شر فى القراد خاتمة
جاء من بعد هذه السنوات المضنية التى قضتها هذه الفئة من العلماء فى ذلك العمل ، فى تلك المدرسة العتيقة ، سنوات خيرة سعيدة . إلا أن حكاية ما جرى فيها مفصلا يمل القارئ ، لأن فيها إحصاء كثيرا ، لهذا نختصرها اختصارا .
فمن عام ١٩٠٢ إلى عام ١٩٣٠ بلغ عدد البحاث الذين اشتغلوا بهذه الحمى خمسة وسبعين ، يدخل فى هذا العدد عمال المعمل وأعوانه . وفى هذه الفترة من الزمن أصيب بهذه الحمى من هؤلاء ستة لم يلقحوا باللقاح الواقى . ومات الستة أجمعون .
ومنذ ما ابتدع ( أسبنسر ) لقاحة الواقى ، أى منذ ذاك اليوم من مايو عام ١٩٢٤ ، يوم لقح هو نفسه أول ملقح باللقاح ، أصيب من أعوانه ثمانية ، فأحسوا الألم فى عظامهم ، وظهرت البقع على أجسامهم . وكانوا لقحوا جميعا ، فلم يمت من هؤلاء الثمانية غير واحد ، هو باحث المكروب كرلى Kerlee ، فذهب عنهم ليلحق برفاقه الذين سبقوا - ليلحق (( بجاتنجر )) و (( كاوان )) وسائر من مضى .
إن من العجب المعجب أن يغلب هذا اللقاح هذا الداء الفظيع الجامح الذى لا يكاد ينجو منه أحد ، إلى داء طيع لا يكاد يزيد على داء الحصبة سوءا .
قبل (( اسبنسر )) لم يصب الداء رجلا فوق السنين إلا قضى عليه .
ولكن بعد أن أصيب (( كاوان )) بالحمى ، وقضى بها ،
فهرع رجال المعمل من أكابر وأصاغر على أثر موته إلى اللقاح يصبونه فى جلودهم صبا ؛ أصابت الحمى بواب المعمل ، وكان رجلا شيخا ، ولكنها أصابته خفيفة هينة ، وظهرت البقع على جسمه ولكنها لم تسود ، ووجهه لم تظهر عليه مظاهر الخوف والفزع . وكان فى جملته كالطفل الذى أصيب بالجدرى الكاذب .
ولقد نذكر ما كان عليه سكان بلدة (( هملتن )) , وسكان هذا الوادى البديع وادى (( بطروط )) وهم خمسة عشر ألف نفر يطفو عليهم البشر وتملؤهم الغبطة ؛ لقد تذكر ما كانوا عليه من قبلة مبالاة بتلك الحمى ، ومن التهوين من شأنها لحاجة فى نفوسهم . واليوم تعجب لهؤلاء القوم كيف أنقلبوا ، وانقلب تهوينهم إكبارا لهذه الحمى وذعرا منها ، فلا يخرج الخارج منهم إلى هذا الوادى ، وما تضمن من شعاب ، حتى يصيح فى طلب اللقاح الواقى .
وفى أربعة أعوام أصابت الحمى ثمانية عشر شخصا ممن لم يلقحوا باللقاح الواقى ، إما عن سخف أو عن جهالة ، مات منهم خمسة عشر .
وإذا نحن صرفنا النظر عن رجال المعمل وما تعرضوا له عن قرب من أخطار الداء ، وجدنا فيمن لقحوا من رجال الجبل ثلاثة أصابتهم الحمى . فهؤلاء لم يمت منهم رجل واحد .
وعلى مقربة من بلدة ترموبوليس ( وأظن معناها المدينة الساخنة ) ، فى ولاية وايمونج Wyoming ، توجد بقعة على مقربة من كربى كريك Kirby creek ، بها الحمى المبقعة شديدة كما هى فى وادى (( بطروط )) .
فقبل مجئ (( اسبنسر )) لم يصب راع من رعاة تلك البقعة اللعينة بالحمى إلا قضى بها . ومات بها فى مخيم واحد أربعة رجال فى عامين وفى ثلاثة أعوام أصيب بها سبعة لم ينج منهم غير اثنين . . .
وهذان الاثنان كانا قد لقحا باللقاح الواقى
وفى الجنوب من ولاية (( إيداهو )) Idaho ، بين نهر اسناك snake وجبال سوتوث sawtooth ، توجد الحمى المبقعة على صورة هادئة غير عنيفة ، فهى لا تقتل إلا خمسة من كل مائة من مصابها . ففى هذه الجهة من الولاية لقح (( اسبنسر )) و (( بركر )) ألوفا من رجالها ممن ضايقهم القراد شر مضايقة .
فمن هؤلاء الآلاف لم يصب بالداء غير واحد ، وأصابه هينا ، وكان لم يلقح باللقاح الواقى غير لقحة واحدة . أما الذين لم يلقحوا أبدا فكثير منهم أصابته الحمى . . .
فمن هذا القراد الذى يملؤه الموت ، استخرج (( اسبنسر )) وصاحبه (( بركر )) إكسيرا من أكاسير الحياة .
واليوم صار هذا الإكسير يطلب فى وادى (( بطروط )) بكثرة حدت بمجلس الكنجرس أن يخصص اعتمادا عاليا كبيرا لبناء معمل فخم لصناعة هذا اللقاح مكان ذاك العمل القديم ، تلك المدرسة العتيقة التى فشا فيها القراد فشوا كبيرا .
لقد بدأ هذان الرجلان هذه المغامرة العلمية يطلبون شيئا جليلا ، على أمل قليل ، وانتهوا منها بشىء ذى بال . وعلى ما أعلم لم تطلب الحكومة من البرلمان اعتمادا ماليا لأيهما على سبيل المكافأة ، أو لأحد من أهوائهم ، أولئك العباقرة الذين حذقوا التجريب حتى لا يتسن لهم فيه غبار . وما كان للحكومة أن تطلب .
أى والله ما كان للحكومة أن تطلب مكافأة لهذين أو أولئك . فماذا صنعوا سوى انهم عرضوا حياتهم إلى المخاطر فى سبيل وغاية أرواح قليلة لقوم لا هم فى العبر ولا فى النفير .
ويتساءل المرء عن زوجاتهم وأولادهم ، هل رتبت لهم الحكومة شيئا يرجعون إليه إذا طاحت الطوائح بأزواجهم وآبائهم ؟ والجواب أنه لا حاجة بهم أن ترتب
الحكومة لهم شيئا كهذا ، لسببين : أولهما أن اللقاح أصبح واقيا لهم من العدوى ؛ وثانيهما أن هؤلاء الرجال نجحوا أخيرا فى صناعة اللقاح ، لا من القراد الصغير المفقس من البيض ، بل من القراد الكبير البالغ . فأصبح أمر الوقاية سهلا ميسورا .
وعلى ما أحسب لا يزال هذان الرجلان - اسبنسر وبركر - يؤمنان على حياتهما بمبالغ كبيرة .
وبالطبع يكلفهم هذا التأمين أقساطا ثقيلة يدفعونها . ولكن من ذا الذى لا يدفع ثمنا طيبا للذة التى يجنيها باشتباكه والقراد فى معركة غريبة عنيفة كهذه ، ثم لخروجه منها فائزا منصورا ليحتل مكانه فى جنة الخلد ، فى ذلك الجانب الذى اختص به من حاربوا الموت وأسباب الموت فى هذه الحياة الدنيا .
انتهى

