منهم رجل واحد .

وعلى مقربة من بلدة ترموبوليس ( وأظن معناها المدينة الساخنة ) ، فى ولاية وايمونج Wyoming ، توجد بقعة على مقربة من كربى كريك Kirby creek ، بها الحمى المبقعة شديدة كما هى فى وادى (( بطروط )) .

فقبل مجئ (( اسبنسر )) لم يصب راع من رعاة تلك البقعة اللعينة بالحمى إلا قضى بها . ومات بها فى مخيم واحد أربعة رجال فى عامين  وفى ثلاثة أعوام أصيب بها سبعة لم ينج منهم غير اثنين . . .

وهذان الاثنان كانا قد لقحا باللقاح الواقى

وفى الجنوب من ولاية (( إيداهو )) Idaho ، بين نهر اسناك snake وجبال سوتوث sawtooth ، توجد الحمى المبقعة على صورة هادئة غير عنيفة ، فهى لا تقتل إلا خمسة من كل مائة من مصابها . ففى هذه الجهة من الولاية لقح (( اسبنسر )) و (( بركر )) ألوفا من رجالها ممن ضايقهم القراد شر مضايقة .

فمن هؤلاء الآلاف لم يصب بالداء غير واحد ، وأصابه هينا ، وكان لم يلقح باللقاح الواقى غير لقحة واحدة . أما الذين لم يلقحوا أبدا فكثير منهم أصابته  الحمى . . .

فمن هذا القراد الذى يملؤه الموت ، استخرج (( اسبنسر )) وصاحبه (( بركر )) إكسيرا من أكاسير الحياة .

واليوم صار هذا الإكسير يطلب فى وادى (( بطروط )) بكثرة حدت بمجلس الكنجرس أن يخصص اعتمادا عاليا كبيرا لبناء معمل فخم لصناعة هذا اللقاح مكان ذاك العمل القديم ، تلك المدرسة العتيقة التى فشا فيها القراد فشوا كبيرا .

لقد بدأ هذان الرجلان هذه المغامرة العلمية يطلبون شيئا جليلا ، على أمل قليل ، وانتهوا منها بشىء ذى بال . وعلى ما أعلم لم تطلب الحكومة من البرلمان اعتمادا ماليا لأيهما على سبيل المكافأة ، أو لأحد من أهوائهم ، أولئك العباقرة الذين حذقوا التجريب حتى لا يتسن لهم فيه غبار . وما كان للحكومة أن تطلب .

أى والله ما كان للحكومة أن تطلب مكافأة لهذين أو أولئك . فماذا صنعوا سوى انهم عرضوا حياتهم إلى المخاطر فى سبيل وغاية أرواح قليلة لقوم لا هم فى العبر ولا فى النفير .

ويتساءل المرء عن زوجاتهم وأولادهم ، هل رتبت لهم الحكومة شيئا يرجعون إليه إذا طاحت الطوائح بأزواجهم وآبائهم ؟ والجواب أنه لا حاجة بهم أن ترتب

الحكومة لهم شيئا كهذا ، لسببين : أولهما أن اللقاح أصبح واقيا لهم من العدوى ؛ وثانيهما أن هؤلاء الرجال نجحوا أخيرا فى صناعة اللقاح ، لا من القراد الصغير المفقس من البيض ، بل من القراد الكبير البالغ . فأصبح أمر الوقاية سهلا ميسورا .

وعلى ما أحسب لا يزال هذان الرجلان - اسبنسر وبركر - يؤمنان على حياتهما بمبالغ كبيرة .

وبالطبع يكلفهم هذا التأمين أقساطا ثقيلة يدفعونها . ولكن من ذا الذى لا يدفع ثمنا طيبا للذة التى يجنيها باشتباكه والقراد فى معركة غريبة عنيفة كهذه ، ثم لخروجه منها فائزا منصورا ليحتل مكانه فى جنة الخلد ، فى ذلك الجانب الذى اختص به من حاربوا الموت وأسباب الموت فى هذه الحياة الدنيا .

انتهى

اشترك في نشرتنا البريدية